هل من حداثة فعليًا في أول عقدين من القرن 21؟

Views: 318

أنطوان يزبك

“تبدأ الحداثة من خلال البحث عن أدب مستحيل”

                                                                  رولان بارت

 

من يذكر مونديال سنة 1998 في باريس، حيث تمّ إحياء حفلة الافتتاح من خلال كرنفال ضخم وسط العاصمة، لعب فيه 4500 ممثل ومليون مشاهد وشاهده 800 مليون عبر شاشات التلفزة حول العالم.

أما ذروة الاحتفال الموسيقي الراقص فقد تمثلت باستجرار عمالقة من خشب ومعدن، مسيّرة ومحركّة بواسطة حبال، يزن كل واحد منها 90 طنًا. كما أطلق على كل عملاق اسمًا: (هو، موسى، بابلو، روميو).

مونديال باريس

*

وبحسب منظمي المهرجان  يمثل العمالقة الأجناس البشرية، وفي غمرة استجرارها إلى ساحة الكونكورد وسط قرع الطبول والرقصات القبائلية الصاخبة وألعاب الضوء التي تذكّر بيوم القيامة، شاهد الناس أفول الألفية الثانية.

رأى كثر في هذا الاحتفال عودة إلى عصور بدائية من ما قبل الحضارة، تأبيدًا للهمجية التي حاولت الحضارة طمسها وإزالتها إلى الأبد، فلم تفلح بل على العكس، عدنا إلى العصور التي سبقت الأديان والكتابة والنظام السياسي والقانون والتكنولوجيا؛ أجل تحطمت مفاهيم الحداثة وانسحقت أمام صخب الملايين؛ وهم الحضارة انزاح ليحلّ محلّه عصر الـ  “نيو أركاييسم” أي البدائية الجديدة.

مونديال باريس

 

*

دخلنا القرن الواحد والعشرين والبشرية تتأمل، حصول قفزة نوعية في أذهان الناس ويتحوّل الإنسان من بدائية ثقافية إلى حداثية فعليّة، تخرجه من عنفه وسطوته على البشر والحجر والحيوان والنبات وتجعله يستحق إنسانيته، لكن أيًا من هذا لم يحصل وكل البشرية في كل أنحاء العالم شاهدت بعيون غير مصدّقة موقعة اقتحام مبنى الكابيتول في 6/ 1/ 2021 من قبل جحافل بربرية على رأسها المدعو أنتوني تشانسلي الملقب بـ “جايك أنجلي”، وهو يعتمر قبعة من الفرو وذات قرون طاليًا وجهه بالدهان الأسود كرجل بدائي من السكان الأميركيين الأصليين، أو كمحارب من الفايكنغ أو ساحر “شامان” من عصور إنسان النيوليتيك!..

هذه المشاهد إذ تعيدنا إلى أمر ما يشغل أذهاننا، تذكرنا بسؤال وجيه: ما هي الحداثة؟! وأيضًا هل فعلا نعيش الحداثة؟ هل بقي شيء حديث في البلدان التي أنتجت حداثة وروّجت لها وصدّرتها إلى سائر بلدان العالم وهي تعمل جاهدة على تسويق البدائية وتاليًا الهمجية في مجتمعاتها، هذه المجتمعات عينها التي أنتجت فلسفة أفلاطون وأرسطو، وعقلانية ديكارت وهيغل وكانط؛ ها هي الآن تتخلى عن هذه الإنجازات وتمعن في إسقاط همجيّة العامّة على عواصمها وعلى أعلى رمز للديموقراطية في العالم!

الشاعر يوسف الخال

*

من كان ليصدّق أن دعاة الحداثة يصيبونها مقتلا في عرينها؛ يقول يوسف الخال وهو من أسس للحداثة الشعرية العربية في القرن الماضي:

أيها الشعراء ابتعدوا عني

لا ترثوا أحدًا غلبه الموت.

فماذا ينفع الرثاء؟

الرثاء للصعاليك ونحن جبابرة

الرثاء للبشر ونحن آلهة.

فابتعدوا عني أيها الشعراء

واحنوا رقابكم

لا تنطقوا في حضرة الموت الجاثم…

رائعة هذه القصيدة وكأن يوسف الخال يتنبأ في ذلك الزمان، بمرثية سقوط الحضارة، على غرار كولن هنري ويلسون الذي نعى الحضارة الغربية واعتبر أن مؤسساتها ولا ريب ستتهاوى ذات يوم قريب!

كورماك ماكارثي

*

غريبة حداثة الغرب هذه، فمنذ أن دخلنا إلى عصر التكنولوجيا ونحن نقرأ كتبًا ونشاهد أفلامًا تبشّر بحروب نووية وإفناء للحضارة الحديثة، حيث تحلّ أزمنة مرعبة يعيش فيها الناجون في بدائية مرعبة وسط الدمار والخراب، حياة مقيتة يحاول فيها كل إنسان العثور على قوته بقوة القتل والفتك وحتى تناول لحم البشر في حال الضرورة والمجاعة، كما في رواية “الطريق” (2006) لكورماك ماكارثي، حيث يكافح رجل وابنه للبقاء أحياء وهما يعبران المساحات الطويلة في أميركا، بعد أن تعرضت لخراب غير معروف الأسباب، محا كلّ معالم الحضارة ومزّق كلّ مظاهر الحداثة.

وكان بول أوستر أيضًا قد ألّف كتابًا في مثل هذا النوع هو: “في بلاد الأشياء الأخيرة” يصوّر حياة سكّان المدن بعد الفناء الكلي للحضارة الحديثة، حضارة الصناعة والكهرباء والتكنولوجيا، وأنماط التقدم كما عرفناها منذ 100 سنة ونيّف!

الشاعر محمود درويش

*

لمن المؤسف أن نشهد أفول الحداثة على يد من صنعها أو ادعى أنه فعل، أود ختامًا أن اقتبس؛ من قصيدة محمود درويش: خطبة “الهندي الأحمر”- ما قبل الأخيرة- أمام الرجل الأبيض:

…لن يفهم السيّد الأبيض الكلمات العتيقة هنا، في النفوس الطليقة بين السماء  وبين الشجر…

فمن حق كولومبس الحرّ أن يجد الهند في أي بحر، (…)

… ولكنه لا يصدّق أن البشر سواسية كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة!

 

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. مقال ملفت في أمثلته الصارخة، كما في تحليله المميّز، واختياره للنماذج المعبّرة والإستشهادات الموافقة لسياق الكلام والتعبير؛ فيعلق منه الكثير الكثير في الأذهان والأفئدة…