الأمس البعيد يهمس سيمفونيّته “في ظلال الماضي”

Views: 320

ابتسام غنيمه

في حنايا الماضي تختبئ الذّكريات. تحضننا، تلملم شتاتنا، تسكرنا بإكسير معتّق في خوابي السّنوات الخوالي، تتقيّأ حزننا وغضبنا وطيشنا… لتبقى الصّفوة هادئة، ترمق بنظرات ثاقبة ليالي الخوف والرّعب والخطف، وتطبق جفنيها على أيّام من العشق الهياميّ الأصيل.

لم تمنع مهنة الطّبّ الدّكتور جورج ديب من تفريغ إمكانيّاته الأدبيّة بين دفّتَي كتاب “في ظلال الماضي”À  l’ombre d’autrefois)،  ليثبت من جديد، أن مَن تخضع له ملكة القلم والحسّ الأدبيّ ليس خرّيج السّوربون ولا كلّيّة الآداب، بل هو كتلة من المشاعر ودَفق من الأحاسيس المترجمَة في لغة فرنسيّة راقية، وأسلوب روائيّ شيّق، يحملك على فتح الصّفحة الأولى، وفي كلّ مرّة تقول: “سأتوقّف عند الصّفحة التّالية”، لتتابع… وتتابع… حتّى إذا أتيت على الـ 429 صفحة تشوّقت للمزيد، وتمنّيت أن يمتدّ الخيط ليطال الحاضر ويربط الماضي بالمستقبل.

من هذا الماضي الغنيّ حيث تتراكم الصّور وتتسلسل، فتكتظّ بأوجه تصبح مألوفة ترافقك، تسامر وحشتك، وتملأ الفراغ الذي بثّته في اجتماعيّاتنا جائحة الكورونا.

من هذ الماضي المفعم غضبًا وثورة ونقمة وظلمًا وحبًّا، انطلق القطار، ليس بين تور (Tours) وكولون (Cologne)، بل عبر سكّة عابرة للمحيطات تربط بين شمالي لبنان وفرنسا، ليتوقّف لحظات في الخصيب وفي بروكلين.

من هذه المحطّات اخترتُ ثلاث: الوالدان، والحرب، ولورا.

د. جورج ديب

 

المحطّة الأولى

لو كان فرويد حيًّا لقال: يعاني جعفر حتمًا من عقدة أوديب، فهو يحبّ أمّه كثيرًا ويكره والده ويتمنّى موته، لا بل حاول ذلك يومًا لو لم تردعه أمّه. ولكن ما رأيك يا فرويد إذا استمرّت قسوة الوالد مدّة سنوات الطّفولة، تقابلها كراهية ابنه وتجاهله له فترة المراهقة والشّباب؟ والأمّ تتحمّل جهنّم شرط ألّا يمسّ سوء “نور عينيها”.

والد تعوّد التّسلّط في عائلة تخشاه لسوء معاملته، واعتاد القيادة لإخوة ينصاعون لأوامره تقديرًا ولا يخالفونه رأيًا، أمّا الجميع في البلدة فيحترمونه. “لماذا يلقى كلّ هذا الاحترام رجل يسيء معاملة زوجته وأولاده؟ لماذا؟” سؤال كثيرًا ما طرحه جعفر على نفسه لكنّه لم يلقَ جوابًا… غير أنّ عقدة أوديب أخذت تنحلّ خيوطها مع الأيّام، وبعد ما يقارب الثّلاثين سنة، وذلك من خلال منظور مختلف؛ فبعد سنوات من الغياب البنويّ، أخذ جعفر يتبصّر في الأمور ويرى أنّ أمّه التي أراد السّفر والعمل سعيًا لإخراجها من جهنّم التي تعيش فيها تحمل بعض المسؤوليّة: ألم تكن تهمل زوجها؟ ألم تكن تقدّم له فضلات اليوم السّابق طعامًا؟ وهنا نتساءل: هل شعر الوالد في لاوعيه بالغيرة من اهتمام الأمّ المفرط بوحيدها ما جعلها في شغل عنه؟ هل هذا سبب قسوته اللّاشعوريّة؟ لسنا هنا في صدد التّحليل النّفسيّ، ولكن كلّ الاحتمالات مفتوحة. وقد كشف له المنظور الذي بات يبصر من خلاله الأمور أنّ والده يملك قلبًا، ما دفعه إلى أن يطرح شيئًا فشيئًا عاطفة الكراهية المتجذّرة في أعماقه: فقد سعى هذا الوالد بواسطة معارفه السّياسيّين من إنقاذه من سجن ندوب وإعادته إلى بلدته سالمًا، واستقباله والدّموع تترقرق في مقلتيه. كما اشترى بمدّخرات العمر عيادة لابنه في أحد أحياء طرابلس التي ألمّت بها، بدورها، الحرب الأهليّة.

إبتسام غنيمه

 

المحطّة الثّانية

 لقد حملني الكتاب إلى طفولة لا تمحوها السّنوات… إلى طفولة استيقظت براعمها على نواح النّساء ودويّ المدافع والقنابل وأزيز القنّاصة. لقد قادنا الكاتب في رحلة الدّمار هذه بدءًا باكتساح بلدته في ظلام اللّيل وهرب العائلة وتعقّب المطاردين، إلى اليوميّات المستمرّة بين بلدته وطرابلس، وتعرّضه لمحاولة اختطاف، إلى دويّ الانفجارات والقنابل، فعادت الصّورة حيًّة، تنبض نارًا ودماء: من مهالك الحرب الأهليّة ودمارها… من عويل النّساء وخوف الأطفال، من شباب خطفوا واقفين على أقدامهم وعادوا إلى أهلهم محمَّلين، من فواجع أيّام تمجّها الذّاكرة، من طفولة مرّة نرفض أن نعيشها في حين أنّها عايشت أيّامنا وليالينا طوال سنواتنا البريئة… من قنص وقتل ودمار ودويّ قنبلة وصدى انفجار… من جهنّم على الأرض… لينقشع الضّباب ويطلّ وجه لورا، وتنفرج الكلمات عن مئات من الصّفحات فيها حبّ كبير ما عرفت نيرانه يومًا الانطفاء.

 

المحطّة الثّالثة

إنّها قصّة حبّ حقيقيّ عرف الاستكانة والأمان والحلم والآمال، ورأى المستقبل بعيني غد مشرق يحمل طفلًا اسمه يوسف تيمّنًا بصديق جدّه ومخبأ أسراره.

حبّ تعرّض لداء البوكر الذي ألمّ بجعفر ونال منه. تصدّت له لورا بالوعظ حينًا والصّبر أحيانًا كثيرة. حملت بصمت عبء الوحدة والمصروف والإيجار ومدّ حبيبها بالمال. وكان كلّ ذلك فوق إمكانيّاتها، وهي ما تزال طالبة في كلّيّة الآداب تعزف في مقهى ليلي كي تجني بعض المال. عانت بصمت. تحبّ جفعر ولا تريد أن تجرحه. وقادها حبّها إلى أن تقيم علاقة مع رجل ثريّ أمدّها بالمال. كلّ ذلك فعلته قهرًا كي تساعد جعفر، من دون أن تجرح مشاعره، فكان أن أصابه الجرح في الصّميم يوم اكتشف خيانتها، جرح لم يبرأ منه على رغم مرور السّنوات. راسلته… أقرّت بذنبها… أخبرته الدّوافع… شعر بالذّنب غير أنّه لم يتمكّن من مقاومة فكرة خيانتها له، رفضها. حاولت أكثر من مرّة، كانت إجابته حاسمة على الرّغم من التّيّارات الدّاخليّة التي كانت تعصف في حناياه، تقلق لياليه ونهاراته، تقضّ مضجعه. كانت امرأة، وكانت كلّ النّساء. وبعد مضي ثلاثة عشر عامًا تقريبًا، حاول أن يعرف أخبارها، راسلها، لم تجبه. سافر إلى بروكلين، راقب منزلها قبل أن يقتحم حياتها من جديد، فوجدها متزوّجة ولديها طفلان. تلاقت نظراتهما. ظنّ أنّها لم تعرفه. وفي خاتمة الرّواية التي لم تنتهِ، ترده رسالة منها، تخبره فيها أنّها رأته ذاك اليوم مقابل منزلها، وتبلغه أنّها بعد أن قطعت الأمل تزوّجت من زميل لها في الجامعة؛ لكنّ المفاجأة الكبرى كانت أنّها أطلقت على ابنها اسم يوسف.

لورا لم تخن حبّها. التزمت بكلمتها. باعت جسدها لأجل حبيبها وفقدت حبّها إلى الأبد، فعوّضته بيوسف الصّغير.

مسيرة لم تنتهِ ولن تنتهي حتّى لو جفّ الحبر في القلم، فمداد الأيّام يخطّ ما يعجز الفكر عن تصوّره وكتابته. هذه الأيّام التي تركنا د. ديب في شوق دائم لمعرفة تفاصيلها، كيف استمرّت الحياة بعد لورا؟ هل طُوِيَت صفحتها إلى الأبد؟

مَن أيقظ عصفور الحبّ النائم في أعماقه وجعله يغرّد من جديد؟

أهو كيوبيد صوّب سهامه إلى قلبه مجدّدًا فمنحه امرأة استطاعت أن تمحوَ ذكرى حبّ استمرّ لسنوات طوال حتّى بات اليوم حبرًا على ورق؟!

لن نقتحم أسوار الحاضر المنيعة، يكفينا من الماضي ظلاله الوارفة التي تنضح عاطفة وصدقًا وشفافية وصفاء…

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *