بين الغربان والفراشات والبلابل

Views: 816

د. هنادا طه*

قد تكون القضيّة الأهمّ بعد ملفّ مُحارَبة الفساد في الوطن العربيّ هي قضيّة التعليم. على أنّ التعليم وجودته ليست قضيّةً مطروحةً بعُمقٍ وإلحاح في الساحةِ العربيّة، فلو طُرحِت بشكلٍ جادّ وحقيقيّ لكانت “ترند” طويل الأجل لأنّها قضيّة تمسّ كلَّ بَيتٍ، وكلّ طفلةٍ وشابّةٍ وطفلٍ وشابّ، ولأنّها تمسّ كلّ أمل قد بقي لنا.

ففي العام 2019، اعتُمد مُصطلحٌ جديد هو “فقر التعلُّم” في تقريرٍ صادرٍ عن البنك الدولي واليونسكو بهدف إلقاء الضوء على وضع التعليم في العالَم كلّه. والمقصود بـ “فقر التعلُّم” الأطفال والنّاشئة الذين لا يصِلون إلى تعلُّمِ الحدّ الأدنى من المَهارات الأساسيّة المُتوقَّعة من قراءةٍ وحساب. وقد أشار التقرير إلى أنّ 59% من الأطفال من سنّ العاشرة وما دون في الوطن العربي يُعانون من فقر التعلُّم بحيث إنّهم لا يستطيعون قراءة نصٍّ بسيط باللّغة العربيّة وفهْمِ معناه. وللعِلم، فإنّ مؤشّر فقر التعلُّم عند الذكور أعلى منه عند الإناث، وفارق التعلُّم بين الذكور والإناث في الوطن العربي هو أعلى فارِق في العالَم كلّه بما في ذلك إفريقية والدول المُنخفِضة الدخل. وقد تعهَّد البنك الدولي بالعمل على خفْضِ نسبة فقر التعلُّم إلى النصف مع العام 2030.

على الرّغم من الأموال المُنفَقة على التعليم في الوطن العربي، ونِسب التمدرُس العالية التي تُزيّن صفحات الشابكة والتقارير الرسميّة السنويّة، والإصلاحات ومشروعات تطوير التعليم المُختلفة التي عملت عليها وزارات التربية والتعليم العربيّة، إلّا أنّ نِسب فقر التعلُّم، وتحدّيات جودة التعليم ما زالت تُلاحِق كلَّ فردٍ من أفراد المُجتمع العربي، وما زالت قضيّة التعليم محصورةً عموماً في مَباني وزارات التربية والتعليم والمدارس. وللتوضيح، فإنّ التعليم والتعلُّم مُصطلحان مُختلفان. فالتعليم هو ما يقوم به المُعلِّم والمُدرِّس والمُلقِّن. أمّا التعلُّم فهو الهدف والغاية من كلّ تعليم، وهو الحصيلة التي يخرج بها التلميذ/ة بناءً على التعليم الجيّد الذي ناله. فمن المُمكن جدّاً أن يقوم المُعلِّم بالتعليم والتدريس والشرح، وألّا يتعلّم التلميذ لأسبابٍ كثيرة منها طرائق التدريس المُستخدَمة، أو المَنهج المُعتمَد، البيئة الصفيّة، علاقة المُعلِّم بتلاميذه، البيئة البَيتيّة، وغير ذلك من الأسباب التي قد تمنع حصول التعلُّم عند التلاميذ. فالمهمّ هنا أنّنا نحتاج إلى أن نُفرِّق بين المفهومَيْن، وألّا نشترط أنّ التعلُّم بالضرورة قد حصلَ لمُجرّد أنّ المُعلِّم قد قامَ بالتعليم.

في ظلّ خطورة فقر التعلُّم والأرقام التي رُصدت عن الوطن العربي، فإنّي أستغرب كيف أنّ قضيّة التعليم الجيّد ليست على جدول أعمال كلّ وزارة، ومؤسّسة، وشركة تجاريّة، ومصرف، وشركة إعلاناتٍ أو اتّصالات. أستغربُ أنّها ليست قضيّةً يحكي عنها الإعلامُ كلّ يوم، والشعراءُ والكتّابُ وكلُّ مَن يعتقد أنّه مثقّفٌ أو مُتعلِّمٌ أو مُتنوِّرٌ مُتنفِّذ. أستغربُ كيف أنّها قضيّةٌ يغضُّ الشارعُ الطرفَ عنها والكثيرُ من قصورِ الرئاسة، على الرّغم من أنّها قضيّةُ حياةٍ أو موتِ شعوبٍ بأكملها. أفترض أنّ النوايا كلّها حسنة ولكن وبحسب المقولة الشهيرة، فإنّ الطريق إلى جهنّم مُعبّد بالنوايا الحسنة. وأُدركُ أنّ الجميع معنيّون بالتعليم ولكنّهم أحياناً لا يعرفون ما يفعلون وأيّ الطُرق إلى النجاة يسلكون.

وهنا أحبّ أن أتوقّف قليلاً لأنوّه بما قامَت به مؤسّسةُ الفكر العربي من دعْمٍ للمشروعات العربيّة والمُهتمَّة بتطوير التعليم في المنطقة العربيّة. إنّ اهتمام مؤسّسة الفكر العربي بقضايا التعليم، ومنها تعليم اللّغة العربيّة وتعلُّمها، شكَّل حمايةً للمؤسّسة على مرّ تاريخها من عاجيّة الأبراج وانعزالها والتي نراها في الكثير من المؤسّسات الثقافيّة العربيّة التي تكتفي بمؤتمرٍ سنويٍّ لمّاع برّاق يجمع أناساً يشبهون بعضهم بعضاً ويتكلّمون عن قضايا لا تهمّ أكثر الناس بشيء.

فقد أَولتْ مؤسّسةُ الفكر العربيّ منذ نشأتها اهتماماً جميلاً بقضايا التربية والتعليم في الوطن العربيّ. حيث إنّها عقدتْ ثلاثة مُلتقيات للتربية والتعليم ما بين سنة 2001 و2006، أَطلقت على أثرها العديد من المشروعات والمُبادرات التي تُسهِم في عمليّة الإصلاح في قطاع التربية والتعليم، أبرزها:

مشروع عربي 21 الذي يهدف بصورةٍ أساسيّة إلى الإسهام في تحديث طرائق تعليم اللّغة العربيّة وتعلُّمها. يستهدف المشروعُ جميعَ أصحاب الشأن، ذوي الصلة بالقطاع التعليميّ والتربويّ من تلامذة وأساتذة ومؤسّسات تعليميّة وتربويّة ودور نشر ومكتبات وغيرها. انطلق مشروع عربي 21 في العام 2010 بمنحةٍ من مؤسّسة الفكر العربي ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنيّة. ومن أهمّ إنجازاته أنّه تبنّى مشروع تصنيف النصوص العربيّة الذي يُعنى بشكلٍ خاصّ بتصنيف نصوص كُتب أدب الأطفال وتوضيح المستوى القرائي لها بما يفيد المَدارس والمَكتبات ودور النشر ومُصمِّمي المَناهج بحيث يختارون مستوى النصّ المُلائم للتلميذ/ة بالاستعانة بتصنيف عربي 21 وهنادا طه. وقد صنَّفَ مشروع عربي 21 مجّاناً حتّى اليوم ما يُقارب الـ 9000 عنوانٍ لكُتب أدب الأطفال من 100 دار نشرٍ عربيّة وعالَميّة مثل دار كلمات، وأصالة، والحدائق، والشروق، وسكولاستك، وبيرسون وغيرها. كما أنّ المشروعَ نَشَرَ الوعيَ بضرورة اعتناء دور النشر وكُتّاب أدب الأطفال بمسألة مستويات النصوص بحيث تُلائم هذه النصوص الكفاءة اللّغويّة والمرحلة العمريّة للقارئ. وفضلاً عن ذلك، قام مشروع عربي 21 بالتعاوُن مع شركة “ديغلوسيا” عام 2018 بتصميم أوّل اختبارٍ عالَميّ ومقنّن للقراءة المبكّرة باللّغة العربيّة “مبكّر”، يُساعِد المَدارس والمُعلّمين على اختبار مدى إتقان تلاميذهم مَهارات القراءة المبكّرة التي تُعدّ أساساً من أُسس التعلُّم الجيّد، وإعداد التلاميذ كي يقرأوا ليتعلّموا. وقد استَخدمَ “مبكّر” حتّى اليوم قرابةُ الخمسين ألف تلميذ/ة في أكثر من 10 بلدانٍ عربيّة. وقامَ مشروع عربي 21 كذلك بإطلاق جائزة “كتابي” لأدب الأطفال العربي، وجائزة “القصّة القصيرة بأقلامهم”.

مشروع تمام (التطوير المُستنِد إلى المدرسة) هو مشروعٌ بحثيّ وتطويريّ للإصلاح التربويّ النّابع من المدرسة؛ يتوجَّه إلى المدارس الحكوميّة والخاصّة في العالَم العربيّ. بدأ عمله في الجامعة الأميركيّة في بيروت خلال العام 2007 بتمويلٍ من مؤسّسة الفكر العربيّ. وكانت المؤسّسة الدّاعم الرئيسيّ لاستمرار حركة تمام وأهدافها الاستراتيجيّة التي ركّزت في هذه المرحلة على تطوير أنشطة تمام لتُلائم دَورها كحركةٍ تطويريّة تسعى إلى تحقيق الإصلاح التربويّ في الوطن العربيّ. وقد أصبح لتمام اليوم شبكة مهنيّة واسعة من التربويّين في المَدارس، والجامعات، ووزارات التربية، ومَراكز التدريب المهنيّ التي تشمل 8 دول عربيّة، وتخدم أكثر من 850 مُمارِساً تربويّاً في 69 مؤسّسة تربويّة، كما وتضمّ 32 باحثاً تربويّاً من 12 جامعة مُختلفة، و42 مدرِّباً‏، فضلاً عن مُمثّلي وزارات التربية، بحيث تتعاون فيها كلّ هذه الجهات لتصميم مُقارَباتٍ إصلاحيّة تربويّة مُستنِدة إلى المدرسة فاعلة ومُستدامة.

مشروع تربية 21 هو شبكةٌ إلكترونيّة لتبادُل المَعارف والتجارب بين التربويّين، من هيئاتٍ وجامعاتٍ ومدارس وأفراد، من المنطقة العربيّة ومناطق دول العالَم الأخرى. يضمّ ما يُعرف بمُجتمع المُمارَسة المهنيّة لتطوير التعليم في المنطقة العربيّة. انطلق هذا المشروع في العام 2010 بمُبادرةٍ مُشتركة بين مكتب اليونسكو الإقليميّ في بيروت ومؤسّسة الفكر العربيّ، وذلك نتيجة الحاجة إلى تعليمٍ نوعيّ وجيّد، وبسبب قلّة توفّر البَرامِج الموجَّهة لخدمة المعلّمين، وخصوصاً في المناطق البعيدة والفقيرة، وندرة قنوات الاتّصال بين المَعنيّين في مجال التربية في الدول العربيّة ومناطق العالَم، والنقص في المَوارِد التربويّة باللّغة العربيّة على شبكة الإنترنت. ويهدف المشروع اليوم بدعْمٍ من مؤسّسة الفكر العربي إلى تحويل المنصّة الإلكترونيّة التي تمّ إنشاؤها، إلى منتدىً تفاعليّ لتعزيز مهارات المعلّمين في التدريس، وتحسين جودة التعليم والتعلُّم في المنطقة العربيّة، وتحديث طرائق التدريس، وذلك عن طريق النشر الإلكترونيّ لكلّ ما هو جديد في مجال التربية، وقد أَسهم تربية 21 في المُساعدة على نشْر التعليم في زمن كوفيد-19 كذلك من خلال قنواته الإلكترونيّة وشبكته الواسعة.

هذه المشاريع المهمّة والضروريّة “لاستئناف الحضارة” مثلها كثير، بحاجة إلى إيلائها الاهتمام الذي تستحقّ، كما أنّها تستحقّ أن تكون في دائرة الضوء، وأن يستمرّ تمويلها من المؤسّسات المُجتمعيّة والتجاريّة والحكوميّة المُختلفة. اهتمام الوطن العربي اليوم بكوفيد-19 وتبعاته، والاقتصاد ومَخاطره، والسياسة ومُشكلاتها، لا يُبرّر غياب اهتمامه إجمالاً بالتعليم؛ ذلك أنّ التعليم الجيّد هو بداية كلّ الحلول الاقتصاديّة والسياسيّة والصحيّة. وما فعلته مؤسّسة الفكر العربي حتّى اليوم من دعمٍ كبيرٍ للمشروعات التربويّة الجادّة والاستشرافيّة مُميَّز، ويحتاج إلى أن يستمرّ بتمويلٍ من أصحاب رؤوس الأموال، كما تحتاج دائرة أفقه أن تتّسع لتشمل كلّ المؤسّسات العربيّة لكي تدعم التعليم، تمويلاً أم من خلال مشروعات تربويّة ذات نفْعٍ عامّ. الوطن العربي اليوم تغزوه غربان الجهل والتخلُّف والحروب والفساد التي إن تُركت على هواها لن تترك أخضرَ ولا يابساً. ولا خلاص من هذه الغربان إلّا بمؤسّسات يكون همّها التعليم الجيّد، وبثّ الوعي المُجتمعي، وتشجيع القراءة، والتطوير التربوي، والنزول إلى الشوارع لإطلاق فراشات الثقافة وبلابِل العِلم فيها.

و”السلام لا يعني غياب الصراعات، فالاختلاف سيستمرّ دائماً في الوجود. السلام يعني أن نحلّ هذه الاختلافات بوسائل سلميّة عن طريق الحوار، التعليم، المَعرفة، والطُّرق الإنسانيّة” (الدالاي لاما).

***

(*)خبيرة ومُستشارة تربويّة من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *