“مؤسَّسة الفكر العربيّ” ورسالتها التنويريّة

Views: 692

د. إدريس لكريني*

 

على امتداد المنطقة العربيّة تتناسل الأزمات بكلّ أشكالها ومَظاهرها، مُخلِّفةً الكثير من الإشكالات والمعضلات التي تؤثِّر على التنمية، وعلى الأمن بمفهومه الإنسانيّ، وتُرهن الأجيال الحاليّة والمُقبلة بكثيرٍ من المَخاطِر والتحدّيات.

وتشير الكثير من التقارير والدراسات إلى أنّ الفضاء العربيّ يأتي على رأس أكثر المناطق توتُّراً في العالَم، وهو ما تعكسه المُشكلات السياسيّة والأمنيّة التي تعيش على إيقاعها الكثيرُ من البلدان.

كما أنّ تقارير التنمية الصادرة عن المُنظّمات والهيئات الدوليّة تُصنِّف عدداً من الدول العربيّة من ضمن المَناطق الهشّة والأقلّ تطوُّراً، اعتماداً على عددٍ من المؤشّرات الصحيّة والتعليميّة والبيئيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي يعكسها تدهور البنى والقطاعات الاجتماعيّة، وتردّي منظومة التعليم، وارتفاع نسبة الفقر، وتفشّي البطالة في أوساط الشباب، وإقبالهم المتزايد على الهجرة نحو الخارج بحثاً عن فضاءاتٍ أفضل.

على المستوى السياسي، ظلّت المنطقة على رأس الدول الأقلّ تفاعُلاً بشكلٍ إيجابي مع المُتغيّرات التي شهدها العالم في أعقاب نهاية الحرب الباردة، حيث دخلت الكثير من هذه الدول في متاهاتٍ من الصراعات البينيّة والحروب الأهليّة، فيما تعرَّض بعضها لمجموعةٍ من الضغوط والعقوبات الاقتصاديّة.

وعلى الرّغم من الغنى والتنوّع الذي يَطبع المُجتمعات في المنطقة العربيّة في جوانبه العرقيّة والإثنيّة والثقافيّة والدينيّة؛ وعلى عكس الكثير من دول العالَم التي أدارت هذا الاختلاف بشكلٍ ديمقراطي، ما قوّى وحدتها ودَعَمَ استقرارَها، فقد فشلتْ مجموعةٌ من الدول العربيّة في استثمار هذا الغنى وتدبيره بشكلٍ بنّاء، ما أَفرز الكثير من الصراعات، التي لم تخلُ من عنفٍ وتطرُّفٍ في كثير من الأحيان.

لكن في المقابل، استوعبت دولٌ كثيرة المَخاطر والتحدّيات التي باتت تُواجِه العالَم في زمن ما بعد الحرب الباردة، وسَعتْ إلى طَيّ الخلافات والصراعات التي واجَهتها، عن طريق بناء تكتّلات اقتصاديّة وازِنة. ومن الأمثلة على ذلك دول الاتّحاد الأوروبي التي كثَّفت من مُبادراتها التنسيقيّة والتعاونيّة لكسْب رهاناتٍ مُشترَكة، ودول شرق آسيا (النمور الآسيويّة) وأميركا اللّاتينيّة (الأنديز)، بعدما أرست تعاوُناً اقتصاديّاً مَكَّنها من تحقيق مجموعة من الإنجازات. غير أنّ البلدان العربيّة، وعلى العكس من ذلك، لم تستطع بناء تكتُّلٍ قادرٍ على مُواجَهة التحدّيات الداخليّة والخارجيّة، على الرّغم من الإمكانيّات المُتوافِرة لديها، ما كلّفها الكثير من الخسائر، وأَسهم في تعميق مشكلاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة..

وعلى الرّغم من الآمال التي ولَّدها الحراكُ العربي الذي شهدته العديد من دول المنطقة في العام 2011، فقد اتَّخذ طابَعاً دمويّاً في عددٍ من البلدان. وأمام هذه الأوضاع، تنامَت حدّة المَخاطر والتهديدات داخل المنطقة، سواء تعلَّق الأمر منها بتمدُّد نشاط الجماعات الإرهابيّة وتصاعُدها التي وصلتْ حدّاً لا يُطاق في بعض الأقطار العربيّة، أو استغلال بعض القوى الإقليميّة والدوليّة هذا الواقع لمُمارَسة تدخُّلاتٍ عَلنيّة ومُقنَّعة، كان لها الأثر في تعميق الجروح التي تعاني منها هذه الدول، وفي تصدُّع العمل البَيْني المُشترَك، وتردّي وضعيّة النّظام الإقليمي العربي بكلّ مكوّناته.

مشروعات المؤسّسة ونِتاجاتها الثقافيّة

إنّ ما تعيشه المنطقة من مآسٍ وخَيبات، لا يُسائل الدول بمُفردها، بقدر ما يعني المُواطن ومُختلف الفعاليّات السياسيّة والمدنيّة، على طريق فتْح نقاشات تدعم الوقوف عند مُختلف العوامل التي تُغذّي هذه الإشكالات، وطرْح مجموعة من التصوّرات الكفيلة بتجاوزها.

ويُمكن لمَراكِز الفكر والبحث والهيئات المدنيّة ذات الصلة، أن تَستأثر بأدوارٍ مُهمّة في هذا السياق، إنْ على المستوى الأُفقي عبر ترسيخ الوعي وقيَم المُواطَنة داخل المُجتمع، أو على المستوى النخبوي، عبر المُرافَعة أمام صانعي القرار بإصدار التقارير وتوصيف الأوضاع، وإبداء الاقتراحات.

منذ تأسيسها قبل أكثر من عقدَيْن، تبنَّتت “مؤسّسة الفكر العربي” كإطارٍ مُستقلّ، مجموعةً من الفعاليّات الفكريّة والثقافيّة الوازِنة. كما أَشرفت على إطلاق مجموعة من المشروعات والبَرامِج الدّاعمة لترسيخ الحوار العربي وتمكين الشباب، وتعزيز التواصُل بين شعوب المنطقة.

واقتناعاً منها بأهميّة الاستثمار في المكوِّن البشري، كأساس لإرساء رسالة تنويريّة داخل المُجتمعات العربيّة، نظَّمت المؤسّسةُ مجموعةً من المؤتمرات والمُلتقيات، فيما أَصدرت مجموعةً من الكُتب والنشرات، سَعت من خلالها إلى نشْر ثقافة تؤمِن بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان، فِكراً ومُمارَسةً، وتَدعم إرساء مُواطَنة مُنفتِحة حاضِنة لجميع مكوّنات المُجتمع، تتعايش معها الخصوصيّات الحضاريّة والثقافيّة.

ظلّ التضامُن العربي حاضراً أيضاً ضمن أنشطة المؤسّسة وأهدافها، فهو الكفيل بتحويل الإمكانيّات البشريّة والطبيعيّة، والمُشترَك الحضاري، إلى قوّة فعليّة، تُتيح لبلدان المنطقة أن تتبوّأ مَكانةً مُتميّزة في عالَم اليوم. حيث أَولت اهتماماً كبيراً لعددٍ من القضايا العربيّة، كما هو الشأن بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة، التي أَصدرت بشأنها التقرير العربيّ الحادي عشر للتنمية الثقافيّة (عام 2019) الموسوم: “فلسطين في مرايا الفكر والثقافة والإبداع”، إيماناً منها بأهميّة التسلُّح بالفكر للمُرافَعة بشأن هذه القضيّة العربيّة العادلة في مُواجَهة الاحتلال الإسرائيلي.

ووعياً منها بأهميّة العمل الجماعي في تكثيف الجهود لتحقيق الأهداف والغايات في إطارٍ من التنسيق والتعاوُن، حَرصت المؤسّسةُ على بلْورة شراكاتٍ متنوّعة مع عددٍ من المُنظّمات والهيئات ومَراكِز الأبحاث (نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: اتّفاقيّة تعاوُن وشراكة مع اتّحاد المصارف العربيّة عام 2005، واتّفاقيّة تعاوُن مع مُنظّمة اليونسكو، واتّفاقيّة تعاوُن وشراكة مع جامعة الدول العربيّة، واتّفاقيّة تعاوُن مع معهد العالَم العربيّ في باريس عام 2018).

أَصدرت المؤسّسةُ مجموعةً من الكُتب المُترجَمة التي سعت من خلالها إلى إرساء فكرٍ مُتنوّر ومُنفتح على الثقافة العالَميّة بكلّ روافدها، ومُواكَبة الإسهامات الفكريّة العالَميّة في عددٍ من الحقول المَعرفيّة. كما أَشرفت على إصدار كُتب أخرى تمّ الوقوف فيها على مجموعةٍ من الإشكالات والقضايا التي تهمّ المنطقة كالعمل العربي المُشترَك وقضايا التنمية والتعليم والثقافة؛ فيما سَعت أيضاً إلى إصدار مجموعة من التقارير التي ترصد تطوّر الأوضاع في المنطقة في عدد من المَيادين، ونذكر في هذا الخصوص “التقرير العربيّ للتنمية الثقافيّة”، ما يُمثِّل مادّةً عِلميّة دسمة للباحثين والخبراء، وأرضيّة خصبة بالنسبة إلى صانعي القرار في المنطقة للوقوف على مجموعة من مَكامِن الخَلَل، والاستفادة أيضاً من الخلاصات والتوصيات المطروحة في هذا الصدد. كما دأبت كذلك على إصدار نشرة “أفق” الشهريّة، والتي تُمثِّل منبراً فكريّاً مفتوحاً أمام الباحثين والمُفكّرين العرب لطرْح عددٍ من الموضوعات التي تهمّ المنطقة العربيّة ومحيطها الإقليمي والدولي.

ورغبةً منها في تعزيز ثقافة الاعتراف بالإنجازات، والتحفيز على العطاء والإبداع والمُبادَرة، عملت المؤسّسةُ على تشجيع الباحثين والمُفكّرين والنّاشطين في عددٍ من المجالات، عبر تخصيص جوائز في هذا الصدد، وبخاصّة في أوساط الكفاءات الشابّة، والتي حَظيت باهتمامٍ كبير ضمن مجموعة من البَرامج التي أَطلقتها المؤسّسةُ في سياق توجّهاتها لإعداد جيلٍ مُتعلِّم ومُنفتِح على مُحيطه، ومُلتزِم بقضايا مُجتمعاته ومؤمِن بإمكانيّة كسْب رهانات التغيير والتنمية المُستدامة، مع تمكينه من الخبرات الكفيلة بتحقيق طموحاته ومُبادراته في هذا الشأن. وفضلاً عن ذلك، تمّ تخصيص جائزة لأهمّ كِتاب عربيّ، وجوائز للإبداع المُجتمعيّ، والإعلامي وغيرهما.

نظَّمت المؤسّسةُ عدداً كبيراً من المؤتمرات واللّقاءات الفكريّة التي شكَّلت في مُجملها إطاراً للحوار وتبادُل الرأي بين الباحثين العرب إزاء عددٍ من الملفّات والقضايا الإقليميّة والدوليّة، ونذكر في هذا السياق فعاليّات “مؤتمر فكر” الذي يُعَدّ من ضمن أهمّ المؤتمرات الثقافيّة التي تعرفها المنطقة.

وقد استطاعَت المؤسّسةُ من خلال هذه اللّقاءات والمؤتمرات، أن تُسائل واقع الفكر العربي، حيث سعت إلى إعادة الاعتبار للفكر، كأداةٍ للتنوير، وقاطرةٍ للتطوير، ورافعةٍ للتنمية، وإلى إثارة الوعي بخطورة ما تشهده المنطقة من تحدّيات تفرض التسلُّح بمَناهِج جديدة، وتجنيد الإمكانات المُتاحة في سبيل إرساء فكرٍ جديد ينخرط في ديناميّته المُفكّرون والمُثقّفون.

ووعياً من المؤسّسة بأهميّة الاستثمار في الإنسان، باعتباره الرأسمال الحقيقي اللّازم لكلّ تنمية وديمقراطيّة حقيقيّتَيْن، وحرصاً على تحصينه (الإنسان) ضدّ كلّ مَظاهِر التطرُّف والعنف.. حظي حقلا البحث العِلمي والتعليم بأهميّة قصوى ضمن أولويّات المؤسّسة التي أَطلقت بَرامِج واعِدة في هذا الإطار، كما هو الأمر بالنسبة إلى مشروع “عربي 21” بالتعاون مع مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنيّة، الرامي إلى تعزيز سُبل تعلُّم اللّغة العربيّة، ومشروع “تربية 21” بالتعاوُن مع اليونسكو، الذي يسعى إلى إحداث شبكة لتبادُل المَعرفة والتجارب التربويّة بين الفاعِلين في هذا الحقل، على امتداد مَناطق مُختلفة من العالَم.

يوماً بعد يوم، ومع توالي الأنشطة التي تُراكِمها المؤسّسةُ انسجاماً مع رسالتها ورؤيتها في إرساء حوارٍ بنّاء وراقٍ عربيّاً وعالَميّاً، يُوازِن بين رصْد الواقع بكلّ تهديداته وإمكاناته من جهة، والانفتاح على آفاق المُستقبل وفُرصه من جهة أخرى، تتأكّد أهميّة الفكر والمَعرفة في كسْب رهانات التنمية المُستدامة والأمن الإنساني.

***

(*) أستاذ جامعي من المغرب

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *