غربة

Views: 629

جان قسيس

(النقيب السابق للممثلين)

في غربتِه الجميلة،جلسَ الشاعرُ في ظلِّ قصيدتِه يُلملمُ حروفًا سقطَتْ من سُبحةِ كلماتِه.خطَرتْ في بالِه حبيبتُه، فرَنا إلى زهرةٍ بالقربِ منهُ وامتشَقَ منها شيئًا من العطر،قتلَ بهِ وَحدتَهُ.

ثمّ خطرَتْ في بالِه أمُّهُ، شهدًا من عسلِ الحنان. مدَّ يدَيهِ نحوها حين رآها، وهمَّ بالوقوف. أرادَ أن يقطفَ منها قطعةَ سُكّر. لم تدَعْهُ، بل اقتربَتْ منهُ وقدَّمَتْ روحَها إليهِ على طبَقِ الأُمومة. ألقى رأسَهُ على صدرِها، فسمِعَ وشوشاتِ قلبٍ يُغرِّد. وحين انكبَّ على يدَيها يُقبّلهما، إشتمَّ بين أناملها عطرَ السنابلِ ولَون الحقول.

ثمَّ أغمضَ الشاعر عَيْنَيْهِ قليلًا ليتذكّرَ لَونَ الليل. وفي غفلتِهِ أحسَّ بيَدٍ تداعبُ شعرَهُ وتَمسحُ عن جبينِه تعب الأيّام. لم يفتحْ عَينَيه  كي لا يهربَ منه ُ الحلمُ الجميل. أرادَ أن يبقى مغمِضًا طوالَ العمر، لكنّهُ لم يستطِعْ. قُبلةُ والدِهِ أيقظَتْهُ من غفوَتِهِ الباردة. ألبسَهُ والدُهُ رِداءَ البرَكَةِ ومشى.

ثمّ فتحَ الشاعرُ شفتَيهِ، وأنشدَ لقريتِهِ البعيدةِ أغنيةً هادئةً، حين تذكّرَ الدروبَ العتيقةَ والرفاقَ الصغار، وأعشاشَ العصافيرِ المعلّقةَ على الأشجارِ الفارعة، والزهرَ البرّيَّ والصعتر، والشبابيكَ الغافيةَ تحت ضوءِ القمر، وغُنجَ الصبايا…

ألقى الشاعرُ غُربتَهُ في حقيبتِهِ وحمَلَها، وارتحلَ إلى ظلِّ قصيدةٍ جديدة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *