بورخيس: أنا عاشق الأميرة الفينيقيّة أوروبا

Views: 704

أحمد فرحات*

هذه هي الحلقة الخامسة، وليست الأخيرة، من حوارٍ بانوراميّ كنتُ أَجريته شخصيّاً، مع كبير أدباء أميركا اللّاتينيّة، الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 – 1986). كان ذلك في باريس في العام 1981، وتحديداً في منزل الصديقة ليونور غونزاليس، النّاشطة الثقافيّة الفرنسيّة من أصل أرجنتينيّ، والتي إليها يعود الفضل في وصلي ببورخيس، وجعْله يَمنحني أكثر من أربع ساعات ونصف الساعة من وقته الثمين، كان خلالها مُتجاوِباً بحماسة مع جدلِ الأسئلة والأجوبة والمُناقشات.

سألتُ بورخيس:

غالباً ما تتحدّث عن شعراء الإغريق الكبار: هوميروس، هسيودوس، أبولونيوس، بنداروس، وكذلك الشاعر الروماني الكبير فرجيل، صاحب ملحمة “الإنياذة”؛ ولا تتحدّث، مثلاً، عن الشاعر كليماخوس بن باتوس، هذا الإغريقيّ العظيم الذي وُلد في “قورينا” (“شحّات” في شرق ليبيا اليوم) عام 305 ق. م. ومات في أثينا عام 240 ق. م.، وكان رائد الثورة على الشعريّة الكلاسيكيّة التليدة الأولى، كما تجسَّدت في المَلاحِم الكبرى وغيرها من القصائد الإغريقيّة الطويلة، من خلال كِتابته “الأبيغرامة”، أي القصيدة القصيرة أو القصيدة/ النبضة.. فما تعليقك؟

– طبعاً أعرف في الصميم قيمة الشاعر كاليماخوس بن باتوس ودَوره الرياديّ الذي تشير إليه؛ وهو عندما كَتَبَ “أبيغراماته”، لم يلجأ إلى ذلك عن عجزٍ في كِتابة المَلاحِم، وإنّما كان تَوقاً منه إلى التغيير والتجديد. فلقد سبقَ له، مثلاً، وكَتَبَ مَلحمةً تتجاوز الألف بَيت، جاءت تحت عنوان “هيكالي”. كما كَتَبَ قصائد طويلة، من أهمّها قصيدة “الأسباب”، وقصيدة “الماء والصخر”، وقصيدة “هَياكِل اللَّيل والنّهار”، وقصيدة “الخيول الناريّة” وقصيدة “البحر النّاطِق”، وقصيدة “الإله الصديق”، ويقصد به أبّولو، إله الشعر عند الإغريق.. وكان يَعتبره عوناً له في قياميّة الشعر لديه باستمرار.

غزير النِّتاج الأدبيّ كان الشاعر كليماخوس، شِعراً ونَثراً، وقصائده القصيرة شكَّلت صدمةً لشُعراء عصره المُحافِظين، فشنّوا عليه حَرباً لا هوادة فيها، وعلى رأسهم شاعر جزيرة رودس “أبولينوس الروديسي”، الذي صنّف كليماخوس في طليعة المُسيئين إلى مجد القصيدة الإغريقيّة العظيمة، والدّافعين بها إلى مهاوي الركاكة والابتذال والسقوط.

لكنّ شعراءَ أغارقة آخرين أنصفوه واعتبروه علامة مدهشة من علامات تطوّر القصيدة الإغريقية، والإيغال، من خلالها، في تأسيس تيّار شعري غنائي أكثر شفافيّة وعذوبة وتعبيراً عن الانحياز للإنسان في مَسيرته الوجوديّة المُواجِهة للُغز الموت، وتدوير الصراع مع هذا الموت، كي يفضي إلى الوجود المُعافى والأصفى، ما جَعَلَهُ لؤلؤةَ الشِّعرِ الإغريقي في العصر الهيلينستي (عصر الحضارة اليونانيّة المُختلطة بالحضارة الفينيقيّة الشرقيّة)، وغدا، من جانب آخر، مُلهِماً لشُعراء الإسكندريّة، وخصوصاً بعدما انتقلَ إليها من قورينا ليُقيم فيها، ويكون أوّل مَن يُدير “مَكتبة الإسكندريّة” التي فَتحت أبوابها للجميع في العام 300 ق. م. وغَدت المَكتبة الأشهر في التاريخَيْن القديم والحديث.

أحسدكَ سيّدي على ذاكرتك الوقّادة التي تُخوِّلُكَ حفْظَ عناوين قصائد بحالها لكليماخوس بن باتوس.. والآن أسألك: هل سبقَ وقرأتَ للشاعر الفينيقيّ “ملياغر” ابن العصر الهيلينستيّ السيو/ ثقافيّ بامتياز؟

– سمعتُ به من بعض الشعراء والنقّاد في اليونان وإيطاليا وكذلك هنا في باريس، لكنّني لم أقرأ له، وذلك بعدما أحبطوني بقولهم إنّ ثمّة صعوبةً بالِغةً في العثور على آثارٍ له مطبوعة.. والآثار التي طُبعت له سابقاً، شحيحة ونافِدة في المَكتبات.

أنا لديّ نسخة من أنتولوجيا شعريّة لملياغر، ضمَّت، فضلاً عن قصائده، قصائد لشعراء من زمنه، ومن الزمن الذي سبقه، جَمعها هو، وأَصدرها تحت عنوان: “الإكليل”، ويُشرّفني أن أهديك إيّاها في لقائنا المُقبل؟

– شكراً لك مُسبّقاً على هذه الهديّة، وشكري لكَ سيتضاعف في ما لو تكرَّمتَ الآن ووضعتني في أجواء هذا الشاعر، ومساحات قلقه.. ثمّ ماذا تقول في مَنزلته الإبداعيّة بوجهٍ عامّ؟

أشكركَ سيّد بورخيس على توجيه هذه التساؤلات إليّ، فهي تنمّ عن تشريفٍ استثنائيّ كبير وتاريخيّ لشخصي الثقافيّ قد لا أستحقّه بالتأكيد من عملاق مثلك. ملياغر سيّدي (140 ق. م. – 60 ق. م.) هو أحد أهمّ شُعراء فينيقيا في العصر الهيلينستيّ. كان يُجيد ثلاثاً من لغات عصره: الفينيقيّة والآراميّة واليونانيّة، وكَتَبَ أشعاره باليونانيّة على شكل قصائد قصيرة (أبيغرامات)، حوالى 136 أبيغرامة تتوزَّع موضوعاتها على الحبّ الإيروتيكيّ، وهاجس المَوت، وعناصر تكوين العالَم، ومُحاورات فلسفيّة مع الآلهة، فضلاً عن انحيازه الدائم للإنسان، والإعلاء من شأنه، مهما كان عِرقُه ولَونُه واتّجاهاتُه الفكريّة. ولا غرو، فهو شاعر المُواطَنة الأوّل في التاريخ البشريّ. يقول: “إنّنا جميعاً كبشر نسكن وطناً واحداً هو العالَم”. و”الإنسان أسمى المخلوقات طالما هو يحترم وجودها وخصوصيّاتها الحياتيّة”. وقد أوصى ملياغر بالكتابة على شاهدة قبره ما يلي: “أيّها المارّ من هنا، إليكَ أقول: كما أنتَ الآن، كنتُ أنا؛ وكما أنا الآن ستكون أنتَ، فتمتَّع إذاً بالحياة لأنّكَ زائلٌ فانٍ”. وهذه الوصيّة الأخيرة كان نَقَشَها على شاهدة قبر شاعرنا النحّاتُ الهلينستي آرابيوس.. هذه باختصار بضعة خطوطٍ عريضة عن ملياغر وشعره وفلسفته في الحياة.

– حسناً، أشكركَ على هذه المعلومات الجوهريّة عن ملياغر، هذا الشاعر الفينيقي/ اليوناني الوجه والثقافة؛ فهو يبدو لي شاعر الثوابت الأولى للكائن: جغرافيا الأرض الواحدة، الهويّة الإنسانيّة الجامِعة، والمصير البشريّ الواحد. وسأحتفظ له بركنٍ ركينٍ في ذاكرتي، وسأسعى قُدُماً لتأسيس عقْدٍ مَعرفيّ ذاتيّ وشامل مع شِعره، وشخصه، وخصوصاً بعد اتّصالي بالمَكتبة المركزيّة في أثينا، أو مَكتبة الكونغرس في واشنطن… وبقي لي أن أسألكَ بعد: هل تحفظ شيئاً من شِعر هذا الشاعر؟

نعم سيّدي، أنا أحفظ لملياغر العديد من القصائد القصيرة، كوني قمتُ بترجمتها إلى العربيّة عن الإنكليزيّة، ومنها هذه الأبيغرامات الثلاث. الأولى بعنوان: “إلى آسيجين الرجل المجهول”، وتقول:

“أيّتها الأرض/ يا أمّ الكائنات جميعاً/ لك التحيّة المبجّلة/ ها هو آسيجين/ الذي كانت خطاه دوماً/ خفيفة على أديمك/ يأتيكِ الآن بسحابة خِفّته الأخيرة/ فكوني أنتِ خفيفة عليه/ كوني أنيسة له أينما حلّ/ في طريقه إلى العالَم الآخر/ الذي تُباركه الآلهة بفرح/ ليس كالفرح الذي نعرفه”.

أمّا القصيدة الثانية، فهي بعنوان: “موت الحبيبة”، وتقول: “بإحساسٍ يُشبه إحساس تعالي رعود السماء/ وهبوطها الصارِم اللّامع/ خطَفتها منّي يا موت/ وتَركتني عبداً طوعيّاً لك/ تركتني ذليلاً، مُحطَّماً/ لا ألوي على شيء/ هيّا ألحِقني بها اللّحظة/ إنْ كنتَ قويّاً يا موت/ وإذا جَبُنت عن فعل هذا/ فأنا سأرحل إليها على طريقتي/ وأَجعل يقين سلطتك هباءً منثوراً”.

أمّا القصيدة الثالثة والحاملة عنوان: “أنا الكلّ والكلّ أنا”، فتقول: “الإنسان الذي على شاكِلتي وشاكِلتك وشاكِلتَه/ هو أنا/ حتّى ولو أتيت من أقاصي العدم/ عندما تراني هنا في “غدارا” (المكان الذي وُلد فيه الشاعر)/ أو في مدينة صور/ أو في جزيرة كوس/ تراني في العالَم كلّه دفعةً واحدة/ أفكاري تمتطي ظهر الهواء/ ثمّ تتحوّل إلى شِعر/ يُحوّل بدَوره مجرى الأشياء كلّها/ إلى طاقة مُتمادية واحدة/ لا تستوعبها الأرض/ ولا السموات/ ولا طبقات النجوم المُتناهية فيها/ أمّا لماذا؟/ فلأنّها أنت وأنا وهو/ في مَظاهِر شتّى واحدة”.

بعد سماعه هذه القصائد، هزَّ بورخيس برأسه إعجاباً.. ثمّ قال:

– لقد جعلْتني أتشوَّق لمُلاحَقة عَالَم هذا الشاعر، وبسرعة تُشبه سرعةَ مجرى الأشياء في ذاتها التي تكلّم عليها. ولستُ أَستغرب، على أيّ حال، أن يأتي الفينيقيّون أسياد البحار، وأسياد الحَرْف والأبجديّة، بشاعرٍ من وزن ملياغر. لكن على ما يبدو، فإنّ الفينيقيّين الذين كانوا من أوائل بناة الحضارة في عموم ضفاف البحر المتوسّط وجُزرِه، ظلَّ أدبُهم الرفيع غير معروف وغير مدروس، كما دُرست أغلب المُدن/ الدول التي أسّسوها، ومن أبرزها مَمالِك صور وصيدا وجبيل وأوغاريت وقرطاج وباليرمو وهيراكليون وغيرها من مُدن/ دول شبَكَت المتوسّط كلّه بمَواطِن حضاريّة رفيعة جدّاً في نهضتها ورياديّتها، ولمدّة تجاوَزت الألف سنة. وكان لكلّ مَمْلَكة فينيقيّة مَعبدٌ دينيٌّ مركزيٌّ بعَيْنه، على غرار مَعبد ملكارت في صور. ويَذكر هيرودوت الذي كان يعيش في صور الفينيقيّة في مُنتصف القرن الخامس ق. م. أنّه كان يتردّد على هذا المَعبد، وقد بَهَرَتْهُ فلسفة هندسته العامّة، وكذلك أعمدته المُزدانة بالذهب الخالِص، وبالزمرُّد الذي يُضيء اللّيل بنوره الساطع.

وحكى هيرودوت أيضاً عن الطقوس والصلوات والأناشيد التي كانت تُتلى في مَعبد ملكارت، والتي تُعتبر في رأي العديد من مؤرّخي الأدب والشعر، بمثابة أدب كِهانة رفيع، ينبغي أن تُدرس نصوصه، وتُدرس معها سائر الأساطير الفينيقيّة الخالدة إلى يومنا هذا، وعلى رأسها أسطورة الأميرة الفينيقيّة: أوروبا، ابنة ملك صور أجينور، والتي اختطفها زيوس، كبير آلهة اليونان، بعدما حوَّل نَفسَه إلى ثَورٍ أبيض، وحَمَلها على ظهره، وعَبَرَ بها ماء المُتوسّط إلى جزيرة كريت، وهناك عاد إلى صورته الأولى كشاب وسيم، وتزوّجها، وأنجبَ منها ثلاثة أطفال ذكور. ولم تنفع بعد ذلك كلّ مُحاولات استرداد الأميرة الفينيقيّة: أوروبا، وإغرائها بالعودة إلى مدينتها العريقة صور.

ونظراً لشيوع هذه الأسطورة، وتعلُّق الناس بها، تسمَّت باسمها لاحقاً أهمّ قارّة من قارّات هذا العالَم: أوروبا التي يعشقها كثيرون من خارجها، ويحلمون بالإقامة الدائمة فيها.

وهل أنتَ عاشقٌ لأوروبا، ولا ترغب بالعودة إلى الأرجنتين بلدكَ الأصليّ؟

– نعم، أنا عاشقٌ كبير لأوروبا، وأنا عدتُ إليها، لأنّها هي، في الأصل، بلدُ آبائي وأجدادي. وهذا لا يعني البتّة، أنّني أتنكَّر للأرجنتين، وحبّي العظيم لها، والوفاء لأرضها، وطيب هوائها، وحلاوة ثَمَرِها.

وهل ترغب بزيارة لبنان إذا واتتكَ الظروف المُلائِمة لذلك، وتتفقَّد بالتالي صور، مدينة الأميرة الفينيقيّة اللّبنانيّة: أوروبا؟

– أكثر من مرّة خطَّطتُ لزيارة لبنان، لكنّ ظروف حربه الأهليّة في مُنتصف السبعينيّات وتداعياتها، كانت تُعاكسني تماماً. ولكنّ هذا البلد لم ولن يُغادِر ذاكرتي، كعنوانٍ لمكانٍ حيويّ زاخرٍ بالفكر والثقافة والفنون ومَعارِف الشرق والغرب، وهي تحتدم فيه أوقع احتدام وأغناه. وكان أوّل مَن أشار عليّ بضرورة زيارة لبنان، الشاعر والمَسرحي جورج شحادة، وأنا في المُناسبة من مُحبّي شِعر هذا الفرنسي من أصل لبناني وأدبه المسرحي، وكذلك من مُحبّي أسطورة الأميرة الفينيقيّة: أوروبا وعشّاقها.

***

(*)مؤسسة الفكر العربي

(*) نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *