رنده كعدي… بَريقٌ تَشاوَفَ على الإبداع

Views: 1290

 الدكتور جورج شبلي

 

منذُ نَبَتَ بُرعمُ التّمثيلِ، عندَنا، لم يَمسَحْ دمعتَهُ على قواعدِهِ النّابِهَة، حتى قامَ موسمُ المُبدِعينَ المَهَرَة، هؤلاءِ الذين، لو لم يكونوا، لَعَظُمَ هَولُ المُصاب. وقد صدقَ القَول: إنّ الطبيعةَ تشتغلُ أيّامَ السنةِ لتصنعَ زهرةً فاتِنَة، أمّا الشَّوكُ فيخلقُ من أساسِهِ شَوكاً.

رنده كعدي، واحدةٌ مِمَّنْ تتأهّلُ بهم مآدبُ الفنّ، وتُرفَعُ لهم الكؤوس، فأمامَ أَطباقِ إبداعِها، لا يقدّمُ أَغلَبُ سواها، في مَضيفاتِهم، إلّا الطّعامَ البائِت. لقد قيلَ: لولا الصّورةُ لَعَظُمَت محنةُ الشِّعر، وفي ندوةِ التّمثيل، آمنَت رنده بأنّ العاديَّةَ المُكَرَّرَةَ هي أَقتَلُ المعاطِب، فخطَت حركتُها، باستمرار، في طريق التّجديد والإبتكار، وكانت بين الأَقلّينَ الذين إذا شاهدتَهم، لا ينقطعُ نَبضُكَ، ولا تَمَلُّ عينُكَ، الى أن تندفعَ، تلقائيّاً، لتقول: عندما دخلَت رنده كعدي على فَنِّ التّمثيل، حَسُنَ نَسْلُه.

 

هي لا تتجنَّبُ المُخاشَنَةَ والعِناد، عندما تُسألُ الذّهابَ الى المُلايَنَةِ في مستوى الإنتاجِ الفنّي، ولا عَجَب، فالإِمامُ لا يذهبُ الى ذَميمِ القَول. لم تردَّ رنده، مرّةً، لَهفةَ اللَّقطةِ في أن تُؤَدّى بأَرقى صَنيعة، فهي ترشِفُ اللَّقطةَ من شَفَتَيها، وتُرَخِّمُها وكأنّ لها عليها سلطاناً، لذلك، جاءَت نتاجاتُها من الأَطايبِ، وكأنّها نَثرُ الدُرّ، أو فَلقَةُ قمرٍ على بُرجِ فضَّة. فهذه المرأةُ، يهتزُّ تحتَ ثيابِها جِنِيُّ الإِبداع، هذا الذي بينه وبينها قَديمُ عِشرَة، فالأداءُ بعضُ جسدِها، وهي معه نَفسٌ واحدة، فلا غَروَ إنْ عقدَت قِرانَها على النّجاحِ، في ثَباتٍ للتَفَوّق.

مع رنده كعدي، أَنبَتَ صَدرُ التّمثيلِ ثَمَرَ التَرَقّي، ونُثِرَ اللُّؤلُؤُ على وجهِه. معها، نُقِشَ الأداءُ على خاتَمِ مَلِك، وصارَ له مَذهبٌ خاصٌ، أو  ملامحُ جديدةٌ لم تُشَبَّهْ إلّا بِشِيَمِ صاحبتِها، وآثارِ فرائِدِها. أمّا ميزةُ أدوارِها، فتكمنُ في قُدرةٍ فريدةٍ على قَولبتِها، وهي، مع رنده، “عشائريّةٌ” صارِمَةٌ في شروطِها، لتبدوَ غيرَ متحرِّرَةٍ من سلطةِ صاحبةِ الكلمةِ والهيمنة، ولا فَرقَ إِنْ هي عكسَتِ الرقّةَ، أو هي عكسَتِ القَسوة.

خَشَبةُ التّمثيلِ أَكرَمَت وِفادةَ رنده، وفتحَت لها بيتَها، وحَضَنَت تمرُّدَها، ليُصبِحا شَقَيقَتَينِ، لا مُتَعارِفَتَين فقط، خاصةً، بعدَ أن دَسَّت رنده ولاءَها للإبداعِ في كلِّ ظهوراتِها. هذه الخشبةُ، ربّما لم يكنْ في وارِدِها أنّ الآفاقَ لها غيرُ غَشاوة، وأنّ الحالَ ترسمُ غيرَ الإِنهاك، وموتِ الأذواق، واندحارِ الإبداعات، حتى تلقَّت دعوةَ رنده التي عوَّدَتها على أن تُمَرِّسَ رئتَيها على رياحِ المُبتَكَرِ والرّائع. فاشتعلَ إحساسُها، وكأنّها تُعلِنُ أنّها بدأت تَنعمُ، من جديد، بِفَيضِ السِّحرِ والقيمة.

ستارةُ رنده لم تنحسِرْ عن خشبةٍ لِتُسمَعَ وتُرى، إنّما عن مَخاضٍ غيرِ مَرئيّ، أو عن إِعصارٍ ثوريٍّ تبدو فيه رنده البطلَ وقد جُنَّ في كَفِّهِ رِمحُه، وكأنّها، بمُفرَدِها، في غِمارِ معركةٍ لا استسلامَ فيها، ولا تَراجُع، دافِعُها ذلك الجَوُّ الإلتزاميُّ بالنّجاح، إيثاراً لكرامةِ الفنِّ الذي أَجَّجَت فيه رنده وِفراً من الإِباء، وكانَت إِحاطَتُها إيّاه دارَ رعاية، وزَرعَ أمجاد. من هنا، فحاجةُ التّمثيلِ الى رنده، هي كحاجةِ الغابةِ الخرساءِ الى غناءِ العصافيرِ، ليُخَفِّفَ من ذُعرِها. 

 

إنّ ذخيرةَ رنده في فنِّ الأَداء، واسعةٌ متنوّعةٌ، وقعَت في غرامِها مظاهرُ الجاه، والأرقامُ القياسيةُ، وأمكنةُ الصّدارةِ، حتى من دونِ أَوسِمَة. فخَفَرُ رنده، بالرّغمِ من هَزجِ صوتِها في نَدواتِها التمثيلية، هو لقبٌ يتحوَّلُ الدّمُ، معه، مِسكاً. وخُلقُها حفلٌ مفتوحٌ في مملكةٍ عارمة، مَفطورٌ على الخَير، وكَرَمِ الطِّباع. ومَنْ كان مذهبُهُ المحبّة، كرنده، تدبُّ في قلبِهِ ريحُ البراءةِ فيتحوّلُ كاتِمَ أسرارٍ لهذه القيمةِ المقدَّسة.  

إنّ إبداعاتِ رنده المُثَقَّفَة، هي موسوعةٌ مستفيضةٌ لأنواعِ الأداءِ والإقتباسِ، ينبغي أن تكونَ معلِّماً ماهراً يشقُّ طريقَ فنّاني الأواتي  من الأيام، وتَركُهُ يعني تَوَقُّفاً حتميّاً لعاملِ التطوّرِ الأدائيِّ عندَ المقامِ الذي تركَته، فيه، رنده، ليبيتَ في مرحلةِ تَقَلُّصٍ ورُكود، ويفقُدَ حيويَّتَه إِنْ غَزَتهُ أنماطٌ منحلَّةٌ ليس لها صِلةٌ برنده العصرِ الذَّهَبي، هذه الرَّنده التي، وإن كان بعضُ الأدائيّين يَرضَونَ من القصيدةِ بِبَيتٍ جَيِّد، فالأبياتُ الجيّدةُ، في إبداعاتِها، مُتلاحِقةٌ لا تنقطع.  

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *