سجلوا عندكم

تأكيد انتماء وتجديد هويّة

Views: 104

د. جان توما

من بنى هذه الجدران؟ من جمع حجارتها حجرًا حجرًا من الشاطىء البحريّ؟ بل من عمل على قصّ الصخور البحريّة بيديه العاريتين ورفعها سكنًا له بفنّ معماريّ جميل؟

في هذا البيت، في بلدة أنفه البحريّة، الذي كشف أصحابه عن شكله الأساسيّ، يشبه مئات البيوت المسكونة الممتدّة على ساحل لبنان الشماليّ.

لعلّ موقعها المجاور لهدير البحر  يشير إلى تلك العلاقة التي كانت قائمة بين الساكن وبحر الرزق التي تؤكد الصلة الحميمة بين مجاورة البحر وذاكرة المنقطع إليه؛ سكنا وباب رزق.

جاء في التراث البحريّ أنّ المياه المالحة تأخذ الأحبة سَحَرًا، وقد لا تعيدهم العواصف، أو تردّهم مع قوارب تشاجرت أشرعتها مع الرياح، فهدّها الصراع وأعادها منهكة إلى الشاطىء، لكنها تعاود جلسات النقاش العاصف من جديد. هذا بخلاف الأرض الثابتة التي يتعامل معها الفلاح برويّة وهدوء نسائم. البحر يأخذك بعيدًا إن ذهبت إليه، والأرض تثبتك فيها إن كنت لها حارثًا وحاصدًا، من هنا جاء القول: إن سقط الريف سقط الوطن.

في البحر  نداء خفيّ يدعو يوميّا إلى مجاراة السندباد في مغامراته، وفيه دعوات إلى اكتشاف العالم ما وراء البحار، والبحث عن جرار الذهب والثروة القائمة في الشواطىء الأخرى. ألم يدعو الصفير البحري ابن ماجد وكولمبس وماجلان ودياز ودي غاما إلى خوض غمار المجهول يومها؟ هذا الجمال السحريّ للبحر الآخذ بأفئدة مجاوريه أتوا بحجارته المالحة ورفعوها بيوتا لهم. كما قاموا بجمع ما تهدّم من أبنية نتيجة القتال والصراعات ليبنوا بلدة متجدّدة.

هذه الحجارة الرمليّة المرفوعة، هنا ماذا لو نطقت بغير الرطوبة؟ ماذا لو نضجت بعرق العاملين الذين هدّهم ملح البحر فكان لهم دواء الجروح والوجع؟ كم ودّع سكان هذا البيت الأبناء المغامرين المهاجرين، أمس واليوم وغدا؟ وكيف نفسّر سعيّ أبناء الغربة اليوم إلى استعادة الأثر القديم وإحيائه كما كان؟ لعلّ في تجديد الفنّ المعماريّ العتيق تأكيد الانتماء إلى هذه الأرض، وتجديد الهويّة، ولو فصل البحر بين وجوه الأبناء وملامح الوالدين المُتعَبَة هنا.

يبقى الحجر ولو غاب البشر. ابحث بين شقوق الحجارة عن رسائل العاشقين، ولا تنسى، أن وجدت منديلّا مطرّزًا، أن تلملم دموع الذين كانوا هنا على دندنة صوت وديع الصافي: ” يا بحر وحياتك رجّـع حبايبنا، حاجة بقى مراسيل وتلولح مناديل، كل العمر مشـــــوار ، يا بــــــــحر يا دوار”.

***

(*) الصورة الرئيسية: بيت بسام الجدّ- أنفه

(https://mclaneedgers.com/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *