أوراق رمضانيّة

Views: 802

د. جورج طراد

 

للسنة الثانية على التوالي يضطهدنا السيّد” كوفيد 19″ فتبدو كلّ امورنا متعثرة. ليس هناك من سفَر مُتاح في الأفق، إلا إذا كان مربوطا بالحجْر والعزْل، وهما صيغة ملطّفَة للحبْس الذي لا طاقة لنا، في هذه الظروف الضاغطة، على تحمّله. أمّا الأصدقاء والأعزاء والأحبَّة، فالكوفيد اللعين دونهم،” فليْتَ دونَك بيدًا دونَها بيدُ”، على ما كان يقول المتنبي.

  على هذا الأساس المؤلم لم يتبقَّ أمامنا حتى إشعار آخر، سوى السفر بالخيال إلى أبوظبي، على مَتْن ذكريات غالية، للمشاركة في طقوس الشهر الفضيل في قصر الشيخ نهيان بن مبارك، وهي طقوس راسخة في البال تعمَّقتْ على مدى عشرات السنين، وليس من السهل تجاوزها أو التفلُّت ممّا تشعله في القلب والوجدان من عاطفة وحنين.

 

والطقوس الرمضانيّة في قصر الشيخ نهيان هي طقوس متكاملة يحفظها عن ظهر القلب كلّ أصدقاء  ومحبّي الشيخ نهيان، وهم كثرٌ من دون شك، ومنتشرون في كل جهات الكرة الأرضية بحيث أن مائدة الإفطار اليومي عنده، طوال أيام الشهر الفضيل، تكاد تكون شبيهة بجلسة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة، لكثرة ما تضمّ من ضيوف ينتمون إلى عشرات الجنسيات المختلفة. وسيّد القصر يهتمّ بكل ضيوفه، فردا فردا، حتى ليشعر الجميع بأن لهم في هذا البيت العريق مكانة خاصة جدّا.

والحقيقة أن هذه الحفاوة قد ورثها الشيخ نهيان عن المغفور له والده الشيخ مبارك بن محمد، وهو يورِّثها لأبنائه بعد عمر طويل، بإذن الله، فيبقى القصر عامرا بمحبة الناس وتبقى الأبواب فيه مشرَّعة لاستقبال كل الأصدقاء والمحبين الذين كانوا يضبطون أجندتهم السنوية ليخصصوا عدة أيام للمشاركة في الطقوس الرمضانية العريقة في قصر الشيخ نهيان وفي الخيمة  الخاصة به في مطعم” ليالي الحلميّة” التابع لفندق” رويال ميريديان” الراقي. وجديد هذا العام في قصر الشيخ نهيان أن نجله الوزير الجديد، الشيخ شخبوط بن نهيان، الذي تسلم حقيبة الشؤون الخارجية في دولة الإمارات قبل أسابيع قليلة، سيكون إلى جانب أبيه في استقبال الضيوف، فتكتمل العراقة في هذا البيت الأصيل: من الجد الشيخ مبارك، إلى الإبن الشيخ نهيان، إلى الحفيد الشيخ شخبوط. وكم  أنا معتز وفخور لأنني واكبت الأجيال الثلاثة وكان لي الحظ لأشاركهم في طقوس الشهر الفضيل.

  هذه السنة، لا يمكنني أن أتخيّل  هذه الطقوسيات الرمضانيّة الغالية، وسْط ما يفرضه جبروت” الجنرال كوفيد” من إجراءات صارمة وقاسية للغاية تبدأ بالتباعد الاجتماعي وتنتهي بوِرَش التعقيم التي لا تنتهي، مرورا بالوساوس التي تقض المضاجع وتجعل شبهات العدوى طاغية على الجميع، بحيث بات المرء يخاف من أقرب المقربين إليه، وأحيانا يرتعب من أهل بيته إذا ما تناهى إلى مسامعه أنهم زاروا أماكن يتوهّم بأنها موبوءة!

  ويبدو أن ثقافة ” الكوفيد” المرعبة هذه، قد بدأت تنسحب على كل المرافق في حياتنا. فمَنْ كان يتخيّل مثلا، قبل حفنة من السنوات، أنك إذا التقيْتَ صديقا لك عزيزا بعد طول غياب، ستكتفي بإلقاء التحية عليه على بعد مترين أو أكثر، فلا يرى ابتسامتك، ولا تتعرّف إلى ملامح الشوق في قسمات وجهه.. كل ذلك بسبب الكمامة اللعينة التي جعلت الشاعر الشعبي ينتفض ويقول:

كورونا الجيتي من الصينْ 

مطرح ما وعِيتي نامي

بلْكي  عن  وجْ  الحلوينْ

فينا   نشيل   الكمّامي.

  لكن لا يبدو أن هناك أملا كبيرا في أن نستغني قريبا عن الكمامات في ظل هذه الجائحة الظالمة التي تتناسل سلالات وتتحوَّر لتستعصي على فعالية كل أنواع اللقاحات. ونمط حياتنا على الأرجح سيتغيّر كثيرا، فتتراجع العلاقات الاجتماعية، وتختلف عادات العمل ومقاييس النجاح، وصولا إلى العواطف والواجبات العائلية وغيرها الكثير. فالغالب، مثلا، أن أطفالنا لن تكون لهم ذكريات مع رفاق الدراسة، ذلك أن تعليم “الأون لاين” لا يُبقي لقواعد الرفقة أي مطرح. أضف إلى هذا مخاطر الإنطوائية التي يمكن أن تٌفقِد حياتهم كل بريق لأنهم  يلازمون بيوتهم ولا يبارحونها إلا في ما ندر. وقد يكون على حق مَنْ يطالب، والحالة هذه، بأن نعمل لاكتساب مناعة نفسية وليس مناعة صحيّة فحسب.

  ما لنا ولهذه المخاوف الآن؟ يكفينا أن كتاب الذاكرة يمتلىء بالصور الممتعة عن أجواء شهر رمضان الفضيل في ربوع الشيخ نهيان بن مبارك. نسترجع أوراقه واحدة واحدة، في هذه الظروف الصعبة ونستمتع بها: من الإفطار الدافىء، إلى رجْع الابتهالات وهي تملأ جوانب حديقة القصر في خلال صلاة التراويح، إلى الأحاديث الممتعة في الخيمة العامرة، وصولا إلى جلسة ما قبل السحور المخصصة للمقربين من الشيخ نهيان الذي يتولى بنفسه، خلال السحور، تقديم الطعام لضيوفه، وفق التقاليد العربية العريقة.

  تسترجع كل هذه الذكريات المضمَّخة بعطر المحبة والتقدير، وتمضي قدُمًا إلى أخذ جرعة اللقاح على أمل تجاوز آثار الكوفيد، فننتصر جميعا عليه  ونعود في رمضان المقبل، بإذن الله، إلى ربوع الشيخ نهيان سالمين معافين، فنلتفّ حول سيد القصر وهو يستقبل ضيوفه بابتسامته العريضة المعهودة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *