سجلوا عندكم

طبيب فاشل

Views: 1230

زياد كاج

   يقول المثل الشائع: “تفاحة في اليوم تبعد عنك الطبيب”. ومنذ وعيت على هذه الدنيا وبراد بيتنا لا يخلو من التفاح؛ لحرص امي على هذه العادة وهي ريفية الأصول. لكن القدر لا يأخذ الحكمة والأمثال على محمل الجد. فوجدت نفسي في عيادات أطباء من كل الhختصاصات.

وعندما دخلت في سوق العمل بصورة رسمية في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1985، وجدت نفسي وسط بيئة تعج بالأطباء والممرضات. ولا أنكر أن تجربتي وغربتي التي امتدت خمسة عشر عاماً علّمتني الكثير عن عالم الطب ونفسية الأطباء والطريق الطويلة والوعرة التي يسلكونها قبل الجلوس في عيادة خاصة بهم وخلفهم شهادات معلقة على الحائط.

      الطب، كأي مهنة واختصاص (رغم طابعها الإنساني)، طريق وعر وطويل فيه عوامل الفشل والنجاح بنسب متفاوتة . لذلك تتعدد الاختصاصات؛ ويقرر الطبيب أو الطبيبة بعد الحصول على شهادة الطب العام التخصص في المجال وفق  الميول والعلامات  بعد موافقة عميد كلية الطب الذي يشرّع شهاداتهم بإمضائه.

    عرفت الكثير من الأطباء: خاصة المتدربين منهم. فطوال عملي في المستشفى الجامعي كنت على تواصل يومي ومباشر مع هؤلاء؛ وكنت أتفهم معاناتهم والضغوط التي كانوا يتعرضون لها بسبب إزدحام برنامجهم اليومي. حتى أنني –كغيري من الزملاء والزميلات – صرت أعرف بالتجربة الطلبة  المتفوقين. ولطالما  لفتتني إنسانية وتضحيات وتواضع تلامذة الطب في مستشفى الجامعة الأميركية وأغلبهم من عائلات ميسورة.

   لا أزال أذكر الكثير منهم—الذين أصبحوا أطباء معروفين اليوم ويحتلون مراكز هامة في لبنان والخارج. قلة قليلة من الطلبة كنت أعتبرهم “فاشلين” إنسانياً (على الأقل من وجهة نظري). ففي مهنة الطب يوجد طبيب “يلمع اسمه” وآخر لا “يلمع”. كما في الهندسة والمحاماة والتعليم .. وحتى في السياسة.

   أحد هؤلاء “الفاشلين” شاءت الصدفة أن التقيه قبل سنوات وأنا في عمر المراهقة على ملاعب الجامعة الأميركية في بيروت. كنت في الرابعة عشرة من عمري وأقصد ملعب كرة السلة مع شلة من الأصدقاء من المدرسة الرسمية بعد التسلل وخداع حراس الأمن الذين كانوا “يطمشون” لعبورنا الحرم . الملعب الذي كان قريباً من فيلا جميلة يسكن فيها عميد كلية الهندسة لم يعد موجوداً اليوم. والحشيش الأخضر لملعب كرة القدم استبدل بحشيش اصطناعي. هناك .. لفتني لأول مرة “طبيب المستقبل الفاشل”.

كان أصغر مني ويسكن  في حي قريب في رأس بيروت. لم يكن يشارك في اللعب على الإطلاق. كان يكتفي بالوقوف جانباً لمشاهدة المباراة الحامية وإطلاق بعض التعليقات الساخرة ، فتظهر أسنانه البيضاء وسط بشرته السمراء. وما لفتني في شخصيته السمجة أنه كان يحضر بالثياب الرياضية الغالية الثمن ويحرص على أن لا يتعرق.

  لطالما تساءلت عن سبب حضوره من وقت لآخر دون أن يكون له اهتمام أو شغف بكرة السلة. كان الملعب مكان لالتقاء شباب وشابات المنطقة والأحياء القريبة والمحيطة بالجامعة؛ والكل كان مولعاً باللعبة التي لم تكن قد انتشرت شعبياً كما هي   اليوم.

   دارت عجلة الزمن ودخلت الجامعة للدراسة ثم التحقت بالجامعة الأميركية موظفاً من الدرجة الرابعة. كانت وظيفتي مكتبية بطبيعتها؛ جهاز الكومبيوتر لم يكن بعد متوفراً، ومعظم المعاملات كانت تتم ورقياً. وبحكم وظيفتي “ككاتب” عملت وسط الممرضات والممرضين وتلامذة الطب والمرضى وأهلهم. من كثرة تعبئة صفحات  ملفات المرضى كانت يدي اليمنى تؤلمني؛ ولطالما كنت أفقد التركيز بين المكالمات الهاتفية الهابطة عليّ كزخات المطر وأحد أقارب المرضى يلج عليّ من خلف المكتب…وسط كل ذلك الضجيج الذي كان يحرق الوقت والأعصاب، عدت والتقيت “بزبون” كرة السلة الساخر. هذه المرة كان يرتدي ثوب  طبيب متمرن.

      كان هذه المرة متسلحاً بشعور التفوق والشماتة. فهو الطبيب الأعلى رتبة ومحط أنظار الممرضات وأمل المرضى وأقاربهم. وكما يقول المثل الفرنسي: “إن لم تكن ملكاً، فكن طبيباً.” وأنا الموظف المحدود الصلاحية وشبه الجاهل في بيئة المستشفى .

   جميعنا كموظفين على اختلاف مهامنا والدوائر التي نعمل فيها كنا نعرف بعضنا على الأقل في الشكل. نلتقي   في المصعد المكتظ والأروقة وعلى الدرج  وفي الكافيتيريا المرغوبة في كل الأوقات. الكل كان يعرف الكل. تنتقل الخبريات في المستشفى –خاصة من النوع الذي يكسر الروتين —كالنار في الهشيم. وحين سمعت أن والد هذا الطبيب المغرور يعمل معنا في المستشفى، تخيلت أنه قد يكون مدير قسم محاسبة أو مسؤولاً عن دائرة معينة أو طبيباً متخصصاً.

   لا أنكر أنني تفاجأت حين علمت أنه ذلك الرجل المتقدم في العمر الذي كان يقصد الطابق لأخذ مريض الى قسم الأشعة. كان الرجل يعمل باحترافية عالية وثوبه الأبيض نظيف ومكوي جيداً. يقدم لي الطلب الذي يحتوي اسم المريض ورقم الغرفة. ثم يُجلس المريض على الكرسي المتحرك ؛ ينقله بهدوء الى قسم الأشعة ويعيده الى غرفته بعد تصويره. كل المستشفى كانت تعرفه. كنت أراه مراراً ولطالما لاحظت مسحة من الحزن على وجهه. وعندما علمت أن ابنه الطبيب المتشاوف لا يتحدث معه—بل يتجنّبه في المستشفى—ازدادت نقمتي على هذا الطالب واحتقرته أكثر، وتعاطفت   مع الأب-الزميل.  سألته مرة اذا كان ابنه يدرس طب ، فأكد لي  ذلك وعبّر عن اعتزازه وافتخاره بأبنه، عاضاً على جرحه العميق!

   صغر ذلك الطبيب-المشروع  الفاشل بنظري أكثر. أيام كرة السلة على الملعب الأخضر في الجامعة كان ساخراً من الجميع. واليوم في المستشفى يتشاوف حتى على أبيه الموظف البسيط الذي قضى عمره كي يعلمه ليصل الى ما هو عليه اليوم. ربما باع الأب قطعة أرض كي يعلمه ويفتخر به؟ ربما أذل نفسه أمام أبواب كثيرة؟

   بعد 15 سنة  من العمل في المستشفى انتقلت للعمل في المكتبة الطبية، فابتعدت عن أجواء الطب والمرضى والأطباء. لكنني عرفت صدفة أن والد الطبيب المغرور قد بلغ سن التقاعد. فقرر الطبيب المسؤول عن قسم الأشعة أن يقيم له حفلاً وداعياً تكريماً له لخدمته الطويلة وسلوكه المهني المثالي. عرف الطبيب الشامي- الأصول  أن أبن موظفه المتقاعد يرفض حضور الحفل تجنباً للإحراج . فإتصل بالطالب المغرور موبخاً متوعداً. رضخ الابن  وحضر الحفل  الوداعي دون أن يرتدي ثوب الطبيب الأبيض.

   بعد سنوات تخرج الطبيب وافتتح عيادة ملاصقة لمستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. كنت ألمحه أحياناً على الطريق  يمشي مختالاً بنفسه. دائماً يرتدي ثياباً غريبة وغالية الثمن كي يلفت الأنظار؛ قيل إن ديكور عيادته كلّف مبالغ طائلة.

   عاد وأغلق العيادة لاحقاً؛ ولم أعد أراه في محيط المستشفى. ترى أين يختفي الأطباء الفاشلون؟

 

                               

 

  

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *