راعٍ وقطيعُ حُبّ

Views: 84

 جوزيف مهنا

 

      رعدُ، ما رعدُ؟

      إنْ هو وقد أَرْمَى على العشرينَ ربيعًا، إلَّا سنديانةٌ اغْتَرَزَتْ في صَخرة.

      أو

      قضيبُ مَعْدِنٍ ارتَزَّ في ساعِد.

      منيعُ حَوْزَةٍ، وحصينُ ناحِيَةٍ، وعِزَّةٍ غَلباءَ.

      راعي أغنامٍ مِقدامٌ، يُرهِفُ غِرارَ عَزْمِهِ، ويَجْمَعُ أُهبَتَهُ لكلِّ غائِيّةٍ أقْطَعَها لنفسِهِ، وافترَعَها لِأَغراضِهِ ومُواضَعاتِهِ، فَقطيعُهُ لم تَنْزُ في رأسِهِ يومًا سَوْرَةُ الأَنَفَةِ، ولا أدْركَتْهُ حَمِيّةُ مُنْكَرَةٌ، فَلاجَّ وَلادَّ وشاكَسَ في مَنْهَلٍ أو نُجْعَة.

      أنْ يَهُشَّ بِعصاهُ لِفَّ(1) شِيائِهِ وأخلاطِهِمْ، مَسُوقًا بالرِّفِقِ والهَوادةِ والطّلاوةِ، فسلامةُ طَوِيَّةٍ وعُيُوفٌ لِلشرِّ، وإلاّ أَلجأتْهُ مُكرَهًا أن يأخُذَها أَخْذَ مُقتَدِرٍ حتّى تَسترسِلَ في مَزالِّها لِـمَشيئَتِهِ طائِعةً صاغِرَةً، خلا النَعجةَ البَلْقاءَ، الـمِتْئَامَ، ذاتَ الألْيَةِ الـمُكوَّرَةِ كقُرصِ الشّمسِ، مَنْ عَناها ابنُ حجّة الحموي في «خِزانةِ الأدبِ» “تجوُّزًا” بِقوْلِه:

      مُنَعَّمةٌ لفَّاءُ مَهضُومَةُ الحَشا           تَكادُ بِأَنْ تَنْقَدَّ مِن دِقَّةِ الخَصْرِ

إذ كانت تجرُضُ بِرِيْقِها كَمَدًا من الحُكمِ الجائِرِ الذي طالها وأُخيَّاتِها، فقد واثَقَتْ كبْشًا مَنْخُوًّا من كِباشِ(2) القطيعِ، وعاقَدَتْهُ أن تَتَقَصَّصَ أثَرَهُ فلا تَرْعَوي أبدًا عن جِوارٍ كؤودٍ تَصَعَّبَ فأرْهَقها، فأَفْنَتْ لَيالِيْها هائِمةَ اللُبِّ، كلِفةَ الحُشاشةِ تتقَلَّبُ على مثلِ الجمرِ في مخبّآتِ ودفائِنِ سِرِّها الكَنيْنِ، ممّا أثار حَفيظَةَ رعدٍ، الّذي أقْعَدَهُ جَفيفُ حياتِهِ ويَبيسُها عن النَّصَفَةِ والعَدْلِ في نُزُوعِ قلبِهِ، حتّى تُنُوسِيَ الـمُرادُ، فيما لِسانُ حالِهِ يَطْرَحُ ثِقْلاً من حَرَّانِ جوانِحِهِ مع الشّاعر مصطفى الحلبـي:

      ولا تغنَّتْ على غُصنٍ مُطوَّقَةٌ          إلاّ أهاجَتْ ليَ الأشجانَ والأرَقا

هكذا عَفَتْ رياحُ رعدٍ، واستُبْهِمَتْ سُبُلُ الطَّلَبِ، فمرّةً تَهُبُّ بعيدةَ الـمَنالِ جَنوبًا أو شَمالاً مع (سعدى)، وأخرى، تَصِرُّ مَنيعةَ الدَرَكِ قَبُولاً أو دَبُورًا مع (وطفى)، وبين سعدى ووطفى، وقد استَفْرَغَ معهما وُسْعَهُ، ركِبَ رعدٌ رأسهُ فهامَ في أوْدِيَةِ الضَلالِ، وعَمِيَتْ عليه وُجُوهُ الرُّشد.

… وإنّي لَـمُعتَرِفٌ الآنَ في قلمي الدَوَّارِ، وأنفاسِ كلماتٍ رَغْدةٍ طيّبةِ الـمَضاغِ، كيف كان عهدُنا، نحنُ صِبيَةَ القريةِ برَعدٍ، وبما كنّا نترامَزُ ونتغامَزُ عليه، ووَقعَ إلينا، ونتنسَّمُهُ، من طَريفةِ خبر.

***

      رعدُ من أهلِ الرِّجْلَةِ لا يعلو حِمارًا، ولا يمتطي بَغلاً في “أسفارِهِ”، فله من ساقَيْهِ مِصراعانِ من جُلمودٍ، اجتَبىلهما في بَغائِهِ خُفّيْنِ من جِلْدٍ ألـمَعَ بهما أبو “مجد” إسكافِيُّنا، الّذي غَمَرَ الجميعَ مَنْحاهُ، فجاءا على قَدْر.

      وهو في مُعَلَّقاتِ الشّكلِ ونواميسِه:

      بادِنٌ، سمينُ الضَواحي، رَبْعةٌ إلى الطُّولِ، مَخروطُ الوجهِ، مُمْتَلِئٌ قُوَّةً وشبابًا، حتّى لَيَتَدفّقُ السُرورُ من عِطْفَيْه. دائمًا في شُغلٍ شاغِلٍ من أمرِهِ، فَطِنٌ، ذَهِنٌ، لَسِنٌ، تكفيهِ اللّمْحَةُ الدّالةُ، فهو مِمّن تسترسِلُ إليهم(3) بيسيرِ الإبانة.

      مقدُورٌ له الوفاءُ، “فالسّلسالُ الأبيضُ” وقد أَمضَّهُ الخَوَى(4) وخمِصَ بطنُهُ، وعَصَبَ الرِّيقُ فاهُ، شُبْعَةٌ من طَعامٍ، ومُلاءٌ تتَحلَّبُ جداوِلُ مَرْمَرِهِ من ضرْعِ الرَّقْشاءِ الكنيز. وبقصديّةٍ ذكَّارَةٍ يُبَرِّدُ فؤادَهُ بمثلِ اللُّحمانِ يَهْمِشُها(5)، يَهْمِسُها(6)، ويَلُوسُها(7) لَوْسَ السَّغِبِ البَطين.

***

      المكانُ يمورُ بأنغامِ شَبّابةِ رَعدٍ على هريرِ كلبِهِ النَجيدِ، الصُلْبِ المكسِرِ، مُبَصْبِصًا بِذَنَبِهِ، يُباصِرُ القطيعَ من الضّواري، فلا يَسمحُ بانحرافِ نعجةٍ، أو بتخلُّفِها عن السِّرب.

      ولُرُبَّ مِهْرَجانٍ قائمٍ على أشُدِّهِ يُطالِعُكَ كأنَّهُ مُناغاةُ الأطيارِ على عَذَباتِ أغصانِ زيتونَةِ دارِنا:

      – الحمارُ (زعفران) يَخطُرُ، ويَتَبذَّخُ بِجُلٍّ(8) وُشِّيَ بِضُروبٍ وألوانٍ، مِنْ نَجادَةِ الحِرَفيّ حسّان، وهو صاحبُ دعوى عَريضةِ النِّياطِ.

– المرياحُ(9)مَنْ وَقرَتْ مهابَتُهُ في الصّدورِ، وأذْكى الظَمَأُ أَحلاقَ جماعَتِهِ، فأَغلَظوا عليه اللاّئِمَةَ، يَتَقَدَّمُ العَجاجَةَ(10) بمَوْكِبِهِ الفَخيمِ، البَجيلِ، مُيَمِّمًا شَطْرَ الـمَشرَبِ على وقْعِ طَنّانِ جلاجِلِهِ، لا تُخالِجُهُ أو تَعتاقُهُ الخوالِجُ.. تَقفوهُ الكِباشُ، فالقطيعُ، وما أدراكَ ما الكِباش؟!  

ويا لَلْثَنايا(11)  إذا ضمّت بعضَها بعضًا، والتَوْقُ يُورِقُ في عينيها ولائمَ حُبٍّ، فهذا يعني أنّ شهرَ أيلولَ على الأبوابِ، ومِيْقاتَ التَرَسُّلِ يقُومُ ويَقعُدُ، فالنِزاءُ في لُغَةِ الأغنامِ يَرتَفِعُ عريشُهُ، والكِباشُ، جادَها الله، تَعبُقُ منازِلُها ومهابِطُها ذُكورةً، وهاتِ يا قصائِدَ عِشقٍ تتمزّى وتتمزَّنُ لا يُضارِعُها الذَّهبُ الإبريز. ويا لُطْفَ تواثُبٍ مُشبَعٍ بجهارَةِ الصَبابات. (https://thereader.com)

      حتّى إذا أربَعَتِ السنةُ القادِمةُ والنِعاجُ المواخِضُ(12) آنَ إيلادُ حُملانِها أبشِرْ بِحَلائِبَ ضَرُوعٍ، فَيّاضةِ اللُّهى(13) تَرْتَجُّ كمَطْفَرَةِ الماءِ من اللِبانِ، ولا تستَغلِقُ عليها سَماء!

      ويا فَرْحَتا بالجُذعانِ(14) الوافدةِ تَتَهيأُ لها فَلَواتُ بِقاعِنا فَغْوًا، وأرَجًا، وتَوَهُّجَ شَمِيم!

      أمّا الطُليانُ(15)،

      مِمّاذا تعجَبُ يا صاحِ؟ فإنَّهم لا يَجِدُونَ مُتعَةً إلاّ في مغامِضِ زغَبِ ثِنْياتهم.. يُمازجونها، يُجادُونَ إليها، فتحتَبِلُهُم بِلَواطِفِ دَلِّها، وتذهَبُ بِمَدارِكِهم كلَّ مَذْهب.

      وأيَّما حَرْبٍ سَعورٍ تَشْتَعِلُ وتتفاعَلُ في أجسادِهِم الغضّةِ الـمُفعَمةِ بِفوْرةِ الحياة!

      أوَلَسْنا كلّنا غَرِضُونَ نتجرَّعُ غُصَصَ النَدَمِ على ما عفا واندرسَ من عمرنا وفات؟

 

***

      أرغَبُ عن الكلامِ يا سلمى،

      فعيني مَطروفةٌ الى حُسنِكِ

      وقد حَنَنْتُ واستَوْقَدَني الشّوقُ إليكِ،

      فإيّاكِ أن تَسْتَكْثِفي ظِلّي،

      وترمِينَني في مَهادِلِ مصايِري ومَرْجوِّي

      يَغتابُني الضجرُ،

      ويَطْوي صحيفتي في قلبِهِ القمر!

***

(1): جماعة

(2): فحل القطيع (واحده كبش)

(3): ترتاح إليهم

(4): الجوع

(5): يعضّها

(6): يتناولها بصوت خفيّ

(7): يتتبع أكلها

(8): البرذَعة (كساء يُلقى على ظهر الدّابة)

(9): قيدوم القطيع

(10): الأغنام الكثيرة

(11): واحدها الثنية (النعاج)

(12): واحدها الماخض (دنا وِلادُها وأخذها الطَّلق)

(13): العطاء

(14): واحدها الجذع: حمل الضَأْن

(15): واحدها الطليّ (كِباش المستقبل) بعمر سنتين.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *