سجلوا عندكم

“الحالة الحزبية في لبنان: قراءة نقدية ورؤية مستقبلية”

Views: 1141

إعداد د. مصطفى الحلوة

من منطلق الدور الذي تؤدّيه الأحزاب السياسية ، كعصب للمجتمع المدني الفاعل ، ومن منطلق الشهادة للديمقراطيات الحديثة، كان لـِ “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية “، بالشراكة مع مؤسسة “هانز زايدل” الألمانية، أن ينظّم ورشة تفكير ونقاش عنوانها ” الحالة الحزبية في لبنان : قراءة نقدية ورؤية مستقبلية ” ، وهي تأتي استكمالاً لورشة سابقة قاربت إشكاليات المجتمع المدني عبر منظماته غير الحكومية وغير السياسية .

استمرت الورشة على مدى يومي 2 و 3 تموز 2021 ، في القاعة 1188 التابعة لمركز تموز (جبيل – المدينة القديمة) .

استُهلّت أعمال الورشة بجلسة افتتاحية ، تكلم فيها على التوالي: رئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره ، السيد كريستوف دوفارتس ، المسؤول الإقليمي لـِ “هانز زايدل ” ، الأستاذ طوني غريّب ، مندوب هذه المؤسسة في لبنان ، د.حنا الحاج ، منسق الورشة .

إلى الجلسة الافتتاحية ، كانت ستُّ جلسات ، قاربت العناوين الآتية : الأحزاب السياسية في لبنان : ظروف النشأة ، الأُطر القانونية ، الدور والخصائص / الأحزاب السياسية في لبنان : مسيرة في بناء مؤسسات الدولة/الأحزاب السياسية في لبنان بين الإنغلاق الحزبي والتكوين على المواطنية/ الخارطة الحزبية في لبنان وعشوائية تشكلّها / الإعلام الحزبي في لبنان : مسيرة تناقضات وشهادات من الواقع / أية صورة للأحزاب في ذاكرة  اللبنانيين ؟ أي مستقبل ينتظرها؟

داخَلَ في هذه العناوين مجموعة من الأكاديميين ، ومن المشتغلين بالقانون، وعلم السياسة ، وعلم الاجتماع والإعلام . وقد كان حوارٌ تفاعلي ، أسهم فيه طلبة يُتابعون دراستهم العليا في الجامعة اللبنانية وبعض الجامعات الخاصة العاملة في لبنان ، وليُفضي هذا الحوار وأوراق العمل إلى البيان الختامي ، الذي ضمّ المحاور الآتية :

أولاً : في الاحزاب السياسة / موقعًا ودورًا

أ- الظاهرة الحزبية هي ظاهرة عالمية ، تتجلّى في كل مجتمع ، بصورة مختلفة ، ولا تستقيم دراستُها إلاّ من خلال علاقتها بالبنية الأساسية  للمجتمع، وفي عدادها : الأًسرة والمؤسسات الخاصة والعامة ، والتنظيمات المدنية ، ومؤسسات الدولة السياسية وسيرورة تطورها .

ب- تعتبر الأحزاب ، بصورتها الحالية من المفاهيم السياسة الحديثة ، إذ ارتبط ظهورها بظهور المجالس النيباية . وهذا ما يجعلها إحدى ثمرات الديمقراطية ومبدأ سيادة الشعب . وكون الحزب السياسي  جمعية مدنية ، فهو يتّصف بالشخصية المعنوية أو الاعتبارية . هكذا يمكنه إجراء الأعمال القانونية ، من تملّلك ومقاضاة ، وسوى ذلك من الحقوق ، التي تتمتع بها الجمعيات المدنية .

ج- تلعب الأحزاب السياسية ، في الأنظمة الديمقراطية ، دوراً حيوياً ، إذ تمثّل العمود الفقري للحياة السياسية . وتنبع أهمية دورها وفعاليته من خلال مشاركتها في الانتخابات النيابية . وهي ، في سعيها إلى السلطة ، إما أن تتسلّمها وتسيطر عليها ، أو تكون في صفوف المعارضة ، فتؤدّي دور المراقبة والمحاسبة ، بإزاء القوى التي تدير هذه السلطة .

د- استكمالاً ، يتحدّد دور الحزب السياسي في الأنظمة الديمقراطية ، عبر الأُطر الآتية : قيامه باستخلاص الإرادة العامة للمواطنين والتعبير عنها. وعبر هذه الإرادة يستطيع الحزب أن يؤثّر على الحكام ، بصورة أكثر فاعلية / انتقاء الممثلين المنتخبين من قبل الشعب ، وضبطهم ضمن أُطر سياسية محدّدة ومنظمة/ قيام الحزب بتربية المنضوين إليه ، في المجال المدني والسياسي ، ومن خلال تبصيرهم بواقعهم المعيوش .

هـ – ثمة معايير أربعة ، تميّز الحزب السياسي عن سائر الأطر والتجمعات السياسية والكتل الضاغطة ، تتمثل في الآتي : الحزب السياسي تنظيم ثابت ، لا يرتبط استمراره ببقاء قادته وموجّهيه ، وبمصالحهم الخاصة / هو تنظيم يغطّي حراكه وفعالياته أرجاء البلد كافةً / هو ذو إرادة مصمّمة – كما أسلفنا – على ممارسة السلطة ، بصورة مباشرة ، إما في ظل نظام سياسي قائم أو نظام جديد ، يسعى الحزب إلى تحقيقه / هو دائم السعي لدعم شعبي ، على مستوى المحازبين والناخبين .

ثانياً : في سؤال الأحزاب السياسية لبنانياً :

تأسيساً على الدور الفاعل الذي تؤديه الأحزاب السياسية ، والتعويل عليها كصمام أمان لمجتمعاتها ، وضابطة إيقاع للسلطة ، وحارسة للعدالة والمواطنية وحقوق الإنسان ، لا بدّ ، في تصدّينا للحالة الحزبية لبنانياً ، من تطارح هذه الأسئلة / الإشكاليات :

* هل استطاعت الأحزاب السياسية لدينا أن تتنكّب الدور المنوّه عنه ؟ وما هي نظرة اللبنانيين إلى أحزابهم ، في وقت غدا الانتساب إلى أي حزب سياسي بمنزلة التهمة ؟ هل كانت الأحزاب نعمةً أم نقمة ؟ وهل كانت استطراداً حاجةً ماسة ، في نظامنا السياسي ، أو من قبيل لزوم ما لا يلزم ؟ 

* هل شكّلت أحزابنا السياسية رافعةً نهضويةً لمجتمعها ، أم كانت في جملة العوامل التي أدّت إلى انهيار الدولة وسقوطها المريع ؟

* إلى أي حدّ ، أدّت هذه الأحزاب دورها ، في المجال التنموي ، وفي نشر ثقافة العدالة والسلام والتكوين على المواطنية والتربية عليها ؟

* وماذا عن الإعلام الحزبي في لبنان ومسؤوليته فيما آلت إليه الأوضاع من سوء ، جرّاء رسم صورة بشعة ومشوّهة ، طبعت ثقافة اللبنانيين ، وبخاصة الشرائح الشبابية ؟

* هل بالإمكان ترميم صورة الأحزاب السياسية لدينا ، أم ثمّة حاجة إلى بروز أحزاب جديدة ، عابرة للطوائف والمناطق ، وتتجاوز سائر الانتماءات الجهوية الضيقة ؟

* وماذا عن حراك 17 تشرين 2019 ، في هذا المجال ، على رغم كل الإخفاقات التي اعترت مسيرته . علماً أن هذا الحراك نجح في إزالة الحواجز بين المناطق ، وكرّس لدى غالبية المواطنين اقتناعات مشتركة ، عمّدتها وحدة المعاناة، التي يعيش اللبنانيون ويلاتها على جميع الصعد؟

ثالثاً : الأحزاب السياسية في لبنان / تاريخية الدور والموقع والمصير

أ- لبنان هو البلد الأكثر ديمقراطيةً في العالم العربي ، إذ عرف الحياة الحزبية منذ ما يزيد على مائة عام ، بالتزامن مع قيام الكيان اللبناني وما قبل ذلك (حزب الطاشناق عرف في لبنان عام 1880 ) . وقد شهدنا ثلاثة أجيال من الأحزاب ، أولها في عهد الانتداب الفرنسي ، فكانت أحزاب هي أشبه بالكتل السياسية (الكتلة الدستورية التي تزعّمها الشيخ بشارة الخوري في مواجهة الكتلة الوطنية بزعامة آميل إده ) . أما عن الجيل الثاني ، في ظل دولة الاستقلال ، فقد كانت الأحزاب أكثر تنوعاً ، وأوضح تعبيراً عن الواقع السياسي والاجتماعي والإيديولوجي ، بينما انتقلت أحزاب الجيل الثالث ، خلال سنوات الحرب الأهلية من العمل السياسي إلى العمل العسكري الميليشياوي ، وخاضت حروباً شرسة فيما بينها . علماً أن قانون الجمعيات العثماني الصادر سنة 1909 ، هو الناظم للحياة الحزبية في لبنان .

ب- بقي العديد من الأحزاب السياسية مستنداً ، بصورة مباشرة أو مبطّنة ، إلى قاعدة طائفية أو مذهبية أو إقطاعية . وقد كان انكفاءٌ للأحزاب القومية والعروبية ، قابله صعودٌ لتشكيلاتٍ دينيةٍ إسلامية .

ج- السمة الطائفية تبقى الأساس في تكوين غالبية الأحزاب في لبنان ، مما جعل هذه الأحزاب طوائف وجزراً معزولة ، في ظل مجتمع منقسم ودولة هشّة. بل إن هذه الأحزاب مرتبطة جذرياً بالنظام الطوائفي ، على رغم أنها لا تذكر في قوانينها أنها طائفية أو تمثّل طائفةً ما .

د- أكثر الأحزاب في لبنان لم تحمل مشاريع وطنية ، بل مشاريع طائفية . علماً أن الأحزاب العقائدية التاريخية العابرة للطوائف اصطدمت بالجدار الطائفي، ولم تستطع بلورة المشروع الذي كانت تنادي به .

هـ – إن هذا الواقع الحزبي ، بكل سلبياته ، جعل إنتاج السلطة مرتبطاً بالأحزاب المهيمنة ، وهي غير تغييرية وغير إصلاحية . حتى إن بعض الأحزاب العقائدية المشاركة في الحكم لعبت لعبة السلطة ، أو سكتت عنها ، فكانت شاهدة زور ، وبما يتناقض مع إيديولوجيتها .

و- غياب الديمقراطية في العمل الحزبي الداخلي ، من حيث حقوق الفرد الحزبي وواجباته ، والانتخابات إلى المجالس الحزبية ، والرقابة ، وولاء المحازبين لرئيس الحزب ، مما شخصن العلاقة ، وليغدو الحزب في خدمة الرئيس . وقد يفضي ذلك إلى وجود أجنحة متصارعة ضمن الحزب الواحد ، مما يؤدّي إلى انشقاقات ، شهدنا الكثير من فصولها .

ز – لم تُعر غالبية الأحزاب سؤال الدولة في لبنان أهميةً ، من حيث علاقة المواطن بالدولة ، ووجود قوانين متعددة للأحوال الشخصية ، وحرية التعليم ، والمادة 19 من الدستور التي تعطي الطوائف الحق في الاعتراض على أي قانون أو مرسوم يتعرض لصلاحياتها المنصوص عنها ، وعدم المساواة بين الجنسين ، والمادة 95 من الدستور التي توفّر العبور إلى الدولة المدنية (إلغاء الطائفية السياسية) إلخ …

ح – الأحزاب التاريخية العقائدية لم تحاول فهم الواقع الاجتماعي اللبناني بعمق ، فقد شغلتها القضايا الأممية وقضايا الإقليم على حساب القضايا الداخلية. ناهيك عن أن سقوط المعسكر الشرقي (الشيوعي) أدّى إلى ضعفها وعزلتها .

ط – الهم الأساسي لمعظم الأحزاب اللبنانية يتمثّل بتشكيل الوعي السياسي، لدى محازبيها وليس الوعي المواطني . وقد كانت تربية على أن الآخر الحزبي هو خصمٌ او عدو .

ي – على رغم كل الأعطاب البنيوية للأحزاب السياسية في لبنان ، منظوراً إلى الثغرات التي تشوب الحياة الحزبية ومساراتها ، فقد كان لبعض الأحزاب أدوار إيجابية ، لا سيّما في عهد الانتداب الفرنسي (أحزاب الجيل الأول)، إذ خاضت مواجهةً ، إلى جانب الشعب ، لتحقيق الاستقلال . ناهيك عن دور هذه الأحزاب ، في نشر الوعي الطبقي والوعي القومي (أحزاب الجيل الثاني) . ولا يمكن إغفال ما تقوم به راهناً بعض الأحزاب والتيارات السياسية ، غير المشاركة في السلطة ، من دورٍ رقابي على أعمال هذه السلطة ، في المستويين الحكومي والتشريعي .

رابعاً : في المقترحات والتوصيات

أ- بمواجهة مظاهر التأزّم في التجربة الحزبية ، وهي على قدر كبير من الخطورة والاتساع ، فإن المطلوب من الأحزاب السياسية في لبنان  إجراء مراجعة عميقة وذات صدقية ، تطال الظاهرة الحزبية ، بأدق تفاصيلها ومختلف تمظهراتها ، بما يوفّر الخروج من حالة التراخي ، بل الاستنقاع التي فاقمتها الأحداث الخطيرة ، في ظل أزمة مصيرية وجودية تعصف بلبنان ، وتهدّد كيانه ، وعماد هذه المراجعة لن يكون خارج الإجابة عن أسئلة كثيرة ، أبرزها:

1- ما هي طبيعة مشاركة الأحزاب السياسية في الاجتماع السياسي ؟

2- ما هو موقع الإنسان في بنيانها ؟ وما هي نوعية إعدادها وتربيتها لمحازبيها ؟

3- إلى أي مدى تؤثّر البيئة المجتمعية على الظاهرة الحزبية ؟

4- ما هي حدود دور الأحزاب ، في تنمية الثقافة الديمقراطية ، فكراً وممارسةً ؟ وإلى أي مدى تعزّز مسيرة السلم الأهلي في البلد ؟

5- ما هي مساحة الممارسة الديمقراطية داخل هذه الأحزاب ؟ وماذا عن تداول السلطة في مجالسها الحزبية ؟ وما هو حجم العنصر الشبابي ، لا سيما المرأة ، في مكاتبها السياسية ؟ وماذا عن التوريث السياسي المعتمد في بعض الأحزاب ، مما جعلها أحزاب العائلة ؟ إلخ …

ب – ريثما يتم وضع قانون للأحزاب والجمعيات حداثي وعصري ، وفق المعايير المعتمدة في الأنظمة الديمقراطية الحقّة ،  لا بدّ من الحفاظ على قانون الجمعيات المعمول به راهناً (قانون الجمعيات للعام 1909) ، كونه يؤمّن العمل السياسي بشكل جيد ، ومن مزاياه “العلم والخبر” ، بمنزلة الترخيص ، لا يحتاج إلى موافقة أي مرجعية سلطوية . علماً أن محاولاتٍ عديدة جرت لاستبداله ، بحجة العصرنة ، تبين أنها لا توفر المساحة الديمقراطية التي يوفرّها هذا القانون. ومثالنا المرسوم الاشتراعي الصادر سنة 1983 ، الذي جاء مخالفاً للدستور ، وقد تم إلغاؤه .

ج- وقف الممارسات القمعية من قبل وزارة الداخلية ، باتجاه بعض الأحزاب وعدم التهديد بسحب العلم والخبر ، وهذا مخالف للدستور والقوانين المرعية الإجراء .

د- ينبغي أن تضمّ الهيئة التأسيسية لإنشاء أي حزب سياسي أشخاصاً ، ينتمون إلى مختلف الطوائف اللبنانية ، بما ينزع الِسمة الطائفية والمذهبية الصّرفة عن الحزب العتيد .

هـ – مراقبة السلطة المختصة تمويل الأحزاب السياسية ، سواءٌ التمويل الداخلي أو التمويل الخارجي ، لما يرتّب ذلك من إرتهان للجهات الممولة. علماً أن التمويل الخارجي أشدّ خطراً ، كونه ينتهك سيادة لبنان في حال وصل الحزب المموَّل إلى السلطة أو بعض المواقع الدستورية الكبرى . وكبحاً لهذا التمويل ، لا بدّ من تمويل حكومي للأحزاب السياسية ، على غرار العديد من دول العالم ، بما يعزّز استقلاليتها ومساعدتها لبلوغ الأهداف التي تسعى إليها .

و – عدم تهاون السلطة مع الإعلام الحزبي الفتنوي الذي يؤجّج المشاعر الطائفية والمذهبية والمناطقية ، ويضع اللبنانيين في متاريس متقابلة ، تهدّد الوحدة الوطنية والعيش المشترك .

ز- إن الحل الأشمل والأمثل ، الذي يستوعب أزمة الأحزاب السياسية ، وسائر الأزمات التي يتخبّط فيها لبنان ، لن يكون خارج قيام الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنة والحقوق ، دولة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية .

ح- التطلّع إلى دولة مدنية ، قاعدتها أحزاب جديدة ، خارج القيد الطائفي ، كما انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي أيضاً . بل أحزاب علمانية ، في تكوينها وتوجّهاتها ، تنتشر على مساحة الوطن ، بعبورها المناطق والطوائف .

ط- نظراً للتعقيدات ، التي يتّسم بها ملف الأحزاب السياسية في لبنان ، فقد كان توجه من قبل المشاركين في الورشة إلى تعمّق المسألة ، عبر لجان دراسات متخصّصة ، تنكبّ على أرشيف هذه الأحزاب ، ومؤتمراتها الدورية ، ومجرياتها اليومية ، من مواقف وخطب . إضافة إلى النتاج الفكري لمنظرّيها وسواهم من المشتغلين بعلوم السياسة والاجتماع والقانون .

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *