“مؤسَّسة الفكر العربيّ” وطرْح حلول التكامُل العربيّ

Views: 18

د. عبد العزيز بن عثمان بن صقر*

منذ انطلاق “مؤسّسة الفكر العربيّ” في العام 2000 في القاهرة، وهي تقوم بحراكٍ فكريّ وثقافيّ عربيّ مُنقطع النظير يندر أن تقوم به مؤسّسةٌ فكريّةٌ عربيّةٌ غير حكوميّة، فهي مؤسّسة مَعنيّة بتقديم رسالة تنويريّة غير مسبوقة في الوطن العربيّ، حملتْ مهمّة قلّما تضطّلع بها مؤسّسةٌ أهليّة ذات مصداقيّة وموثوقيّة عالية جدّاً.

تحقَّقت لـ “مؤسّسة الفكر العربيّ” سماتٌ فريدة جعلتْها تقطع شوطاً مُعتبَراً على هذا الطريق، نظراً لاعتباراتٍ عدّة، منها: شخصيّة مؤسّسها، صاحب السموّ الملكيّ الأمير خالد الفيصل، مُستشار خادم الحرمَين الشريفَين، وأمير منطقة مكّة المُكرَّمة، وما يمثّله سموّه من قيمة عربيّة كبرى، وقامة سامقة في سماء الفكر والإبداع العربيّ، فسموّه الشاعر والمثقّف والمُفكّر وصاحب الرؤية في الإنجاز والتطوير، وهذا ما تجسّده إنجازات سموّه في المَحافل الثقافيّة، فضلاً عن رصيده كحاكمٍ إداري وأمير لمَناطق مهمّة في المَمْلكة العربيّة السعوديّة، وما حقَّقه من مشروعاتٍ كبرى وبصماتٍ تنويريّة.

وهذا يتّضح من رؤية المؤسّسة وأهدافها وبَرامجها التي تَرجمَتْها المؤتمراتُ السنويّة التي بدأت منذ العام 2002، وما تضمَّنته من مَحاورٍ، وجلساتٍ، وحضورٍ، ومُشارَكةٍ عربيّة واسعة لنخبة من مفكّري الوطن العربي ومثقّفيه من المحيط إلى الخليج، وانعقاد هذه المؤتمرات بصفة دوريّة برعاية ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربيّة التي استضافت هذه المؤتمرات في العديد من العواصم والمُدن العربيّة، وما واكبَها من تقارير (سلسلة التقرير العربي للتنمية الثقافيّة) التي تُعدّ موسوعة عربيّة جامِعة تصدر مع كلّ مؤتمر دونما انقطاع، منذ أن انطلقت مؤتمرات المؤسّسة.

كما أنّ للمؤسّسة مجلس أمناء ومجلس إدارة ولجان تحكيم تضمّ شخصيّات رفيعة المستوى، من المَعنيّين بقضايا المنطقة العربيّة، وكذلك للمؤسّسة أمانة عامّة مشهود لها بالكفاءة والجديّة والحياديّة في الطرح، واهتمامها بقضايا الوطن العربي وتحدّياته وهمومه.

وتُجسِّد رؤية “مؤسّسة الفكر العربي” وأهدافها خطوطاً عريضة تعمل المؤسّسة على تحقيقها بدقّة ومن دون أن تحيد عنها منذ أن تأسَّست. فرؤيتها تتّضح من “إطلاق حوار متعمّق، راقٍ ومسؤول ومُتميّز عربيّاً وعالَميّاً، يجمع بين التشخيص والاستشراف، ويُمهِّد لبناء مُستقبلٍ واعِد”، وتُركِّز أهدافُ المؤسّسة على “تنمية الاعتزاز بثوابت الأمّة ووحدتها، من خلال إطلاق بَرامِج ومُبادرات فكريّة رائدة قائمة على التنوير الثقافي والمَعرفي، وتكريم الإبداع والتميُّز لتعزيز ثقافة الابتكار والتطوير في العالَم العربي ونشْرها”.

“التكامُل العربيّ” قضيّة القضايا

لعلّني أتوقّف عند اهتمام “مؤسّسة الفكر العربي” بقضيّة محوريّة، ركَّزت عليها في ثلاثة مؤتمرات متتالية وهي قضيّة “التكامُل العربي”. هذه القضيّة التي أولتها المؤسّسةُ عنايةً بالغةً، وخصَّصت لها ثلاث دَورات من مؤتمراتها السنويّة خلال السنوات (2014، 2015، 2016) في الصخيرات في المغرب، والقاهرة، وأبو ظبي على التوالي. فجاء المؤتمر الأوّل من بين هذه المؤتمرات الثلاثة تحت عنوان “التكامُل العربي: حلم الوحدة وواقع التقسيم”؛ وجاء الثاني تحت عنوان”التكامُل العربيّ: تحدّيات وآفاق”؛ وكان الثالث تحت عنوان “التكامُل العربيّ: مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة: دولة الإمارات العربيّة المتّحدة”. وكانت المؤسّسة قد طَرحت من قبل، وتحديداً في مؤتمر “فكر8” الذي استضافته الكويت عام 2009، قضيّة التكامُل الاقتصادي، وكان بعنوان “التكامُل الاقتصاديّ العربيّ: شركاء من أجل الرخاء”. ضمَّت هذه المؤتمرات الموسَّعة مَحاورَ شاملة تناولت أنواع التكامُل كافّة، والتحدّيات التي تواجهها وكيفيّة تجاوزها، وكانت المُناقشات حول هذه القضايا شفّافة واضحة وبمُشارَكة مُفكّرين من مختلف المَشارِب، ومن كلّ الدول العربيّة تقريباً. كما شهدت طرحاً لإصلاح آليّات العمل العربي المُشترَك، وفي مقدّمته جامعة الدول العربيّة الحاضنة للعمل المُشترك.

ولعلّ المؤتمر الثاني من سلسلة المؤتمرات الثلاثة، وهو الذي استضافته جامعة الدول العربيّة في القاهرة وبمُشاركتها، تناولَ التكامُلَ العربي بمعناه الشامل، ويَضمن بقاء المنطقة العربيّة موحَّدة قويّة مع المحافظة على المشروع العربي الذي يُواجِه تحدّياتٍ وجوديّة من طرف مشروعاتٍ أخرى في المنطقة، ومنها المشروع الإيراني، والمشروع التركي، والمشروع الإسرائيلي، حيث لهذه الدول مشروعات قوميّة قائمة على إحياء تاريخها وحضاراتها على حساب الوجود العربي في عقر داره، وتستهدف محو الحضارة العربيّة ذات التاريخ والجذور. وقد جاء المؤتمر المذكور ليقرع جرس الإنذار، وتضمَّنت محاوره: إشكاليّات الهويّة العربيّة وتحدّياتها، التكامُل العربي ومشروع الدولة الوطنيّة، الثقافة العربيّة في إقليم مُضطّرب، التعاون الأمني والعسكري في الوطن العربي، التكامُل العربي: الأبعاد الاقتصاديّة، جامعة الدول العربيّة.. الواقع والمُرتجى.

وجاءت مناقشات هذا المؤتمر ومخرجاته موثَّقة في التقرير العربي الثامن للتنمية الثقافيّة “التكامُل العربيّ: تجارب، تحدّيات وآفاق”، وأتمنّى أن تتبنّى منظومة العمل العربي المُشترَك ما جاء في هذا التقرير، وكذلك التقرير الذي سبقه، والتقرير الذي يليه، من أجل الوقوف على تحدّيات التكامُل العربي والحلول التي وضعها مفكّرو الأمّة العربيّة من أجل التعرُّف عن قرب إلى تحدّيات الأمّة ومُهدّداتها، ومن ثمّ التعرُّف إلى الآليّات المطروحة لتحقيق التكامُل الذي يحفظ للوطن العربي قوّته وحضارته وإنجازاته التاريخيّة وهويّته المُستهدَفة من قوميّات إقليميّة، ومؤامرات دوليّة تستهدف النَّيْل من تراثه والتسلُّل للاستيلاء على مقدّراته بحججٍ واهية ومُحاولة إلصاق الاتّهامات الزائفة بتراث الأمّة العربيّة.

وأتمنّى على “جامعة الدول العربيّة” ألّا تُفوِّت فرصة مُخرجات هذه المؤتمرات التي انعقدت بالشراكة معها، أو بحضورها الدائم، وأن تعمل على ترجمة ما جاء في هذه المؤتمرات إلى واقع، أو على الأقلّ طرْحه للمُناقشة في أروقة الجامعة للاستفادة من وجهة نظر مُفكّري الأُمّة العربيّة وخبرائها الذين يشرحون الواقع العربي بكلّ أبعاده وتحدّياته وآفاقه. وإن كنّا قد ركَّزنا على المؤتمرات التي تناولت التكامُل العربي بشكلٍ صريح، فإنّ كلّ مؤتمرات المؤسّسة تركِّز على الواقع العربي ومُستقبله من شتّى الجوانب، لكنّ مؤتمرات التكامل العربي جاءت بعد انطلاق ما يسمّى بثورات “الربيع العربي” التي خلخلت المنطقة العربيّة، وبخاصّة الدول التي انطلقت منها هذه الثورات، وأفرزت حروباً أهليّة دامية ما زالت مستمرّة في بعض هذه الدول حتّى الآن، وما تبع ذلك من تدخُّلات للدول الإقليميّة غير العربيّة في شؤون دول المنطقة بطريقة سافرة وغير مسبوقة. وقد أوضحت المؤسّسة في هذا الصدد قائلة: “ولأنّ مؤسّسة الفكر العربي مُهتمّة بشؤون العالَم العربي، ومَعنيّة بحاضر دوله ومواطنيه ومُستقبلهم، رأت أنّ من واجبها التحذير من مغبّة استفحال الفوضى القائمة خلال السنوات الأخيرة، إيماناً منها بأهميّة تحقيق التكامُل العربي، وتعزيز العمل المُشترَك، وتطوير التعاوُن الاستراتيجي في مُختلف المَيادين لمُواجَهة التحدّيات والأزمات الداخليّة والخارجيّة، فخصَّصت مؤتمراتها السنويّة على مدى ثلاث دورات مُتتالية لموضوع التكامُل العربي، عقدتها في كلٍّ من المغرب ومصر والإمارات”.

حصار الوطن العربيّ

والتكامُل العربي المنشود هو التكامُل القائم على التعاوُن والاستفادة من المزايا النسبيّة للدول العربيّة. فيما تُسهِم “مؤسّسةُ الفكر العربي” بإطلاق العنان للمفكّرين من دون قيود للمناقشة. فحول كيفيّة تحقيق هذا التكامُل المنشود القائم على المُشتركات والاتّكاء على الإرث العربي، وعلى المَصالح واستشراف التحدّيات والمُهدِّدات، وليس على أيديولوجيّات وشِعارات فضفاضة لا تُحقِّق التكامُل المطلوب، حيث يرى مفكّرو الأمّة أنّ التكامُل الناجح يقوم على الشراكات ومَصالح الشعوب، وبما يُناسِب ثقافتها وموروثها، وليست مجرّد أحلام وطموحات غير واقعيّة، ونرى من التحدّيات التي تُواجه العرب حاليّاً ارتفاع النبرة القوميّة للقوميّات الإقليميّة المُجاورة للعرب، وهي القوميّة الفارسيّة التي تُلبسها إيران العباءة الإسلاميّة الشيعيّة، والقوميّة الطورانيّة الأتاتوركيّة التي تُلبسها تركيا العباءة الإسلاميّة الإخوانيّة، ومشروع الطائفيّة الإسرائيلي، لدولة دينيّة لا تعترف بالآخر.

ومع بروز هذه المشروعات واستهدافها الوجود العربي في المقام الأوّل، في حين يبدو المشروع العربي، في حالة انكفاء و تراجُع، فالمشروع الإيراني يخترق العديد من الدول العربيّة، ويوظِّف ميليشياته وأذرعه المسلّحة لإثارة القلاقل في الدول العربيّة، ويتّخذ من اليمن العربيّة منصّة حربيّة ضدّ الدول العربيّة المُجاورة لها، وفي مقدّمتها المَملكة العربيّة السعوديّة، بينما تقوم تركيا بحصار الوطن العربي بالتموقُع في مُحيطه الإفريقي والآسيوي، فضلاً عن وجوده العسكري في العراق وسوريا وليبيا، بينما تُطلق إسرائيل ذراعها الطويلة بالاغتيالات واستباحة الأراضي السوريّة واقتطاع الأراضي الفلسطينيّة، ضاربةً بالمُبادرات العربيّة عرض الحائط منذ مبادرة فاس عام 1982، والمُبادرة العربيّة التي أقرَّتها قمّة بيروت عام 2002.

ويتبقّى على الدول العربيّة إذا أرادت مُواجَهة مَخاطر المشروعات المُضادّة، التي تستهدف استئصال الوجود العربي في عقر داره، تبنّي إحياء منظّمات العمل العربي المُشترك وآليّاته بكلّ جديّة، والتأسيس لتكاملٍ عربي حقيقي يقوم على المصالح، ويؤسِّس لإيجاد قوّة عسكريّة عربيّة موحّدة ذات استراتيجيّة واضحة وعقيدة عسكريّة دفاعيّة تعمل على تحقيق التوازُن الاستراتيجي والردع العربي في ظلّ الخَلل العسكري الواضح في المنطقة بعدما امتلكت إسرائيل السلاح النووي؛ وتعمل إيران جاهدة على امتلاك هذا السلاح وتسير إليه بخُطًىً سريعة ضاربة بمَواقف المُجتمع الدولي وقراراته عرض الحائط، وكذلك الحال بالنسبة إلى التمدُّد التركي، ومحاولات أنقرة امتلاك السلاح النووي أيضاً، وعدم انصياع إسرائيل للرغبة العربيّة للسلام العادل والشامل، وقبول حلّ الدولتَيْن، وفقاً للمُبادرة العربيّة وقرارات الأُمم المُتّحدة ومجلس الأمن.

أخيراً، أمام العرب فرصة تاريخيّة في ظلّ تشكُّل عالَم ما بعد القطبيّة الواحدة لتحقيق تكامُلٍ واقعيّ فعّال يحقِّق لهم طموحاتهم، ويحفظ للمنطقة العربيّة استقرارها وأمنها، وهذا ما تبنَّته “مؤسّسة الفكر العربي” في المؤتمرات المُشار إليها أعلاه، وما يجب تفعيله.

***

(*) رئيس مركز الخليج للأبحاث

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(Zolpidem)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *