وطن القلق

Views: 864

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 

لا أعرف للقلق موطنا في غير لبنان. ربما وجد غيري أن القلق، يستوطن أوطانا  أخرى، غير أن للقلق في لبنان طعما آخر. أوله مع أول خيط من خيوط الشمس في الفجر، وآخره، في الهزيع الأخير، قبيل إنبلاج الفجر.

 القلق اللبناني، بطول يوم مكتمل.  بوجه بدر مكتمل. يتعاقب على اللبنانيين، يوما بيوم. يجدد نفسه مثل ماء النهر، فلا يكون القلق الذاهب في مجرى النهر، مثل القلق الهادر و القادم من جديد.

 القلق في موطنه لبنان، مقيم وراحل. غير أنه ما أن نودعه مع بزوغ الفجر، حتى نراه قادما من جديد، في هيئة جديدة، وفي مذاق جديد.

 ما أعجز اللبنانيين، إلا مداواة قلقهم، فهو من النوع الذي ليس له دواء. يلتصق رأسه برأس لبنان، فكأنهما توأمان. يأكل القلق أبناءه مثل “كرونوس” إله الزمن عند اليونان،  حتى يستمر مع اللبنانيين طوال زمنهم، يجدد نفسه بإبتلاع القلق السابق، والتحضر لولادة القلق اللاحق. فلبنان والقلق توأمان.

 “على قلق كأن الريح تحتي

  أوجهها  يمينا أو شمالا”. أنشد المتنبي ذات يوم، حين عصف به القلق، وهو يجتاز جبال لبنان، في موسم الشتاء. غدا بعده مسكونا بالقلق. غدا مسكونا بلبنان، موطن القلق الأصلي في العالم، منذ ظهور البرية في جبل الأرز.

منذ تظهير الكيان اللبناني، على صورته التي صنعت له، كما هو عليه الآن، واللبنانيون يعيشون على القلق، يوما بيوم. بل ساعة بساعة. يخشون ما يساكنهم من قلق، منذ ولدوا في وطن الأرز.

 كل العيون مفتحة عليهم، وكأنهم سرة الآلهة، كما يزعمون. يريدون أن يسرقوا هذا التراب المعطر بأنفاس السماء. يريدون أن يسرقوا بحره، أن يسرقوا سحره، أن يسرقوا شمسه من وراء الجبال. يريدون أن يسطوا على جهاته، ويمنعوا عنه الهواء.

 اليوم نسي اللبنانيون قلقهم فيما مضى. حلت بهم مصيبة جديدة، أنستهم مصائبهم القديمة.

 قالوا لهم: إن لبنان، لم يعد عروس الأوطان، صار بلدا فحلا، إستطردت قرونه، وصار يجندل أقرانه. حلت لعلعة الرصاص، على زغرودة العرائس. وطارت الأزجال، وغاب الزجالون. وأفرخت البنادق، فرق الموت، وصار الشرر، يحرق التلال والكروم. يهجر العصافير والطيور. وإسودت الشمس. وحل السيف على الصيف.

 قالوا لهم: إن لبنان لم يعد وطن الأرز، صار وطن النفط. صار بحره للمنصات. صارت المنصات للسفارات. صارت السفارات تسرق عرائس البحر، تعلقها في شباكها، وتنادي عليها لشيوخ البترول والنفط.

 يعيش اللبنانيون اليوم على قلق الحقول. صارت حقول لبنان في البحر. لم تعد النواطير من شباب لبنان. صار نواطير البحر من الغرب. من الغربان.

 لبنان اليوم يعيش على قلق، من لصوص البحر.  غاب القراصنة، وأوكلوا للصوص البحر مهمتهم. صاروا يشفطون باطن البحر.

 اللبنانيون قلقون اليوم من قلق جديد. قلق إستجد عليهم فجأة. تفشى بينهم الأعداء والأصدقاء والأشقاء، مثل فيروس كورونا القاتل المستجد.

 صار اللبنانيون يخشون من غدهم، أكثر من يومهم. لم يعد البحر نافذة لهم. صار مقبرة لهم.

 مراكب الموت فوق أسطحه، وسموم النفط، في منصاته. والموج هو الموج. والموت هو الموت.

 تكاثر الأعداء على لبنان، فلم يعد يدري بأي سيف يموت.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *