تلك النُّفوس…

Views: 33

لميا أ. و. الدويهي

حين تلتقي النُّفوس بأُخرى، تلك النَّاضجة، التي اختبرت الحياة، أو بعضٌ من أوجهها وأبعادها، ترتاح لما يَنقُصُها في الاخر، فلا تكون أُطر الشخص هي التي تحكمُ في الأمور ومُجريات الأحداث، وإنَّما العُمق…

قد لا نَجرؤ أحيانًا على المبادرة، حتَّى ولو مرَّت «سعادتنا» من أمامنا، ولا نلتقط الفرصة بالحصول عليها، أللهمَّ إن كانت فعلًا حقيقيَّة، لسببٍ أو لآخر…

ما أعنيه هو بأنَّ المجتمع والعائلة غالبًا ما يفرضون نوعًا من المقاييس التي يُنشِئون عليها معايير حياتهم- ويظنُّ البعض بأنَّنا تخطَّينا ذلك منذ زمن بعيد، إلَّا أنَّ اللاوعي يردُّ الأفراد إليها، لأنَّ نظرة الآخرين ومكانتهم، لا تزال تلعبُ دورًا أساسيًّا في اتِّخاذ القرارات، أُكملُ استطرادي لأُضيفَ بأنَّ هنالك فرقًا شاسعًا بين أن يحيا الإنسان حياته إرضاءً للناس وبين أن يختارَ ما يناسبه، وبين أن يكونَ مُتجاهلًا لكرامات الأحبَّة، أي العائلة؛ هناك خيطٌ رفيع بين إرضاء الذات وعدم اعتبار الأهل، ولكن حين تُسيطر عليهم فكرة المظاهر، وجبَ التملُّص للخروج عن طاعةِ مُجتمعاتٍ تحيا للمظاهر وليس لتحقيق الذَّات- لا نزال إلى اليوم نحكم على الآخرين بحسب مُصابهم بالحياة وليس بحسب شخصهم وقناعاتهم، فتُصبح بيئة الشَّخص ومحيطه هما معيار التحكُّم، وهنا تبدأ عمليَّة الضغط النَّفسيَّة: « ماذا سيقولُ الآخرون؟… لا يجب فعل هذا، بل ذاك… هذا صح، هذا خطأ… هكذا يجبُ أن تكونَ الأمور، فالكلُّ يفعل ذلك، فافعل/فافعلي أنت أيضًا هكذا… هل تعتقد نفسك فلان/فلانة أو مثله/مثلها؟… أنت غير ناجع في هذا المكان… هذه/هذا أنسب، هذا مُطلَّق/ مُطلَّقة… هنا فارق العمر كبير ومُعيب… (بعضٌ من المواقف المماثلة تكون صالحة لفئة وغير صالحة لأخرى، بحسب المُعطيات، فبعضٌ من الناس يخلقُوا السَّلبيات والبعض الآخر يتلقُّونها) وغيرها وغيرها من الأطُر التي تأسرُ فكرَ ونفس الإنسان، فلا يعودُ قادرًا على الإصغاء لأعماقه لفهم احتياجاته، فيُقْدم باللاوعي وبفعل «غسيل الدماغ» المستمر، على اختيار ما يُناسب هذه التفاهات، والأسوأ يكون حين يختارُ ما يريده فعلًا ويعيش بعقدةِ ذنبٍ لأنَّهُ لم يَستجِب لرغباتِ العائلة والمجتمع، التي لا تزال تُسيطرُ عليه، ويبقى عالقًا في الـ«إذا» فيكون من الصَّعب عليهِ أن يُحقِّقَ الغاية التي لأجلها اتَّخذَ قراراته… والأبشع عندما تكون المكانة الإجتماعيَّة مِقياسًا ثابتًا لكلِّ الخيارات:

«مَن قالَ بأنَّ المكانةَ الاجتماعيَّة تُناسبُ إنسانيَّةَ أحدهم أو تفوقُها رفعةً ومكانة؟…»

إنَّنا نحتاج أن نُنشِئَ أجيالًا تنمو لتُحقِّق ذاتها، فتكون تمامًا كما خلقها الله… والمهم أن نستطيع مساعدتها لبلوغِ عُمقِ ذاتِها فتأتي بثمرِها الخاص والفريد…

إنَّهُ لَمؤلمٌ حقًّا أن نُحوِّل شبيبتنا إلى أفرادٍ مُتردِّدة، تأخذَ قراراتها كردِّ فعل أو نتيجة خوفٍ من أحكامٍ مُسبقة تعيشُ تحت تأثيرِها، وهذه الأحكام تُصبحُ كطَوقٍ مُحكَم على عُنُقِ صاحبها، وإذا ما أخطأ مرَّة، أصبح خطأه حجَّة دائمة للتَّعيير والانتقاد، أو أسوأ، سلاحًا يُستعملُ ضدَّه لإحكام القبضة عليه ومُمارسة الضَّغطِ، فيُصبحُ أسيرَ خوفٍ جديد، ألا وهو أن يختارَ ما قد يستوجبُ الإدانة، فيُصبحُ مدعاة للـ«عار» بدلًا من المَفخرة، فلا يجرؤ على اتِّخاذ حتَّى ما هو مُفيدٌ وصالحٌ وقادرٌ على منحِه حقِّه في السَّعادة، فقط لأنَّ الآخرين ينتظرونه عندَ كلِّ مُفترقِ طرقٍ في حياتِه لتحويل مُجريات الأمور فيها، كما تُريدُها محدوديَّتهم وليس كما دُعيَ كلُّ فردٍ ليكون، ليُحقِّقَ بالتالي ذاتِه…

إنَّهُ لتناقضٌ عجيب، يحتاجُ إلى تريُّثٍ وصبرٍ حكيم وثبات وانتظار الوقت المناسب لتنمو هذه النَّفس وتستقرُّ في عمقِ ذاتها، حتَّى تُصغي لإلهاماتٍ فيها تصوِّبُ لها الطَّريق، وعندما يحين الوقت لفَرد الجانحَين والطيران، لا تُهشِّم هذه الجوانح مَن حَولَها لأنَّه صَفَّقَها في «سِجنِهم» الغير مَرئي وإنَّما  في واحاتٍ دفينة فيها أمدٌ لا ينتهي، تبدأ عند باب الثِّقة بالذَّات والاقرار بالحقِّ بالخيار؛ فحتَّى ولو لم يعرف مَن أنشأنا أن يَمنَّ علينا بنعمةِ التَّرشيد التي هي دومًا كسيفٍ ذو حدَّين، وجبَ التمرُّس في الإنسانيَّة وعمقها قبل مُمارستها من حَولنا تحديدًا مع أبنائنا…

 ٣/ ٥ /٢٠٢١

(https://thereader.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *