من اللّغةِ إلى فلسفةِ التقدير

Views: 912

جوي جوزف صليبا

يتمّ تعليم التلاميذ في المرحلة الاِبتدائيّة أنّ ركيزتيْ الأفعال المركَّبة الماضيّة، والمضارعة الدّالة على المستقبل في اللّغة الفرنسيّة، على سبيل المثال: “Passé composé et futur antérieur”  هما فعليْ الاِمتلاك والوجود أو الكينونة ”Les auxiliaries avoir et être”.  ولكن لم نتنبّه يومًا أنّ كلّ الأفعال المرافقة لفعل الكينونة متمحورة حول أعمالنا اليوميّة منذ ولادتنا حتَّى وفاتنا (وُلِد، نزل، صعد، رحل، مرّ، أتى، وقع، دخل، خرج، أصبح، بقي، مات) وكأنّ أفعال المنزل “Verbes de la maisonette” هي الحياة بحدّ ذاتها، وبمجملها. كما، ويرافق فعل الكينونة أفعال الحال “Les verbes d’état” ويصرفها، وهي: “أصبح، بقي، مرّ، بدا”. تتشابه ثلاثة منها مع ما سبقها من أفعال واردة في المنزل. أمّا فعل “بدا” “Paraître ou avoir l’air”  فيُصرف مع فعل الاِمتلاك كأفعال الحركة “Verbes d’action”، ولحكم القاعدة اللّغويّة الركيزة لا تصرِّف هذه الأفعال إلّا في حال سبق المفعول به “Complément d’objet direct-COD” الفعلَ. بينما الأفعال المتعلِّقة بركيزة فعل الكينونة ترتبط اِرتباطًا وثيقًا بالفاعل “Sujet” ، فيتأثَّر الفعل مع عدد، ونوع الفاعل أي مع الفرد (المفرد)، والجماعة (الجمع)، والغائب، والمخاطب، والمتكلِّم.

 

لا نتذكّر هذه القاعدة لاِسترجاع الذكريّات بين سطور كتاب الصرف والنحو إنّما لِارتباطها المباشر بالإنسان الفاعل، ولِما لم يتمّ توضيحه للتلاميذ من جانب فلسفيّ نفسيّ يعكس فهمًا للذات. تكمن تفاصيل الحياة في أفعال الحال التي تعبّر عن وضع الإنسان في كلّ خطوة لو مهما قام بأفعال مرتبطة بحدث الحال الملاصق لفعل الكينونة والوجود. وبحسب القاعدة، إنّ فعل الكينونة يتعلَّق بالفرد فقط، أمّا فعل الاِمتلاك فيرتبط بالحدث بحدِّ ذاته وليس بالإنسان، وذلك فقط في حال تقدَّم المفعول على الفاعل. وكأنّ الاِمتلاك يمحو من أُسند إليه الحدث، وتاليًا يجعل الفعل المرافق قيمًا بشروطٍ محدَّدة متمظهرة في تأخير الأنا وتقديم الشيء الآخر، فيختفي الفرد بأفضليّة الحدث. كما أنّ فعل “بدا” يُصرف مع فعل الاِمتلاك غير أنّه يصف حالة الفاعل، الأمر الذي يدعو إلى الشّكّ، ويثير الاِستفهام. ربّما تحاول أن تفسِّر لنا القاعدة بشكل علميّ أنّ الشكوك لا تصبّ في محور تقعيدها للأمور، ولكنّ اللّغة لا تقدر أن تضع جانبًا ظنون الإنسان، ولا يمكن أن تتجاهلها، بما أنّها ملك فكره ولسانه، فتُخضعُ نفسها للتحكيم ضمن قواعد مرتَّبة. الرابط بين مثير الظنّ، واِستجابة اللّغة هو فعل التّظاهر (بدا-يبدو) وبما أنّ يصف هذا الفعل شكوكًا يحملها الفرد، وتساؤلات يمكلها، فلا يمكن تصنيفه ضمن أفعال الأحوال المتعلِّقة بفعل الكينونة.

 

تاليًا، توضِّح القاعدة اللّغويّة أنّ ما يهمّها من تصريف، يرتبط بفعل الوجود، وهذا الفعل “لا يمتلك بل يكُن” عبر أعمال أساس تتمثَّل بأفعال الأحوال. أمّا نحن فيتماهى وجودنا بفعل الامتلاك، لذا ما زلنا نقدِّر الفرد ونرفع من شأنه لِما يحصده من مال، وثقافة، وشهادات، وأوسمة، وبيوت في وقت تدور به دائرة حياتنا حول حال الأنا في هذا الكون. “أن أكون أو لا أكون، أن أكون وأبقى، أن أولد وأحيا وأموت، أن أرحل وأعود” هنا يكمن الوجود أمّا “أن أمتلك أو لا أمتلك” فلا حدث يتأثّر بهذا الفعل، والاِمتلاك لا يتفاعل مع دوامة الخالق والمخلوق بل يبقى ملك الأرض والأنا تعود إلى ترابها. ربّما لو تعلّمنا –نحن الذين جلسنا على مقاعد الدراسة- تقدير الذات عن طريق القواعد، والدروس التلقينيّة، لما اِمتلكنا، بل عشنا اللحظة لأنفسنا. ربّما لو قربّنا بمنطقٍ كلّ الشروحات من الحياة اليوميّة لكانت فلسفة الحياة تسكننا. ينقسنا فهم لدوامة الكون القائمة على ذرّة اسمها “الأنا” ولكن ما زلنا في الجهّة المقابلة نعدّ بإرادتنا ما فعلنا، وأنجزنا مدركين أنّ كلَّ شيء زائل. ربّما أدركت اللّغة فلسفة التقدير والصوفية و”كُنْ- اللّه” ونحن ما زلنا نتخبّط بين الساعات فيما بين يديْنا.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *