“الخَيْبَة السِّياسِيَّة”

Views: 748

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس ندوة العمل الوطني)

 

إنَّ خيبة الأمل،أمرٌ مألوفٌ في الحياة السَّياسيَّةِ، بشكلٍ عامٍّ؛ ولعلَّ كثيراً من النَّاس اعتادوا معاناةَ الإحباطِ السِّياسِي، نتيجةَ فاعليَّةٍ سِياسِيَّةٍ ما، تُهَيْمِنُ على بيئاتِ مجتمعاتهم؛ أكثرَ بكثيرٍ مِن الآمالِ، التي يُمكن لها أنْ تكونَ قد تَحَقَّقت عَبْرَ تلكَ الفاعليَّة.ومِمَّا لا خلافَ فيهِ، أنَّ المَرْحَلَةَ الرَّاهِنَةَ،َ التي تَعيشُها اليوم، كثرةٌ غالبةٌ مِن اللُّبنانيين، معاناةً ومعاينةً،  تُشيرُ، بوضوحٍ صارخٍ، إلى أنَّها زَمَنُ استياءٍ عميقٍ ومفجعٍ، مِن فاعليَّةٍ سِّياسيَّةٍ، ما انْفَكَّت تَتَحكَّمُّ بمصائرهم؛ في حينِ أنَّ ذلك الاستياء، وهذه الفجيعة، قَدْ أَوْصلا هؤلاءِ اللُّبنانيين إلى ازْدِراءٍ مَفْجُوعٍ ومُرٍّ لِكَثيرٍ مِن السِّياسيين؛ ولربَّما إلى ما يُمْكِنُ اعتبارُه يَأساً مُسْتَبِدَّاً عاصِفاً مِن جَدوى العملِ السِّياسي العام في لبنان.

واقعُ الحالِ، ثمَّة سببٌ بَيِّنٌ للشَّكِّ في فكرة أنَّما قد يُعانِيِهِ، هؤلاء اللُّبنانيون، أو يُعايِنُوهُ، مِن “فجيعةٍ”خائبةٍ مُحْبِطَةٍ، مِن السِّياسةِ العامَّةِ المُسيطرةِ على بَلَدِهِم، ومِن السَّياسيَّين المُتَمَكِّنينَ مِن رِقابهم، لَيْسَ بجديدٍ، أو فريدٍ مِن نَوْعِهِ، في لبنان فَقَط؛ فالأمرُ، بكلِّيَّتهِ، ظاهرةٌ مألوفةٌ، عَبْرَ حقبٍ مَديدةٍ مِن تاريخِ كثيرٍ مِن الحكوماتِ في العالم، ومع شُعوبٍ وجماعاتٍ عديدةٍ، مِن المُعايشينَ لِسُلْطَةِ القرارِ السِّياسيِّ وأحكامَه.

حَظِيَ الشُّعورُ بازدراءِ السِّياسةِ، باهتمامٍ عديدٍ وافِرٍ مِن الدِّراساتِ الجِدِّيَّةِ المعاصِرَةِ؛ والتي سعى أصحابُ بعضِها، إمَّا إلى الدِّفاعِ عنِ السِّياسةِ،في وَجْهِ مُنتقديها؛ أو إنَّ بعضَهم الآخر، قدَّمَ اقتراحاتٍ، تناولت تصوُّراتٍ ما، لإصلاحاتٍ مؤسَّسِيَّةٍ أو ثقافِيَّةٍ، يَرونَ أنَّها قادرةٌ على تأمينِ مساعدةٍ، نفسيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ، معقولةٍ،للتَّقليلِ مِنْ خيبةِ الأملِ الحاصلةِ، جرَّاءَ فاعِلِيَّة سياسيَّةٍ ما.

ليسَ البحثُ في إصلاحاتٍ سياسيَّةٍ محدَّدة، ولا السَّعيُّ إلى محاولةٍ ما لِتَقَبُّلِ خيبة أمل معيَّنة من الواقع السِّياسي الرَّاهن في لبنان، من أهداف العمل على هذه الورقة. يَنْصَبُّ الاهتمامُ الرَّئيسُ، ههنا، على محاولةٍ لِفَهْمِ حقيقةِ السِّياسةِ؛ وهو الأمرُ الذي يمكن أنْ يُساعد، تالياً، على إعادة النَّظرِفي بعض جوانب طبيعة السِّياسةِ، بحدِّ ذاتِها؛ ولربما يكونُ مُمْكِنَاً، عندئذٍ، فَهْمُ حقيقةِ أزمة خيبة الأمل المجتمعي من الحياة السِّياسيَّة العامَّة في لبنان؛ أو، حتَّى، البحثُ الرَّصينُ في طبيعتها. واقعُ الحالِ، لقد باتت هذهِ الخيبةُ تُعتبرُ، حتَّى بِنَظَرِ كثيرٍ مِن المراقبين الدَّوليين، سِمَةً حتميَّةً للحياةِ السِّياسيَّةِ في هذا البَلَد.

رينهود نيبور

 

لَئِنْ كانَ، وَوِفاقاً لِما يورده، الباحِثُ الأميركي في الأخلاقِيَّات (Ethics) والمعلِّق على السَّياسة والشُّؤون العامَّة، رينهود نيبورReinhold Niebuhr (1971-1892)، مِن أنَّ ثمَّة “إمكانِيَّاتٍ، لِكُلِّ نضالٍ بشري؛ لا بُدَّ من أخْذِ موضوعيٍّ لمحدوديَّاتِها بعين الاعْتِبارِ”(Niebuhr:133)؛  فإنَّ هذا الأمرَ قد يكون صَحيحاً،وبشكلٍ واضحٍ، في المَجال السَّياسي أيضاً.

إنَّ حدودَ السِّياسةِ، ونظراً إلى الظُّروفِ التي تجري فيها، شديدةَ التَّغيُّرِ والتَّبَدُّلِ والتَّقَلُّبِ؛ وتكونُ المُحَصَّلَةُ الأساسُ، مِن هذا الحالِ، أنَّ تظَلَّ خيبةُ الأملِ السِّياسيَّةِ، أمرًا مُرْتَقَباً؛ بل إنَّها قد تُعَدُّ، في أحيانٍ كثيرةٍ، أمراً لا بدَّ مِنْ حصولِهِ، جَرَّاء ما يُمكن أنْ تشهدَهُ السِّياسةُ من تقلُّباتٍ، رغم ما يمكن أن تكون فيه مِن مساراتٍ القبول أو حتَّى النَّجاح. ولعلَّ في التَّعمُّقِ العَمَليِّ، في مراقبةِ هذا الفَهمِ لطبيعةِ وجودِ السِّياسَةِ، ما يُبَيِّنُ واقعِيَةَ هذه التَّداعياتِ، من جهةٍ، ويوضِّحُ، مِن جهةٍ أُخرى، كيفيَّةً ما لِفَهْمِ واقِعِ حضورِ خيبةِ الأملِ ضمن مجالاتِ العملِ السِّياسي.

لعلَّ النَّظرَ في طبيعةِ الواقِعِ العمليِّ للشَّأنِ السِّياسيِّ، على أُسُسٍ أكثر ثباتًا في تَجَذُّرِها الموضوعيِّ الفاعِلِ، وارتكازاً إلى الاستقرارِ التَّاريخيِّ العريقِ لِأصالَةِ حضورِها، بعيداً عن كَثيرٍ مِن الاعتباراتِ الانفعالِيَّةِ البحتةِ؛ قد يُساعِدُ في الكَشْفِ عن ضرورةِ توجُّهٍ موضوعيٍّ لِعَدَمِ توقُّعٍ الكثيرِ مِمَّا يُمكن للسِّياسةِ أنْ تقدِّمهُ على صعيد “المَثَلِ الأعلى”، أو “الصَّالِحِ العام”، الذي يكون الطَّموحُ العام باتِّجاهه؛ ومِنْ دونِ أنْ يكونَ ثمَّة ردَّة فِعْلٍ باستسلامٍ ما إلى سلبيَّات خيبة الأمل السِّياسيَّة. يمكنُ، تالياً، وضعَ هذا “النَّظر”، ضمن منطلقات، قد يكون من أبرزها:

أوَّلاً: التَّصَوُّر السَّائدُ لواقع الممارسة السِّياسيَّة

إنَّ واقع المُمارسةِ السِّياسيَّةِ في لبنان، ما برحَ يضجُّ بغزيرٍ شديد الشُّيوعِ والانتشارِ، هَمْساً وجَهْراً، بَياناً وتَلْميحاً، عن فضائحَ ماليَّةٍ متواصلةِ، لكثيرٍ مِن السِّياسيين اللُّبنانيين؛ فضلاً عن ما يُثارُ، باستمرارٍ مُتَشَبِّثٍ ومُتَشِدِّدٍ، مِن أقوالٍ وأخبارٍ عن إساءةٍ طاغِيَّةٍ للأفرادٍ ومجموعاتٍ مِن أهلِ الحُكْمِ والقرارِ، في استخدامهم السَّلطة السِّياسية التي بين أيديهم. وقد يكون، في كلِّ هذا وأمثاله، ما يقود إلى الشَّكِّ في طبيعةِ الدَّوافع الشَّخصِيَّةِ، التي يعتمدها هؤلاء، لتولِّيهم المَنْصِبِ السِّياسي؛ إذْ هُم، كما قد يبدو، وعَوَضَ الاهتمامِ بالصَّالحِ العام، يهتمُّونَ بمكاسِبِهِم الخاصَّةِ، ويحفلون بالاستمتاعِ بِما يُبدى لَهُم مِن مرؤوسِيهِم، وبَعضِ جماهيرِ الشَّعبِ، من الاحترام المرتبط بطبيعةِ المنصبِ الذي يحتلُّون والتَّملُّق المصلَحِيِّ أو المذهبيِّ أو المناطِقِيِّ الذي يدَّعون إليهِ انتساباً؛ على حسابِ التزامهم بالصَّالح العام أو المَثَلِ الأعلى المفترض بهم العمل في سبيله.

ثانياً: الفاعليَّةُ المسيطرةُ للإراداتُ القيادِيَّة

يشهدُ تاريخ التَّمثيلُ السِّياسيُّ في لبنان، ومِن خِلالِ دوراتٍ نيابيَّةٍ عديدة، وعبر قراراتِ تعيينٍ تمثيليٍّ قياديٍّ لا ينتهي عدُّها، أنَّ  كثيرين قد وصلوا إلى دنيا السِّياسة، بمجرَّد إرادةٍ ما قرَّرت وصولهم؛ بعيداً عن أيِّ نظرٍ موضوعيٍّ في خبرة أيٍ منهم في تقدير الصعوبات التي يمكن أن تواجه الدَّولة، أو في معرفة الأساليب العلميَّةِ للتعاطي مع الشؤون السياسية، أو حتَّى مدى إمكاناتهم في مجالات التَّعاطف مع الجماهيرِ التي عليهم التَّواصل المباشِر معها.

ثالثاً: المسؤولِيَّةُ العامَّةُ

ثمَّةَ من يلومُ غالبيَّةَ مجموعات الشَّعبِ، على أنَّها لا تملك القدرة، أو ربَّما الرَّغبة، على القيامِ بما تَمُدُّها بهِ حقوقُها في المُواطًنَةِ؛ والعمل، تالياً، على تأكيدِ العدالةِ العامَّةِ في تعامل السُّلطاتِ كافَّةً مع الشَّعب؛ وهذه، بالمفاهيمِ الإنسانيَّةِ العامَّة، والتَّشريعات الدِّينيَّة المُقدَّسة، كما في الشَّرائعِ الحقوقيَّةِ الدَّوليَّةِ، ونُصوصِ الدُّستورِ اللُّبناني، هي الواجباتُ والحقوقُ الأساسُ لِتأمينِ ضمانِ وُجودِ سُلْطَةٍ سِياسيَّةٍ عادِلَةٍ، راعِيَّةٍ لِمصالِحِ الشَّعبِ الوَطَنيَّة.

رابعاً: البنية القائمةُ للنِّظامِ السِّياسي، وما تفرُزُهُ مِن مَفاهيم

ثمَّة مسؤوليَّةٌ، لا يجبُ إهمالُها، ولا يمكنُ التَّغاضي عن البحث الرَّصين والموضوعي المسؤول فيها؛ وهي تنبعُ من ما يُمكن أن يُسمَّى “هياكل الأنظمة السَّياسية”؛ إذ رغمَ أنَّ مبادئ الدِّمقراطيَّةِ ومفاهيمها العامَّة، هي المُعتمدَةُ، بالنَّصِّ الدُّستوريِّ الجَليِّ، في لبنان؛ فإنَّ كلُّ ما يردُ في هذا الدُّستورِ من موادٍ ومعاييرٍ، وما يمكن أن ينشأ عنها من أعمالٍ، يبقى مرتهناً، بحزمٍ، لما يردُ في البند “ي”، من مقدِّمةِ هذا الدُّستور، والتي تنصُّ على أنَّ “لا شرعيَّةَ لأيِّ سُلْطَةٍ تُناقِضُ ميثاقَ العَيْشِ المُشْتَرَكِ”. ولعلَّ بالإمكان الإشارة، ههنا، إلى أنَّ ثمَّةَ من أهل السِّياسةِ في لبنان، من يقرأ مصطلح العيش المشترك، على أنَّه العيشُ بينَ الطَّوائفِ الدِّينيَّةِ بمذاهبها المُتعدَّدة. ومن هُنا، فإنَّ عدداً من القياداتِ السياسيَّةِ والمتمكِّنينَ مِن السُّلطةِ، يَجِدُون في هذهِ القراءةِ، للبند “ي”، ملاذاً للنَّفاذِ إلى مآربَ عديدة لهم. ومِن الجَلِيِّ، أنَّ في هذا ما يُشكِّل طُغياناً لِما هُوَ سياسيٌّ، على ما هو “مِثالٌ أعلى”. ومِن هذا القبيلِ، وعلى سبيلِ التَّمثيلِ فقط، فإنَّ بعضَ الإداراتِ والمؤسِّساتِ، القائمةِ داخل النِّظام في لبنان، ما بَرِحَ القيِّمون عليها قادِرونَ على التَّجَنُّبِ العَمَليِّ للتَّدقيقِ المُحاسبي، الماليّ منه والإداري؛ بل إنَّ النَّظرَ في البحثِ الجِديِّ في جدوى المنفعةِ الوطنيَّةِ العامَّةِ، التي يجنيها الشَّعب من وجودِ الإداراتِ والمؤسِّساتِ، لا يَنْفَكُّ التَّعاملُ معهُ باقياً مِن الأمورِ التي يمكن إهمالُها وعدم العملِ؛ فتظلُّ، في هذه الحال، وجوداً قائِماً، وإنْ غابَت الحَقائِقُ الموضوعيَّةُ العَمَليَّةُ عنِ النَّفعِ العام لِفاعليَّةِ وجودِها.

إنَّ “خيبة الأمل”، واقعٌ دائمُ الإمكانِ في الشَّان السِّياسيِّ في لبنان؛ بحكم ما يتوافَّرُ لهذه “الخيبةِ” مِن عوامِل وجودٍ ترتكزُ إلى سِّمات داخليَّة للسِّياسة في البلدِ؛ بل لعلَّ خَيْبَةِ الأَمَلِ مِنَ الحَياةِ السِّياسِيَّةِ العامَّةِ لَدى المُجْتَمَعِ في لُبنان، واقعٌ دائمُ الوجودِ وغيرَ قابلٍ للتَّخَلُّصِ مِنْهُ.

***

مكتبة:

Niebuhr, R. The Irony of American History. Chicago: Chicago University Press, 2008.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *