الزيارة التاريخية

Views: 627

خليل الخوري 

بالرغم من وضعه الصحي، وجائحة كورونا المُتفشّاة في العالم كلّه، أصرّ قداسة البابا فرنسيس الأول على عدم إرجاء زيارته إلى العراق مرّةً ثانية وأن تتمّ في الموعد المحدّد، وهي الأولى التي يقوم بها الحبر الأعظم إلى بلاد الرافدين منذ تولّيه السدّة البابوية، فلم يقبل «النصائح» العديدة التي تلقّاها من غير بلد وجهة، خصوصاً أنّ الزيارة التاريخية التي بدأت يوم أمس حصلت بعد أيام معدودة على سلسلة الهجمات الصاروخية التي استهدفت قاعدة «عين الأسد» العسكرية التي تتمركز فيها قوات أميركية.

ثمّة إجماع على أنّ هذه الزيارة هي رسالة تضامن مع الشعب العراقي بأطيافه كلّها، ومع شعوب هذه المنطقة من العالم التي قلّما يمرّ عليها وقتٌ من الراحة والطمأنينة والأمان والسلام، إذ هي مسرح لحروب لا تنتهي. كان الرئيس اللبناني الراحل المثقّف المرحوم شارل حلو يصف منطقتنا بأنها مسرح «حروبٍ لا نهاية لها كونها تنشب بين الأنبياء فليس في يد الإنسان أن يوقفها» وهو أسلوب مرح ومُحَبّب وعميق في آن معاً وضَع فيه الرئيس الأسبق النقط على الحروف.

إنها أيضاً زيارة تضامن مع المسيحيين والأزيديين الذين تعرّضوا في السنوات الأخيرة إلى حملة إبادة حقيقية. وما زالت «مآثر» داعش متواصلة. كان المسيحيون في ثمانينات القرن العشرين الماضي يُشكلون أقلّ بقليل من 9% من عدد سكان العراق. وكان عديدهم قد بلغ قبل الأحداث السورية الأخيرة وانعكاسها المباشر على العراق نحو مليونين لم يبقَ منهم سوى ثلاثة أرباع المليون بسبب التهجير والهجرة القسرية حفاظاً على الحياة. وعلى غرار المسيحيين في لبنان، فهم يتوزّعون على 14 مذهباً.

الزيارة التي ابتدأت من بغداد تصل أيضاً إلى النجف وذي قار ونينوى وإقليم كردستان، ولكلّ من هذه الأماكن رمزيّته. وإذا كان الفاتيكان قلقاً على الوجود المسيحي الذي هو في أساس الشعب العراقي، فإن البابا يريد للمسيحيين (كما أراد البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني في «الإرشاد الرسولي» من أجل لبنان) أن يتجذّروا في أرضهم وأن يكونوا على أطيب العيش المشترك وحسن العلاقة والجوار مع إخوانهم في الأكثرية الإسلامية. ولا يفوت قداسته أنّ الهجرة المسيحية ليست حديثة. ولو عدنا إلى كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني لعثرنا على أسماء خمسة وسبعين ديراً ومقاماً مسيحياً بين البصرة والمنامة في البحرين.

ولزيارة النجف واللقاء مع المرجعية الشيعية الإمام علي السيستاني رمزيةٌ خاصّة أيضاً كونها تأتي تكملة للقمة بالغة الأهمية التي عقدها البابا فرنسيس في أبو ظبي مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيّب (شباط 2019). بل هي إحدى ترجمات «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي وقّعاها معاً وشدّدت على حريّة المعتقد وإحترام الديانات كلّها لأنّ الناس جميعهم أخوة.

واستوقفني كثيراً كلام البابا فرنسيس أمس في بغداد عندما دعا إلى «تعزيز السلام في المنطقة والتصدي للفساد ولاستغلال السلطة…». وبهذا الكلام، بدا قدساته وكأنه يُخاطب دول المنطقة كلها من المحيط إلى الخليج بما فيها لبنان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *