“مؤسَّسةُ الفكر العربيّ”: حين يُصبح الحلمُ حقيقةً

Views: 283

د. يوسف مكّي*

 

قبل عشرين عاماً من هذا التاريخ، عَقدتْ “مؤسّسةُ الفكر العربيّ” مؤتمرها الأوّل في مدينة القاهرة، في فندق رويال نايل تاور، بحضور نُخبة من القادة والمسؤولين والمُفكّرين العرب ومشاركةِ شخصيّاتٍ عالَميّة، وبرعاية صاحب السموّ المَلكَيّ، الشاعر والأديب، الأمير خالد الفيصل، المؤصِّل لفكرة استثمار المال في الثقافة والفكر وتفعيل الحوار الهادف إلى تنمية الاعتزاز بثوابت الأُمّة وقِيَمها، وتكريم الروّاد والمُبدعين والمَوهوبين العرب، وكان الأمير بحقّ، هو صاحب فكرة المشروع، ومُهندسه وراعي مَسيرته، منذ البداية وحتّى يومنا هذا.

وعلى الرّغم من الجهود الجبّارة والمُضنية التي بُذلت من أجل إنجاح المشروع، اختلطَ الأملُ والرجاءُ والتفاؤلُ مع الخِشيةِ، لدى الكثير من المُثقّفين، على المؤسّسة الوليدة. مَرَدّ التفاؤل إلى ما عُرف من وعي وإرادة وتصميم، لدى الأمير، راعي المشروع، وإلى ما تمّ ضخّه من جهدٍ لإنجاح الصَّرح الفكري الجديد. أمّا الخِشيةُ، فمردّها إلى فشل مُعظم محاولات التأسيس الفكريّة التي جرت في الوطن العربي في العقود الماضية.

فمُنذ بدء القرن المُنصرِم، بَرَزَتْ مُحاولاتٌ جادّة، بخاصّة في مصر والعراق وبلاد الشام، قادَتْها نُخبةٌ من المُثقّفين ورجال الفكر، وبَرَزَتْ أسماءٌ لامِعة في سماء الثقافة والأدب، طمحتْ إلى صناعة عصرِ تنويرٍ عربيٍّ جديد، تسود فيه روح التسامُح، والانفتاح على الفكر الإنساني العالَمي، وإعادة صَوْغ الموروث العربي والإسلامي، بما يَنسجم مع التطوُّر ومُتطلّبات النهضة. وقد كان من نتائجها أن نشَّطت حركةَ الترجمة ونقلت إلى العربيّة مجموعةً من روائع التراث الإنساني السياسي والفلسفي والأدبي.

كما شهدت تلك المرحلةُ بروزَ رجال مُصلحين نادوا بالتحديث والوحدة وإزالة الفروق بين المَذاهب الإسلاميّة، وتحرير العقل، ودعْم العقائد بالأدلّة والبراهين، وتطهير الدّين من البِدَع والضلالات، وتحقيق التوازُن بين العِلم والإيمان، والقضاء على الجهل، والإيمان بأنّ الوطن كما وصفه رفاعة رافع الطهطاوي، هو “مكان السعادة العامّة التي تُبنى بالحريّة والفِكر والمَصنَع”.

لكنّ تلك المُحاولات، على الرّغم من جدّيتها وما أحدثته من فعلٍ إيجابي بالعقل العربي، كانت جهوداً فرديّة، ولم تأخذ مَكانها ضمن أُطرٍ مؤسسيّة، ولذلك لم يُكتب لها التواصُل والاستمراريّة، وتعطّلت قبل أن تُكملَ مهمّتها التنويريّة التاريخيّة. وللأسف فإنّ النُّخب التي تصدَّت للتنوير، قد تمترسَت في السفوح، ولم تستطع النزول إلى القاع، بمعنى أنّ عملَها ظلَّ معزولاً عن غالبيّة الناس الذين يُفترض أن يكونوا هدف التنوير. على أنّ ذلك لا يُقلِّل من أهميّة أدوارها وعطاءاتها التي بقيت حيّة في الذاكرة العربيّة حتّى يومنا هذا.

مُحاولاتٌ في مَأْسَسة الفكر العربيّ

خلال القرن الماضي، بَرَزَتْ مُحاولاتٌ جادّة لمَأْسَسة الفكر العربي، وصَدرتْ مجلّاتٌ ودوريّاتٌ فكريّة عِلميّة جادّة ورصينة، لكنّها لم تتمكّن من مُواصَلة مَهمّتها. ويرجع ذلك بشكلٍ رئيس إلى ضُعفِ مَواردها الماليّة أحياناً، وتراجُع المَصادِر الرسميّة الراعية لها عن مُواصَلة دعْمها لتلك المؤسّسات في أحايين أخرى. يُضاف إلى ذلك اصطدام تلك المُحاولات بتعثُّر المشروعات السياسيّة العربيّة. فقد واجَهَ المشروعُ النهضوي للأمّة مُشكلات كثيرة، تزامنت مع فشل الجيوش العربيّة في معارك التصدّي للمشروع الصهيوني في العام 1948، حيث حدثت نكبة فلسطين، وفي العام 1967، حين هُزمت ثلاثة جيوش عربيّة في حرب حزيران/ يونيو وانتهت باحتلال أراضٍ عربيّة من مصر وسوريا والبقيّة الباقية من فلسطين. وقد أدّى ذلك إلى بروز مرحلة سوداويّة طغت على الأدب والفكر العربيَّين، اتَّسمت بالتشاؤم وجلْد الذّات لتتبعها مرحلةٌ أخرى تعطّلت فيها روح المُبادَرة والإبداع، وسادت فيها الأعمالُ الأدبيّة والفنيّة الهابِطة.

قبل عشرين عاماً، أُعلن عن انبثاق “مؤسّسة الفكر العربي”، مؤسّسة أهليّة دوليّة مُستقلّة. وكما جاء في بيانها التأسيسي، فإنّ هذه المؤسّسة ليس لها ارتباط بالأنظمة ولا بالانتماءات السياسيّة أو الحزبيّة أو الطائفيّة. وقد تمّت بمُبادرةٍ من صاحب السموّ الملكي الأمير خالد الفيصل، وبدعْمٍ من كَوكبة من أهل الفكر وأصحاب المال ورجال الأعمال الذين آمنوا برسالتها وأهدافها التنويريّة. وقد التزمت المؤسّسة بتنمية الاعتزاز بثوابت الأمّة ومبادئها وقيَمها، وبتعزيز التضامُن العربي والهويّة العربيّة الجامِعة.

حدَّدت المؤسّسةُ أهدافَها، كما جاء في تعريفها لذاتها، في احتضان مبدأ التنوُّع والتعدُّد وإثرائه وتشجيعه، وذلك بالتزام مبدأ الحريّة المسؤولة. وفي إطار الإسهام في الجهود الفكريّة والثقافيّة، اعتمدَت نهجَ الشراكة والتعاوُن والتكامُل مع المُنظّمات والمؤسّسات ومَراكِز الأبحاث والدراسات ذات العلاقة بالمشروعات الفكريّة.

وعند انعقاد مؤتمر فكر الأوّل، ساد كما أشرنا شعورٌ مُختلَط بين الفرح والتفاؤل بهذه التجربة الواعدة، وبين الخشية من أن يكونَ مَوسمُ الفرحِ بهذه التجربة قصيراً، وأن تكون مآلاتُها شبيهةً بمآلاتِ نُظرائها من المؤسّسات الأخرى. لكنَّ مُراجعة ما حقَّقته هذه المؤسّسة من جهودٍ كبيرة، على صعيد أداء رسالتها النبيلة، يشي بأنّ ما حقَّقته من مُنجزاتٍ عِلميّة وفكريّة مُهمّة، فاقَ توقُّعات أكثر المُتفائلين بدَورها. يكفي أنّها باتت مَوضِعَ تقديرٍ وإعجابٍ على المستوى العربي والدولي، وأنّ عطاءها المُبدِع والمُستمرّ، قد أهَّلها في غضونِ فترةٍ قصيرة، للفَوز بعددٍ من الجوائز والتكريمات العربيّة والعالَميّة تقديراً لتلك الجهود.

فخلال عشرين عاماً، عَقدت المؤسّسةُ سبعةَ عشر مؤتمراً فكريّاً، شاركَ فيها الآلاف من المُثقّفين والمُفكّرين والمُبدعين والمُهتمّين والمسؤولين، من مُختلف الأقطار العربيّة، ومن دول العالَم، كان الأخير بينها المؤتمر الذي عُقد في مَركز “إثراء” في مدينة الظهران، المُميَّز بجماله المِعماري. وكان المؤتمر على تطابُقٍ كاملٍ شكلاً ومضموناً، تميَّز بالتنظيم الرائع والدقيق، والرحابة والأريحيّة على كلّ المُستويات، وكان بحقّ جِسراً للتواصُل بين مُختلف الشعوب والثقافات وتلاقُح الأفكار.

وأفضل توصيف لتلك المؤتمرات، أنّها مهرجاناتٌ عِلميّة مُتميِّزة. أُجيد فيها اختيار مَحاوِر النقاش. ولم تقتصر هذه المَحاور على موضوعاتٍ فكريّة في الماضي أو في التاريخ، بل توجَّهت نحو المُستقبل، باعتباره يُمثِّل طريقَ النهوض واجتراح سُبل التقدُّم. وكانت هذه المؤتمرات، باستمرار، تتويجاً لمَسيرةِ كِفاحٍ عسير تقوده كوادرُ المؤسّسة في مقرّها الرئيس على مُختلف الأصعدة، وفي مُختلف المجالات الفكريّة، وعلى رأسها تحقيقُ رسالةِ “مؤسّسةِ فكرٍ” في أن تكون وسيلةً لردْم الهوّة الفكريّة والثقافيّة العربيّة وتحقيق التواصُل المَعرفي.

فمقرّ المَركز، هو غرفة العمليّات التي يجري فيها التحضير والإعداد والإنجاز للتقرير السنوي الذي يُستكتب فيه عشرات المُفكِّرين والكُتّاب من مُختلف الأقطار العربيّة، ويحمل كلُّ تقريرٍ سنويّ عنواناً مُحدَّداً.

وفي المَقرّ أيضاً، تَصدر دوريّة “أُفق” والكِتاب السنوي، فضلاً عن أكثر من مائة وثمانين إصداراً أُريد منها أن تُسهِم في توجيه الاهتمام بالفكر لدى الحضارات والثقافات الإنسانيّة، بما يَنفع المُجتمعات العربيّة، بترجمة أهمّ الكُتب عن لغاتٍ أجنبيّة حيّة عدّة. وتنوَّعت هذه الكُتب ما بين السياسي والتاريخي والاقتصادي وعِلم الاجتماع… إلخ. وبوّابة المؤسّسة الإلكترونيّة حافلة بأسماء هذه الكُتب.

يُضاف إلى ذلك، أنّ المؤسّسةَ أَطلقت مجموعةً من البَرامِج والمشروعات الرائدة الهادفة إلى تثقيف الشباب، وتحديث أساليب تعلُّم اللّغة العربيّة، والإعلاء من شأن قيَم الحوار والانفتاح على لغات العالَم وثقافاته. كما مَنحت المؤسّسةُ جوائز مُحفِّزة على الإبداع، شَملت تقديمَ مُكافئةٍ ماليّة لأفضل الإصدارات، وباعتماد أرقى المَقاييس العِلميّة وأدقّها لتحديد الفائزين. وقد تجاوَز عددُ الذين مَنحتهم المؤسّسةُ جوائزَها الـ 75 فائزاً، والهدف كان، ولا يزال، هو التحفيز على نشْر المَعرِفة، والتحريض على الإبداع والابتكار، وتطوير البنى الفكريّة والثقافيّة، وتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمُستدامَة.

هنيئاً للمؤسّسة بعامها العشرين، ولتقترب رويداً رويداً من يوبيلها الفضّي، وهي تُسهِم في رسْم طريق العرب نحو النهوض والتقدُّم. وشكراً لكلّ مَن وَضَعَ لبنةً في تأسيس هذا المشروع الفكري العتيد وضمان استمراريّته، وللجنود المجهولين العامِلين دونما كَلَلٍ على إنجاز مشروعاته على الأصعدة كافّة.

وتبريكٌ من القلب لحادي المَسيرة وقائدها خالد الفيصل، وهو يشهد بأمّ عَينَيْه، حصادَ عشرين عاماً من الجهد الشاقّ، للوصول بالثقافة والفكر العربيَّين إلى برّ الأمان، وسط الصخب والزحام، وارتباك المَعايير.

***

(*) باحث وكاتب من السعوديّة

 

   

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *