وَمَضَاتٌ استرجَاعيّة رَغِيدَة من الزَّمَن الجَمِيل… من تَمْسَمَان والخُزَامىَ إلى بلاد الأزتيك ومَدينة ناطحَات السّحاب

Views: 1046

د. السّفير محمّد محمّد خطّابي *

 

منذ بضعة أيام خلتْ تفضّل الأديب الصّديق عبد السلام الكنيدي، وكتب مشكوراً تعليقاً بليغاً في صفحته الفيسبوكية المُشرقة وجّه لي من خلاله تحيةً أخوية حرّى صادقة، وعندما توخيتُ ردّ التحيّة عليه بمثلها ولا أقول بأحسنَ منها، بحثت عنهفي دهاليز هذا العالم الأزرق الفسيح فلم أعثر له على أثر، وإحتفظتُ بالجواب إلى أن عاد إلينا على  ثبج أمواجه الأثيرية هاشّاً، باشّاً، ضحوكاً، فرحاً جذلاً كما يتماشى وينسجم مع طبعه المرح البشوش الذى لا يخفي على أحد من زملائه وخلاّنه، فقلتُ مع نفسي: يَا هلاَ إذن من جديد بالصديق القديم الذي له عندي دَيْن في عنقي لابدّ من تأديته وتسديده، عندئذٍ تهيّأتْ لي الفرصة لأجيبه على  تحيته الرّقيقة، وتعليقه الطريف .

 

على ضفاف إمارة النكور

أيها الصّديق المُنتمي لصفوةِ الأصدقاء المحسُوبين على ذلك العهد الغابر الذي نطلق عليه بالزّمن الجميل، هذه الذكريات الجميلة، والومضات الإسترجاعية الرائعة التي عملتَ على نقلنا معك فيها وبها في تعليقك البليغ في رمشة عين، أوفي لمحٍ من البصر إلى الماضي االقريب البعيد، في سهول “تمسمان” الخصبة المعطاء بالرّيف الوريف المحاذية لسواحل البحر الأبيض المتوسّط، أو السّهوب الفيحاء التي “تمسّ” الماء، ومنها نقلتنا إلى “إمارة بني صالح” “نكور” التاريخية الماجدة الواقعة على شطآن سواحل السّواني الشاسعة شماليّ المغرب التي لم يعد لها وجود اليوم كما كانت عليه في غابر الأزمان سوى في الذاكرة، مثل “مدينة الزّهراء” الأندلسية القريبة من حاضرة قرطبة ،حتى وإن بقيت من هذه الأخيرة أطلال، وجدران، ومعالم، ومآثر متهالكة، حيث سادت فيها كذلك حضارة متألقة ثم إنكفأت توارت، وتهاوت، وإندثرت، وبادت، واندرست، وتداعت أركانها، ولم يبق لنا منها سوى رزمة باهتة من القصص، والحكايات، والذكريات، والأحاجي، والمرويّات، والأساطير، وآثار بقايا السّواقي المائيّة المرصُوصة بالصّخور الصّلدة التي ما فتئت تشقّ أديمَ الثرى إلى اليوم وتفتح مسالكها وسط الأخاديد، والنتوءات، والمُنعرجات، والمُنعطفات، والمُنحدرات، والوهاد، والهضاب، والتلال، والمرتفعات، والآكام في مختلف الوجهات والإتجاهات، هذه السّواقي لم تكن تحمل إلى السكّان المياه الزلالية البلّورية الصّافية وحسب، بل كانت تجرّ وتجلب معها لهم على ميازيبها الجارية العديدَ من الرّسائل، والمراسيل، والعقود، والمواثيق محشوّة داخل جُعبٍ من قصبات متينة مُغلقة بإحكام تصل إليهم وتمرّ بأراضيهم وهي طافية والتي كانت لها صلة بمختلف المواضيع التي كانت تهمّهم من كلّ نوع .

 

في ضيافة المايا والأزتيك

 ومن هذه الأجواء والمعالم التاريخية التي ما زالت حيّة في ذاكراتنا الوَهنة وإن كان قد أصابها البلىَ والاهتراء، ونال منها تحاتّ  التقادم، والتآكل، وانصرام الأيّام، وآثار الأعوام بل ومرورالعقود والقرون، تنقلنا فجأةً  إلى الطابق الرابع من “الفندق الجديد” في خزامتنا الجميلة ( مدينة الحسيمة العامرة)  أواسط الثمانينيّات من القرن الفارط حيث كانت لنا حظوة اللقاء بصديقنا السّفير عبد الوهاب البلوقي الرّجل الذي لا تحيد البّسمة،ولا تبرح الضّحكة، ولا تغيب القهقهات العالية من على مُحيّاه أبداً حتى ولو كان في أحلك الحالات، إنه الصّديق البشوش بطبعه الذي كان يشيع الفرح، والمرح، والجذل، والسّرور بين أصدقائه،ورفقائه،وخلاّنه في كلّ وقتٍ وحين.

 

إنْ نسيتُ لن أنسى زيارته لنا في حاضرة مكسيكو سيتي المدينة العملاقة المترامية الأطراف إبّان عملي بها أوائل التسعينيات من القرن الفارط  قادماً من مدينة نيويورك حيث عشنا ساعاتٍ من الضّحك المتواصل الذي لا ينقطع، وكانت لنا حظوة الإطّلاع على معالم حضارة المايا، والأزتيك، والمُوشيك، والإستمتاع بضيافتهم حيث زرنا اهراماتهم التي كانت أصغرَ حجماً من أهرامات الجيزة وسقارة في أرض الكنانة، وشنّفوا أسماعنا بموسيقاهم الجميلة المعروفة بالمارياتشي التي تنحدر أصولها، وتستقي جذورَها من تأثيرات الموسيقى العربية، والخرْجات الأندلسية ومن فنون الطروبدور التي نقلها الى المكسيك المهاجرون الأوائل من الإسبان الى هذا البلد الكبير، وتعرّفنا على تقاليدهم، وعاداتهم، وعوائدهم، ومدنهم القديمة العريقة، وحضارتهم الغرائبية الضاربة في القدم، فضلاً عن تذوّقنا لأطباقهم المميّزة التي أصبح لها اليوم صيت بعيد، وشهرة واسعة في مختلف أرجاء المعمور، والمعروفة باستعمالهم بإفراط للفلفل الحارّجدّاً مثل صنف يُسمّى “أبانيرو”، وآخر يُسمّى “خالابينيُو” اللذيْن ينافسان بشراسة “شطّة الهنود” الأسيوييّن، و”هريسة” تونس الخضراء بل يتفوق عليهما بمراحل .

 

 في مدينة ناطحات السّحاب 

وبعد بضعة أشهرٍ لم أتوانَ، ولم أتأخر في أن أردّ له الزيارة فشددتُ الرّحالَ، وعقدتُ العزمَ على السّفر الترحال والتجوال فذهبتُ لزيارته في مدينة ناطحات السّحاب ويا لها من زيارة إلى بلاد العمّ سام، إذ هناك كنّا على موعدٍ  من جديد مع الطرائف، والنوادر، والحكايات، والنكت،المُستملحات والحياة الهادئة الهانئة التي كنا نعيشها على الفطرة من غير ما تصنّع، ولا مصانعة أو محاباة أو مداهنة حيث استمتعنا بتلك المدينة العملاقة التي لا يُغمض لها جفن، والتي خاطبها  أمين الريحاني ذات يومٍ قائلاً لها: “أحشاؤكِ من حديد، وفيها عقمة، وصدركِ من خشب وفيه سُوسة، وفمكِ من نحاس وعليه صدأة، وجبينكِ من الرّخام وفيه جُمود، تشربين ذوب الإبريز، وتأكلين معجون اللّجين، وتنتعلين أجنحة العلم، أمّا قلبكِ فقارّ يشتعل..!”.. وهكذا كنّا نجوب ونذرع بلا توقّف وبدون كلل ولا ملل شوارع يورك الجديدة، فمن الجادة الخامسة،أو الشارع الرئيسي الخامس الشّهير بها الى” سينترال بارك”، ومنه إلى حيّ هارليم المتأجّج بالألوان الزاهية والذي تصدح في جنباته موسيقىَ الجاز الصّاخبة بدون انقطاع ، والمعروف بالمأكولات الإفريقية – الأمريكية، ومنه الى  المدينة الصّينية العجيبة ( تشِينَا تاوْن) المجاورة لـ”إيطاليا الصّغيرة”، ثمّ الى تمثال الحرية  السّامق القريب من منهاتن الذي كان قد قدّمه الفرنسيّون هديّةً الى أحفاد العم ّ سام عام 1886 تخليداً للذكرى المئوية لاستقلال أمريكا، ومنه الى البُرجيْن العملاقين الشاهقيْن المنكوديْن التوأميْن اللذيْن لم يعد لهما وجود اليوم على خريطة هذه المدينة الغاب التي هام بها في العشرينيّات من القرن الفارط الشاعر الاندلسيّ المعروف فيديريكو غارسّيا لوركا الذي خلّف لنا عنها أحدَ أكبر دواوينه وهو “شاعر في نيويورك”. حقّاً وعجباً، صدق من قال: ليس في الإمكان أجمل مِمَّا كان !.

***

(*) كاتب من المغرب ،عضو الأكاديمية الإسبانية –الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *