الحياة دوائر

Views: 887

زياد كاج

 

تجربة الوجود  لكل انسان تعبُر في دوائر؛ تبدأ صغيرة  ثم تكبر، لتعود الى حجمها الأول حين يدنو الإنسان من الرحيل.

 رحم الأم  دائرة  الأمان والدفء والسلام الأولى،  العائلة دائرة التفتح والوعي الثانية، ثم  المدرسة دائرة الإحتكاك الأول مع الآخرين، فالجامعة الدائرة الأوسع والأكثر نضجاً، وأخيراً  دائرة العمل والانفتاح على المجتمع الواسع والتنافس وصدمة الواقع كما يسميها علم الاجتماع الحديث. وكلما اتسعت الدائرة  المحيطة بالإنسان، ازدادت ثقته  بنفسه وتعدّدت تجاربه وتعلم أن الجسور بين الناس هي للعبور والتواصل وليس للإحراق.

   اقترح عليّ صديق عزيز عُدتُ وتواصلتُ معه على “الفايس”  بعد سنوات طويلة أن أكتب عن حياتنا وتجربتنا في الجامعة اللبنانية في أواسط الثمانينات. والظريف أننا اكتشفنا بعد انتقالنا الى جسر “الواتس أب” أننا لا نزال على نفس الجوهر والمبادئ. معاً عبرنا المرحلة الرابعة من حياتنا وكانت لنا مغامرات وجلسات شعر ومناظرات وأحاديث طويلة قبالة صخرة الروشة في كوخ يديره شيوعيّ أغتيل لاحقاً. كنا نقصد المكان لدروشته ولشرب البيرة والتفلسف والمدينة خلفنا بكل مشاكلها وصراعاتها وعنفها الأعمى الذي خلا من كل مبدأ. 

صديقي الفلسطيني اليوم مهندس ميكانيكي ومدير شركة في الدنمارك. ونحن كنا  زملاء في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية في منطقة الكولا الواقعة بين فكي كماشة  أقوى ميليشيات “المنطقة الغربية” في تلك الفترة في أواسط الثمانينات قبل دخول الجيش السوريّ الى البلد وحلول ما عُرف بسلام “اتفاق الطائف”.

 لحقني مفهوم الجسر الى هناك. “يا لحماقة وقصر نظر شاب لا يرى الدنيا الا بالأبيض والأسود؟”. رغم ضخامة جسر الكولا المنبطح أمام الكلية، لم أنتبه  في تلك الفترة العمريّة ( وأنا في خضم الدائرة الرابعة) أن الجسور هي للعبور والوصل وليس للقطع والمشاكل. مبنى الكلية كان ملفتاً بارتفاعه وخلفه كان يقع ملعب الصفا ومركز الثقل الشعبيّ لأحد الأحزاب، وأمامه كانت تطل جامعة بيروت العربية، والى الجهة الجنوبيّة على بعد مئات الأمتار، تربعت المدينة الرياضيّة.

يُقال إن تسمية منطقة الكولا تعود الى وجود مصنع لمشروب الكوكا كولا في المنطقة سابقاً. أمام مبنى الكلية ( يشبه برج المر لونه الرمادي غير المطلي) كانت حديقة وساحة كنا نتجمع فيها خلال حصص الدراسة وبعدها. وفي الشتاء كانت الكافيتيريا المغلقة  تعج بنا حيث تحمّل ضجيج أصوات الطلاب والطالبات يبقى أفضل من البقاء تحت المطر في الخارج. وجبتي المفضلة كانت سندويش جبنة قشقوان وكوب  الشاي. الطاولات تتوزّع حسب الانتماءات الحزبية والطائفية والمستقلين وحسب ميول الطلاب واهتماماتهم.

أنا كنتُ مع جماعة اليسار “ولو بشكل غير معلن” مع اعتراضي الدائم أمام الرفاق والرفقاء على تحالفنا مع الاشتراكي ضد أمل! المثالي وصاحب التجربة الحزبية السطحية يكون مزعجاً ومنزعجاً. صديقي الفلسطيني نصحني لاحقاً ولفت انتباهي لأمور لم أكن أعيرها انتباهاً.

   الأمر الملفت والمقلق في الكلية كان تلك الهوة الهائلة بين الشباب والفتيات في الكلية: 90% ذكور و 10% اناث !! مشهد الساحة التي تضمّ مساحات مزروعة حشيشًا طبيعيًا وزهورًا ومقاعد خشبية كان جذاباً: صبايا فاتنات  قرعن باب الجامعة  للحصول على اجازة وعريس محرز من أو من خارج الكلية؛ وصبايا من جماعة تشي غيفارا ( من شلتي الخاصة) يسخرن من الفاتنات ويهملن هندامهن عن قصد ويكثرن التدخين وشرب البيرة في جلساتنا الخاصة. ووجد في كليتنا طالبات للعلم والدين معاً. محجبات ملتزمات وعلى درجات تتراوح بين الوسطيّة والتطرف مع مراعات الحدود المذهبيّة المعترف بها  مناطقياً ودوليا ودستورياً ووفق قانون الأحوال الشخصية.

كشباب.. كنا ديوك المرحلة!  خاصة أن عددًا لا بأس به من الطلاب كان ملتزماً دينياً  ولا يقرب الجنس اللطيف الا وفق قوانين “الكورونا” قبل ظهوره ( التباعد الاجتماعي وعدم السلام باليد). خلت الساحة لأمثالي ولعدد من الأصدقاء. وجذبت الكلية ذكوراً من الخارج منهم الشاعر عبد الغني طليس الذي حضر بحجة صديقي أبن برج البراجنة.

يلعب  فارق العمر  دوراً حاسماً في السلوكيات والمصائر والعلاقات. أحد الزملاء، كان أكبر مني وأتى من “دائرة أوسع”، لفت نظر فتيات الجامعة وكان نصيبه وافراً. خفيف الظل، يمتلك سيارة، مصروفه في جيبه، وكان قادراً على إضحاك الصبايا ولو في أحلك الظروف. مرة التهم بصلة نيئة أمامهن وعربش على العريشة المظللة للمقاعد . كان نصيبي مع شلة اليسار ( ثلاث رفيقات جمعتنا السنديانة الحمراء والجيوب الفارغة) لأنني كنتُ أحبّ ارتداء الصندال مع الجينز وشرب البيرة وصورة تشي غيفارا. كانت صداقتنا جميلة عفويّة وكانت لنا صدامات مع الأحزاب الدينية والمذهبية ضمن ضوابط لأن الكفة سياسياً وعسكرياً بدأت تميل لصالحها.

   في الجامعة عرفت الكثير من أنواع البشر: المغرور والمتشاوف، المتعصّب المحدود، الغبّي الذي وصل الى مركز هام في الدولة، الطموح الأعمى الذي طلب يد الشحرورة صباح للزواج، الزميل العاطفيّ الذي أصبح روميو الكلية، والزميل الذي كان يحّن لأيام صدام حسين، وطبعاً صديقي الفلسطيني المقيم اليوم في الدنمارك.

    كان صديقي مقاتلاً محترفاً مع جماعة فتح-الانتفاضة. يقاتل ليلاً داخل مخيم برج الراجنة خلال ما عُرف ” بحرب المخيمات” ثم يقصد الكلية في النهار. تمتّنت صداقتنا لاهتمامنا المشترك بالشعر ومحبتنا لمحمود درويش. نمتُ ليلة عنده في  مقرّهم في مخيم مار الياس وسهرنا على قصيدة “مديح الظل العالي” لدرويش على  صوت كاسيت سجل في الجزائر. “من لا برّ له، لا بحر له” أنشد درويش خلال انعقاد المؤتمر الوطنيّ الفلسطينيّ.

صار صديقي جزءًا من شلة اليسار خاصتنا. لطالما تساءلت: كيف لا يطاله أحد والأجواء جد متوترة بين أمل والفلسطينيين؟ كان أحياناً يغيب لفترات طويلة ثم يعود فاقدا المزيد من وقته وهو نحيف كـ “عصا البليارد”. شعب صقلته التجارب ولا يملك ترف العيش. صديقي كان من فلسطينيي الداخل (كما عندنا بين سكان المدن والسهل)؛ كان من أصول ريفيّة عشائريّة.

   اشتعلت الحرب بين الميليشيات  وتوقفت الدراسة. عند عودتنا وجدنا أن المبنى قد تضرّر ولا بدّ من ورشة لإصلاحه. المأساة كانت في مقتل الناطور المسكين الذي لم يكن له لا ناقة ولا جمل في معركة “داحس والغبراء” بين “الصديقين اللدودين”. قرّرت الادارة مشكورة تعليم ابنته مجاناً في الجامعة وإبقاء العائلة في مسكنها.

 تهجرنا الى كلية الحقوق في الصنائع ( المكتبة الوطنية اليوم قرب حديقة الصنائع). عرفنا مرارة التهجير لأشهر وعشنا الغربة مع طلاب كلية الحقوق الذين كانوا مسيّسين أكثر من طلاب الإعلام .  يتمترسون في الكافيتيريا ، فوقهم غطيطة من دخان السجائر، تحسبهم في مؤتمر لحل قضيّة الشرق الأوسط.

   عدنا الى الكلية في منطقة الكولا  والعودُ أحمد. أذكر كيف هزّ الكلية والأجواء خبر إغتيال الرئيس رشيد كرامي وهو في الطوافة في الجو. فرغت الكلية من الطلاب والطالبات في أقلّ من ساعة. كان الخبر مزعجاً خاصة أن الرجل قُتل في الجو كأنه عصفور طائر. وفي السنة الأخيرة في الجامعة، سقط حفل التخرّج بسبب خلافات الأحزاب وبحجة أن ثوب التخرج “كنسيّ”!! صعدت الى طابق الإدارة وتسلّمت شهادتي في الصحافة بدرجة حسن. وقعّت وتركت الكلية للمرة الأخيرة.

 أهم ما تعلّمته في كلية الإعلام أن الصحافة –خاصة في لبنان—هي شطارة نسج علاقات وخبرة أكثر مما هي “شهادة” احتفظ بها في البيت.

   خلال تواصلنا كاشفني صديقي عن تفاصيل لم أكن أعرفها سابقاً. عن حبّه لإحدى رفيقاتنا، عن إصابته في إحدى المعارك، عن سر ذكرياته في منطقة جبليّة اسمها شملان. وعن مأساة مقتل أخيه وترمّل عائلته وقراره بترك البلد الى الدنمارك حقناً للدماء وبحثاً عن أفق أوسع.

قال لي للمرة الأولى إنه قاتل  سراً مع إحدى الميليشيات في حرب الجبل وأحيانا في بيروت. وأنه أنقذ الكثير من العائلات المسيحية من الموت المحتّم. “صدّقني يا أخي”، قال مكرراً “.. لولا مقاتلينا، لما كسبوا معركة بحمدون. نحن كنا نمشي في الطليعة وهم خلفنا. وطبعاً بفضل القصف والغطاء المدفعيّ السوري”.

    سُعدت لإنجازات صديقي في الدنمارك وأنه وجد برّه الخاص ولا يزال يأمل بالعودة الى فلسطين الحبيبة. فهو وضع البندقيّة جانباً وقفز من الاعلام إلى الهندسة واسس عائلة. ومن بيت أرضيّ في المخيم تدخل اليه كل أنواع الروائح،  يعيش اليوم عيشة كريمة بعيداً عن كل مشاكل البلد والمنطقة.  لم ينسَ قضية فلسطين ولا الشيخ إمام ولا ” مديح الظل العالي” . يدندن من بعيد على عوده  في الشتات ويعزف ألحان العودة ليبقى قلبه دافئاً.

 من بلد الصقيع والثلوج والتكنولوجيا  اللاهثة لا يزال صديقي –صاحب اسم ورد في  استغاثة  امرأة عربيّة فعبر الزمن وتحول الى مضرب مثل- يحنّ الى شمس وفوضى هذا الشرق…ولم ولن ينسى أنه وُلد وعاش في مخيم برج البراجنة.

جميعنا نعبُر دوائر…دوائر البعض أصعب.”لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”.

 

                      

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *