رؤية لوميض الروح في ديوان “إبحار في الصمت” لـ لينا البنا

Views: 470

وفيق غريزي

 

حملت الشاعرة لينا البنا في اعماقها العديد من العواصف الرهيبة التي تأتي لتضاف فوق عمق سديمي. كانت مثل حمامة طليقة عاشقة الحب، مهووسة بالكلمة الشعرية، معجونة بكيمياء الحروف منصتة بلا انقطاع الى العناصر الطبيعية المختلفة التي تمثل المكان، انها كائنة غير محكومة، المعلم الوحيد الذي يلائمها هو البرق الذي يضيئها، وتؤمن ان على الشاعر (رجلا كان ام امرأة) ان يترك اثارًا في مروره بالحياة، وهذه الاثار تجعل الانسان يحلم، كما كانت مهووسة بفكرة الموت منذ طفولتها، من هنا انبثقت روحانيتها الافتتانية بالجمال، وتماهيها بالطبيعة.

لا تنطوي دراسات المكان في الابداعات الادبية على مغامرة كبيرة “لان المكان يتخلًق في هذه الاعمال، ويتشكًل في أمشاجها الدفينة، ولأن المكان اهم ما ينتظم العناصر الابداعية، ويشكًل منظما لا يمكن الابتعاد عن تأثيره، لا سيما في الاعمال الشعرية”.

 وتتكرر كلمات الريح والرياح في عدد من نصوص مجموعة لينا البنا الشعرية  “ابحار في الصمت”، وهذه الكلمات تجسيد لحالات التشيّؤ والاغتراب، ومظهر من مظاهر الموت المعنوي، وهذه الريح تحمل معنى يقترب كثيرا من معناها في النصوص الدينية، حيث لا يسلّط الرب الريح إلا على الاقوام الخاطئة، فتتطهّر الأرض من الخطيئة الاخلاقية، ويكون التدمير عندئذ شكلا من اشكال التطهّر والخلاص.

 تقول لينا: “الغابة الكثيفة تغريني بأعشابها الندية ونسائمها توقظ رياحي الثائرة الغابة تفتح ذراعيها لملاقاة فصل الخصوبة حيث ترتجف من رهبة اللقاء”. ان العلاقة بين الانسان والمكان تبدأ من لحظة ميلاده، فتتنامى وتتفاعل وتتجذّر احيانا، وتندمج معه احيانا، وتتخذ معادلات ذهنية ونفسية تنعكس في المعادلات الفنية، وتتراكم في جدلية الفردية للمتعايشين فيها، وتستمر حتى موت الانسان.

 ولينا البنا في نظرتها الى المكان حولها، وجدت نفسها وقد انخرطت في برزخ من الخيال، والبحث عن تفسير الاشياء، كما انها تتماهى بالمكان، النهر، الغابة، الذرى الخ. فالمكان لديها يبدو كما لو كان خزانا حقيقيا للافكار والمشاعر والحدوس، حيث تنشأ بينه وبين الشاعرة لينا علاقة من التأثّر المتبادل…

 

فلسفة اللاادرية

فلسفة الشاعرة لينا البنا في الوجود والكون، وفي مسألة الروح اعتمدت على مبدأ اللاادرية، وهذا المبدأ اعتنقه عدد من الفلاسفة والشعراء الذين رأوا في البحث عن هذه الامور مسألة عقيمة لا تؤدي بصاحبها الى ايجاد اجوبة لهذه الاسئلة التي راودت هؤلاء الفلاسفة والشعراء من زمن بعيد جدا، ان الفكر في نظرهم لا يستطيع ان يتخطى حدود المادية ليصل الى اكتشاف حقائق مجهولة تتعدّى قواه الفكرية. والشاعرة لينا البنا في هذا الموقف تقترب من عدد من الشعراء وابرزهم: عمر الخيّام، ايليا ابو ماضي، وابو العلاء المعري. فتقول: “اما الأيام تقتل اللحظات ثم الوقت يهوى الموت ثم عروقنا رهينة الزمن ثم الروح تهجر الجسد”…

إن هذا الطريق المحفوف بالتساؤلات والمخاطر والظنون، في هذه الاجواء الضبابية، اخذت لينا تسلك دروبا شائكة في الحياة.نظرت حولها فاذا العالم كله ينحدر ببطء نحو الزوال، وما الخلود سوى ضرب من الخيال، من تراب، والكل يباس. حياة كلها هباء، وجميع عناصرها الحيّة الى التلاشي والفناء، انها المأساة والصراع الذي يمزّق رغبات الانسان المكبّل بهواجس الشك والقنوط والشقاء، والعدمية ويقوده الى التشاؤم المرير: “ارى وميض الروح في عيون الليل نسرق الوقت ام الوقت يسرقنا ؟؟ “…

الخصائص الشعرية

تتميز تجربة لينا البنا الشعرية بقوة العاطفة الوجدانية – الذاتية التي تسلطها على الموضوعات الوجودية والمضامين الواقعية، فتحولها الى كتلة حية من خصوصيتها وخصوصية تجربتها الذاتية، حتى تبدو نصوصها الشعرية وكأنها نصوص عاطفية ذات نفس ذاتي محض، فهي تعبر عن تجارب ذات نزعة وجودية استعانت فيها بالحوار الداخلي.

 لقد تمكنت الشاعرة لينا البنا من ادائها الفني ومن ابداع قاموسها الشعري المتفرّد، وعالمها الشعري الخاص، ومن شحن كلماتها ونصوصها الشعرية بصورة طبيعية ورموزها ورؤاها، المنتقاة بوعي وحكمة. ولكن الموت اختطفها وهي في ريعان الشباب، وقبل ان تكمل مشوارها في جنائن الشعر، ففي رحيلها خسر الشعر زهرة عطرة من زهراته، وتركت جرحا عميقا في قلوب اهلها ومحبيها، ولكن تركت بصمة مشرقة في مملكة الشعر والابداع…..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *