لمناسبة اليوم العالميّ للمرأة / الشّعر النّسويّ في الأندلس.. مشاعر مُرهفة وأحاسيس مُترفة 

Views: 467

د. محمّد محمّد الخطّابي*

 بمناسبة اليوم العالمي للمرأة الذي يُحتفل به سنوياً في 8 من  شهر مارس (آذار) رمزاً وتتويجاً لكفاحها منذ ما ينوف عن قرن من الزّمان للمطالبة بتعزيز حقوقها، والتصدّي لمختلف مظاهر التمييز، وانعدام المساواة بينها وبين الرجل نقدّم  هذه الإضاءات عن شعر المرأة العربية والأمازيغية في الأندلس التي بلغت شأواً بعيداً في هذا الشأن، وبذّت زميلاتها من الشّاعرات الاسبانيّات والأوربيّات في ذلك الإبّان .ففى الوقت الذي ينتقص بعض الدارسين لتاريخ الأندلس من النصوص الشعريّة للمرأة في الأندلس، وفى الوقت الذي لم يُولِ هؤلاء الباحثون لموضوع الشعر النّسوي الاهتمام الكافي الذي هو قمين وجدير به وذلك على الرّغم من التأثير الذي كان لهذا الشّعر فى إسبانيا وفى البلدان الأروبية الأخرى فى القرون الوسطى، حيث ظلّ هذا المبحث منسيّاً لزمنٍ غير قصير،فإنّ بعض الأبحاث النقدية الرّصينة التي نُشرت مؤخراً حول الشّاعرات العربيّات فى الأندلس التي سلّطت الأضواء على روعة، وجمالية هذا الشعر دراسة للشّاعرة والأكاديمية الكتلانية “كلارَا خَانيسْ” ،حيث عرّفت بالشأو البعيد الذي أدركته المرأة في الأندلس عربيةً كانت أم أمازيغيّة خلال الوجود العربي بها من تقدّمٍ وتألّقٍ وازدهار .

ترى الباحثة الكتلانية أنّ شعر المرأة فى الاندلس يشكّل بالنسبة لها إكتشافاً مفاجئاً في عالم الإبداع النسوي فى القرون الوسطى على وجه الخصوص . حيث أشارت أنّ الكتابة عند المرأة لا يمكنها أن تتحقق إلاّ إذا توفّرت لديها شروط معيّنة منها التواجد في عصر بعينه يَسمح لها فيه المجتمع بالمشاركة في الحياة العامة ، مع توفّر مستوىً ثقافيٍّ راقٍ ، وضمان حرية التعبير، والإنتماء إلى أنماطٍ إجتماعيية متفتّحة. فضلاً عن عدم جفاء وجفوة العادات،والتقاليد، وذلك ما كان عليه الشأن في الأندلس من حيث الانفتاح والتسامح فى القرون الوسطى.

كلارَا خَانيسْ

 

تفوّق الشّعر الأندلسي

تؤكّد الباحثة “خانيس” أنّ شعر المرأة بالأندلس قد تفوّق وبذّ الشاعرات الإسبانيات المعاصرات لها حيث حقّقت قصب السّبق في تناول الموضوعات بضربٍ من الواقعية مع دقّة الملاحظة، وثراء المضمون، وجمالية الابداع معنىً ومبنىً،  وذلك ما أكّده شيخ المُستشرقين الإسبان ” إميليو غارسيا غوميز” في دراساته الاندلسية الشهيرة.  كما تؤكّد الباحثة أنّ الشعر العربي بشكل عام في الأندلس كان له تأثير بليغ في الشعر الاسبانيّ والأوربيّ على المدى البعيد كذلك ،وقد ظهر ذلك جليّاً  لدى  الأجيال الأدبية التي تعاقبت على الشعراء الإسبان حيث كان أشهرها “الجيل الأدبي الإسباني 1927” الذي ينتمي إليه كبار المبدعين الاسبان ذوي الصّيت العالمي البعيد أمثال “فثينتي ألكسندري”،و”خوان رامون خمينيث” الحائزين على جائزة نوبل في الآداب، فضلاً عن “خيراردو دييغو”، و”دامسو ألونسو”،و”فيديريكوغارسّيا لوركا” و”رفائيل ألبرتي” وسواهم.

الحبّ العذري

مثلما كان عليه الشأن عند المشارقة فإنّ الحبّ العذري إنتشر، وإشتهر فى الأندلس ، وانتقلت تأثيراته عن طريق اسبانيا إلى فرنسا حيث دخل أرقى البلاطات،ثم إنتقل بعد ذلك الى بعض  إيطاليا عبر”برونيتو لاتيني” الذي كان سفيراً لبلاده لدى العاهل الإسباني ألفونسوالعاشرالذي كان يُعرف ب”الحكيم”في القرن الثالث عشر، ثمّ انتقل إلى البلدان ألأوروبية المجاورة وكان ألفونسوالعاشر من المُعجبين بالحضارة العربية حيث أمر بترجمة العديد من الكتب والمخطوطات العربية فى مختلف العلوم والآداب إلى اللغة الإسبانية منها كتاب ” كليلة ودمنة” لعبد الله بن المقفّع.

 ويؤكد المُستشرق “إميليو غارسّيا غوميس”فى تقديمه لكتاب “طوق الحمامة” لابن حزم:” أنّ الحبّ العذري دخل  أوربّا انطلاقاً من الأندلس حوالي 890م.  وكان لصاحب طوق الحمامة تأثير بليغ في هذاالشأن خاصة في البلاطات الأوربية الرّاقية .ومعروف أنّ ابن حزم قد بذّ العديد من علماء النفس الغربيّين أمثال “كارل كوستاف يُونغ”  و” ألفريد أدلر”، و” سيغموند فرويد ”  وسواهم ،بتفسيراته وتحليلاته النفسية للأمارات، والعلامات التي تطرأ على الحالة النفسية للمُتيَّمين الوالهين .

 وتذهب الباحثة الكتلانية أنّ  التمعّن في شعر المرأة فى الأندلس أمر يبعث على الإعجاب، ويثير دهشة الغرب سواء لدى الدارسين المتخصّصين، أو الباحثين الجامعيّين، نظراً لما تتضمّنه هذه الأشعار من رقّة، ورفاهية، وعذوبة  وطلاوة، فضلاً عن الخيال الخصب الذي يطبعها، وحرية التعبير التي تتميّز بها هذه الأشعارالتي لا يمكن أن تُقارن سوى بحرية التعبير المتوفرة في المجتمعات العصرية الرّاهنة،وتؤكّد الباحثة  كذلك أنّ هذه الحرية لم يتسنّ للمرأة الغربية ( التي تحتفي بيومها العالمي هذا الشهر) أن تتمتّع بها إلاّ اليوم.  ويؤكّد الباحث الإسباني “أدولفو فديريكو شباك ” أنّ الحرية التي تمتّعت بها المرأة العربية في الأندلس فاقت،وبذّت الحريّات التي كانت لدى المرأة في المجتمعات الاسلامية الأخرى”. كما يضع المُستشرق ” هنري بيريس” المرأة الأندلسية في مراتب راقية، تتساوى فيها مع الرّجال ، بل إنّها كانت تتوارد على نوعٍ من الأكاديمّيات، والمعاهد التي تتعلّم، وتتلقّى وتُلقّن فيها الفنون والآداب المختلفة، والعلوم التي كانت سائدة ومنتشرة في ذلك العصر، وأشهر هذه المدارس،والأكاديميات كانت موجودة بمدينة قرطبة .كما تورد الباحثة نصّاً للعالِم الأندلسي ابن بسّام الشنتريني صاحب الكتاب الشّهير” الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” يصف فيه إمرأةً عربية خرجت من إحدى هذه المدارس متحدثاً عن جمالها،ورقّتها، ومشيتها، وصوتها ، ومواهبها، وثقافتها بل أنها كانت تجيد إستعمال الأسلحة حيث يؤكد لنا ابن بسّام أنه لم يكن لها نظير في ذلك”.

وتشير الباحثة “خانيس” أنّ الشأو الذي بلغته المرأة العربية في الأندلس لم تدركه زميلتها المرأة الأوربية المعاصرة لها ، ولم ينحصر شعر المرأة في الاندلس في مواضيع الحبّ، والنّسيب، والشكوى، والتشبيب وحسب بل تعدّاه الى مواضيع أخرى مثل المدح ، ووصف الطبيعة ،والهجاء وشعر الحكمة. وظلّ  شعر المرأة في الاندلس مبثوثاً فى بطون المخطوطات، وأمّهات الكتب التي تُعنى بالآداب،والأنساب، والأخبار.ويخضع  أسلوب هذا الشّعر لقواعد شعر المشرق، وكانت بعض الشاعرات يلجأنَ الى معارضة شعر الرّجال، أو التعبير عن خواطر عابرة ،أو الإجابة عن تساؤلات مُحيّرة ، أو الدفاع عن النفس حيال أيّ تهجّم، أو إهانة.

 

شاعرات أندلسيّات

ومن أشهر الشّاعرات الأندلسيات التي تعرّضت لها الباحثة الاسبانية “حسّانة التميمية” وهي من” إِلفِيرَا”  بغرناطة، وُلدت خلال إمارة عبد الرحمان الداخل المعروف ب (صقر قريش) (756 -788م) وأوردت  الباحثة قصيدة مدحٍ لها بعثت بها إلى الأمير الحاكم الأوّل، تطلب منه فيها حمايتها من جور حاكم غرناطة . وهي من أشهر الشّاعرات الأندلسيات المشهود لها بطول باعهاّ فى قرض الشعر، وقد ورد ذكرها في كتب “نفح الطيّب” للمقرّي، و” جدوة المقتبس” للحميدي، و”الصّلة” لإبن بشكوال، و”التكملة ” لابن الآبّار، و فى سواها من المصادر الأخرى ،ومن الشاعرات الاندلسيات نذكر : “لبنى” ، و”الغسّانية”، و”حفصة بنت حمدون الحجارية”،و”أمّ الكرام” بنت المُعتصم ابن صُمادح،و”غاية المُنى” ، و”إعتماد الرّميكية” زوجة المعتمد، و”عائشة  بنت قادم القرطبية”، و”مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري” ،و”أمّ العلاء بنت يوسف الحِجارية البربرية” ،وهي شاعرة عاشت في القرن (الحادي عشر الميلادي) في “وادي الحِجارة” وإليه نسبتها، وهي من أصل بربري (أمازيغي) ، و”حَمدة بنت زياد المؤدّب” وأختها “زينب” ، و”قمر” جارية إبراهيم اللخمي ، و”أنَس القلوب “، و” مولاة أبي المطرف بن غلبون العروضية” ،و”مُهجة” و”مُتعة” القرطبيتان ،و”نزهون” الغرناطية ،والشّاعرة “العبّادية “والدة المعتمد، و”بثينة” بنت المعتمد ابن عبّاد، و”أم المُنى”، و”الأديبة الشلبية”،و”أسماءالعامريّة”،و”حفصة الركونيّة”، والشّاعرة الأميرة الشّهيرة صاحبة ابن زيدون “ولاّدة بنت المُستكفي”.. الخ.

 

باقات من أشعارهنّ

كانت المرأة فى الأندلس محط الأنظار، وموضع الإحترام عند الرجال ، وقد شاركتهم في الحروب، وشاطرتهم معاناتهم في المعارك الضّروس، وحسبنا الإشارة فى هذا السّياق إلى ما عانته، زوجة المعتمد بن عبّاد إعتماد الرميكية في منفاهما السحيق رفقة زوجها بأغمات (بالقرب من مدينة مراكش ) حيث تقاسمت معه مرارة الأيّام ، وشظف الحياة، ورعونتها بعد نعيمٍ مفرط،ورغدِ ورفاهيةٍ في  العيشِ.

 ونكتفي كمثالٍ عن جمالية ،وتنوّع الشّعر النسوي بالاندلس بأبياتٍ لثلاث شاعرات أندلسيات، يقدّمن الدليلٍ على مدى تفوّقهنّ، في قرض الشّعر فى الأندلس،وقد أثبتت كلارا خانيس مقطوعات شعرية لإحداهنّ وهي ولاّدة بنت المستكفي التي تقول فيها:

ترقّبْ إذا جَنّ  الليلُ  زيارتي..  فإنّي  رأيتُ  الليلَ  أكتمَ  للسرِّ

ولي منكَ ما لوكان بالشّمسِ لم تلحْ ..  وبالبدرِ لم يطلعْ وبالنجمِ لم يسرِ

كما إشتهرت ببيتين من الشّعر قيل إنّها كانت تكتب  كلَّ واحدٍ منهما على جهةٍ من ثوبها :

أنا واللّه أصلح للمعالي ..وأمشي مشيتي وأتيه تيهَا       .. 

وأمكّن عاشقي من صحن خدّي ..   وأعطي قبلتي من يشتهيهَا 

   كانت ولاّدة بنت “المُستكفي ” وحيدة زمانها في الأدب و الشعر، حسنة المحاضرة، لطيفة المعاشرة ،مع الصيانة والعفاف. وكان ابن زيدون يتعشقها، وله فيها القصائد الطنانة، والمقطوعات البديعة،أشهرها نونيته التي يقول في مطلعها:

أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا /وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا

ويقول فيها أو عنها كذلك  فى قصيدة أخرى:

إنّي ذكرتكِ بالزّهراء مُشتاقَا     /   والافقّ طلقٌ ووجهُ الأرض قد راقَا

وللنّسيم إعتلالٌ فى أصائلهِ      /     كأنّما رقّ لي فاعتلّ إشفاقَا

 

 و كانت ولاّدة تطارحه شعراً بشعر، وتبادله حبّاً بحبّ،ثم قلبت له ظهرالمُجن وصارت تهجوه، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها ، فيمّر فيه من النوادر،والمُستملحات، وإنشاد الشعر شيء كثير.

     والشاعرة الثانية هي ” حَمدَة أوحَمْدُونة بنت زيّاد المُؤدّب” التي كان يقال لها خنساء المغرب لقوّة شعرها، وسموّ إبداعها ،ولها مقطوعتان مشهورتان بالمشرق والمغرب،تقول في الأولى:

ولمّا أبى الواشون إلاّ فراقنا /وما لهم عندي وعندك من ثارِ

وشنّوا على أسماعنا كلَّ غارةٍ /وقلّ حماتي عند ذاك و أنصارِي

غزوتهم من مقلتيك وأدمعي /ومن نفسي بالسّيف و السّيل والنارِ

وتقول في المقطوعة الثانية وهي مشهورة :

وقانا لفحة الرّمضاء وادٍ    /    سقاه مُضاعَفُ الغيثِ العميمِ

حللنا دوحَه فحنَا علينا      /     حُنوَّ المُرضعات على الفطيمِ

و أرشفنا على ظمأٍ زلالاَ    /    ألذّ  من  المُدامة  للنديمِ

يصدّ الشمسَ أنَّى واجهتنا    /   فيحجُبها ويأذنُ للنّسيمِ

يروع حصاهُ حاشية العذارىَ /  فتلمسُ جانبَ العقدِ النظيمِ .

وأمّا الشّاعرة الثالثة  التي نختم بها هذه العجالة هي أمّ العلاء بنت يوسف الحِجارية البربرية ، ذكرها صاحب “المُغرب فى حلى المَغرب”، ومن شعرها :

كلّ ما يصدر عنكم حسن / وبعلياكم تحلى الزمنُ

تعطف العين على منظركم / وبذكراكم تلذ الأذنُ

ومن يعش دونكم في عمره / فهو في نيل الأماني يغبنُ

وعشقها رجل أشيب فكتبت إليه تقول   :

يا صبح لا تبد إلى جنح / والليل لا يبقى مع الصبحِ

الشيب لا يخدع فيه الصّبا / بحيلة فاسمع إلى نصحي

فلا تكن أجهلَ من في الورىَ / تبيتُ في الجهل كما تضحي.

***

*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا.

 

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *