سجلوا عندكم

“لا داعي للهَلَع”

Views: 692

باسم عون

-” آلو، مِسْيو عون؟”

– “نعم، مين مَعي؟”

-“معَك كاريتاس رَيْفُون.”

– “أهلا، خير انشالله.”

-” مِسيو عون، بُكْرا عالسّاعة تسعة عنّا محاضرة بالمركز بِخْصوص البروستات. منِتأمَّل حضورَك، بدْنا عدد حضور، بتعرف ، ما بدنا نعذِّب الحَكيم عالفاضي.”

-” طيّب رح كون عالموعد. ان الله راد.”

 أقفلت الخطّ وبي من الذهول والوجوم الشيء العظيم… صحيحٌ أنّني كنت أستهجِن في الآونة الأخيرة – وعلى غير وجه حقٍّ كما يبدو – تلك الكلمة الممجوجة يا “حجّ”، أو تلك الصّفعة الأدهى، أعني كلمة “عَمّو” أُرمى بها كيفما اتّفق، أكان في السّوق أم في التاكسي أو حتّى في العمل، غير أنَّ هذا الاتّصال اللعين صبيحة هذا اليوم، كان له الكلمة الفصل في تأكيد ما خرَّبَتْه آلة الزمن المتراكض في الأجسام المستهلَكَة الخَرِبَة… وأنا الذي لم يكن لطلائع الشَيب أن تقضَّ مضجعي، ولا لضغط الدَّمِ أن يَفُلَّ من عزيمتي، ناهيك عمّا تزعمه زوجتي من شخيرٍ لي يعكّرُ سكون الليالي، فإذا بي أراني اليوم، ودون سابق إنذار، قد انضممت مكرَهًا وعبر مكالمة هاتفية، إلى نادي “البروستاتِيين” المُهدَّدين بعواقبِ ما تعيثه البروستات اللئيمة في أجسام الرجال وأحلامهم من الخراب المُبين. وإلاّ فما جدوى هذا الاتصال؟ أتراه بعض المغالاة من قبل عاملة الهاتف، في الحرص على المرضى و”الأنفس المُنقطعة” مِمَّن لفظتهم الفاقة على أبواب المؤسّسات الخيريّة؟ أم تراهُ ملفّيَ الطبّي الحافِل وقد وشى بي عند من بيدهم الحلّ والرّبط، فكان هذا الاستدعاء على عجل إلى المضبطة الطبّيّة تِلك؟ لا أدري. وها أنذا قد قطعتُ وعدًا بالحضور وبات عليَّ الوفاء به رغم كلّ ما يصرخُ بِي أن “دَعْك من ذلك، وانجُ بصيتِ شبابك.”

قبَيْل الموعد المذكور وجدتُني أمام المركز. ركنت السّيارة عند الناصية، قرب الطريق العامّ تحسّبًا لأيّ رغبة ملحّةٍ في الفرار. دلفتُ إلى الباحة وكلِّي أملٌ بأنّه ربّما طرأ ما أطاح بالمحاضرة، غير أنّ ما تفرّق هنا وهناك من الآدمييّن قد خيّبَ ظنّي.

 كانت الهامات البيضاء منتشرة في أرجاء المكان تتفيّأ الظّلال الوارفة بانتظار وصول الطبيب المحاضِر… ودارت الأحاديث قتلًا للوقت، فمنها الاجتماعيّ النّزعة ومنها السّياسيّ المنحى، ولكنّ الطابع “البَوْلِيّ” للأحاديث كان هو الغالب، كيف لا وما دفع هؤلاء العجزة إلى هجر أسرّتهم إنّما كان غدّة البروستات الميمونة الذِّكر! ولو قُدّرَ لك عزيزي القارئ، أن ترى ذلك المشهد، لوجدتَهُ سُرّياليًّا بامتياز، يذكّركَ بمشهد نواطير الثلج في فيلم بيّاع الخواتم للرّحابنة.

 انتابني الارتياح بعض الشيء عندما لاحظت أنّ الفتيّ الفتيّ في هذه المجموعة قد ناهز السبعين، ودليلي في ذلك النّظارات السّميكة والعُكّازات المتهالكة، وذلك السّعال الموصول حينًا المتقطّع أحيانًا. نعم ارتحت قليلًا لأنّني علّلت النّفس بأنّ دعوتي هذه ما كانت إلّا من باب إكمال ما نَقُصَ من عدد الزبائن المُراد تأمينهم للطّبيب الجديد.

 في هذا الخضَمّ ، برز بين المدعوِّين “المُستَدعَين” عجوزٌ منتصبٌ كالرمح، ولو أنّ يمينه كانت ترتكز على عصًا قد تكون كلّ ما تبقّى من عصر مراجلَ قد تلاشى. أمّا صوته الجهوريّ فقد بدا مُلَعلِعًا في الباحة، ممّا يَشي بتداعي السَّمعِ عند هذا العجوز الظّريف. عَلَت القهقهات قرب العمّ “حنا” صاحب العُكّاز، فدنوت من الحلقة المحيطة به مستطلعًا، فإذا به يروي على الملأ كيف خذلته سمّاعة الأذن بعد نضوب البطّاريّة.

 – “يا زَلْمي هَالسمّاعة مُشْ مِن تْسَمِّع. راحت البطاريّة وحقْها – بنت الكلب – تلاتين دولار، أَمَعِش مِنُن دولار واحِد…”

– “وبَعْدان”؟ قال أحد المتحلِّقين.

ردّ العمّ “حنا”:

-“لا بَعْدان وْلا قَبْلان. تَلْفْنولي من الكاريتاس. كنت وحدي بالبيت. رِدَّيْت. قال أيْش؟ بِدُّن ياني روح مِنشان مْحاضْرة، بِدّو يعمِلْها حْكيم لبناني جا من إلمانيا من شهرين.”

– “إي؟؟”

-” سْكوت يا زَلْمي. أَيْش هَالجُرْصَة!”

– “خَيْر، أَيْش صار؟” سأل أحدُهم.

-“رَح خَبّرَك أَيْش صار. قِلتِلْها يا عَمّي عن أيْش هَالمْحاضْرة؟ خَبْرِتْني. قِلتِلْها مَنِّكْش عارفي نحنا هَوْن مِنصَلّب بالخَمْسي؟ ومِن ِتدْعيني عَ مْحاضْرة عن البروتستانت؟ أيْش بِدِّك يَعْمِل فِيّي “مار زخيا” ان رِحت. بعدان هلّق صارو شهود يهوه* من يَعْملو مْحاضْرات بِبَيت البَطرَك؟* قِلت هَالكِلْمتَين ولا بَقَش سْمعت غير الدّحْك، وراح الخطّ.

 فانفجرت الحلقة بالقهقهات من جديد، وكنت أول الضاحكين، فشكرت القدر الذي دبّر لي هذا الصّباح البهيج من حيث لا أدري.

واستدرك العم “حنّا” قائلًا:

-” قول يا خْواجا رَبَّك دبَّر وْجات بِنْتنا واتصلِت فِيُن…”

ها ها ها… يا عَيْب الشّوم، طِلْعت المْحاضرة عن البروستاتا. يِلعَن أبو السّماعات وساعِتا.”

 وأخيرًا وصل الطبيب، فانفَضّ المدعوّون وتوجّهوا في إثره إلى الداخل. على المدخل، اعتصمَت إحدى الموظّفات برُزمةٍ من الأوراق توزّعها على الداخلين، ليُصارَ إلى مَلئِها بما تيسَّر من معلومات فيما يخصّ موضوع المحاضرة. وكان غنيًّا عن القول أنَّ الأوراق قد جاءت في الوقت المناسب، فتحوّلت إلى مَراوحَ يدويّة تُلطِّفُ من حرارة الجوّ الخانِق.

كانت الصّالة المعَدّة لاستقبال الحضور تقبع في الطابق الثالث من البناء، فكان على المدعوِّين ارتقاء أربعين درجة بالتّمام والكمال، فالمصعد – الذي لا يصعد – قد سُدّت واجهته بإناءٍ كبيرٍ من الزّهور الاصطناعيّة.

وبدأت طلائع الوافدين بالوصول إلى القاعة حيث صُفّت الكراسي بما يتناسب مع فرض التباعد المطلوب، وتفرّقت الأجسام هنا وهناك تفرُّقَ الجنادب على الصخور في حَرّ الظهيرة.

 وما أن بدأ الطبيب بالمحاضرة حتى جاءه مَن طلب منه الانتظار ريثما يصل العمّ “حنّا”، فهو ما زال يعاند درجات الطابق الثاني …

 فتىً نحيلٌ أسمر ينقّلُ في الحضور عينَين ثعلبيّتَين ترافقهما ابتسامة ملؤها الثّقة والتحدّي يوزّعها على “مرضاه” العتيدين رغم أنوفهم. إنه الطّبيب “الألماني”. غير أن كل ذلك لا يُعتبَرُ شيئًا يُذكر إذا ما قيس بما يبديه من الوقاحة. وإلّا فما هذه الرّسوم التي راح يعرضها خلفه على الشاشة، مِمّا أدى إلى تململِ البعض على استحْياء، وراح البعض الآخر يهز الرأس آسِفًا على زمنِ عِزٍّ مضى، أمّا الّذين اشرأبّت منهم الأعناق مِمَّن لم تخمد بعد جذوات الشهوات في رماد أجسامهم ، فقد راحوا يتلمَّظون ببعض أخْيِلةٍ تجلّت في العيون الخبيثة الماكرة…

وقد لفَتني في عمقِ الصّالة – وعلى إحدى الكراسي – ما احْترْتُ في تصنيفِهِ بين الجنسين غير أنّ بُروز تضاريسَ في الصّدرِ والأرداف قد قطع لي الشّكّ باليقين. فأومأتُ إلى جاري سائلًا في ذلك ، فأجابني على الفور:

 – إنّها سعدى، ابنة قريتنا، حرَنت في بيت والدها ما يقارب النصف قرن، وعندما طلبها أحد الانتحاريّين ممّن ختم الله على قلوبهم والأبصار، تزوّجَته بعد تردُّد، ومن ثمَّ طغَت وبغَت وتجبَّرَتْ فاسترجلت، ولعلّها قد أصبحت تعاني ما نعانيه، ما دفعها إلى حضور المحاضرة معنا. والله أعلم.

 وأوغلَ الطّبيب في محاضرِته:

– البروستات يا أصدقائي غدّة صغيرة جعلتها الطّبيعة حول عنق المِبوَلة، تحيط به إحاطة الخاتم بالإصبع. ومع مرور السنين، يحدث أن تتضخّم هذه الغدّة بسبب المشاكل المتعدّدة التي سنتحدّث عنها في سياق المحاضرة. هذا وقد أثبتَت الدّراسات أنّ أربعين في المئة من الرِّجال ممّن تخطّوا الأربعين، يعانون من تضخّم البروستات، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا، فلا تخافوا.

 هنا، مالت الرؤوس البيضاء استحسانًا، مُثنيَةً على شرح الطبيب وتطميناته.

 وتابع المحاضِر:

– أمّا العوارض التي قد تدلُّ على مشاكل هذه الغدَّة فأهمّها: تقطّعٌ في البَول، تواترٌ في دخول المرحاض، ضغطٌ في منطقة الحَوض، تغيُّرٌ في لون البَوْل إلى اللون الغامق، الشعور بالحريق أثناء التَّبَوُّل، إلخ…

 وهنا زال استحسان الجمهور وساد الصّمت والوجوم، فبِتَّ ترى النّظَرات الخائفة الخائبة تتنقّل بين الحضور، ناهيك بالهمهمات وبهزّ الرؤوس استنكارًا، لكأنّك في أحد طقوس التواصل عند إحدى الفِرَق السّريّة المحظورة.

وسط هذا السّكون المهيب، حيث أيقنَ جُلُّ مَن في القاعة أنَّه معنيٌّ لا محالة، وأنّ الطّبيب قد أردى المتفائلين – وأنا منهم – بالضربة القاضية وبالعوارض الدامغة، لعلعَ هاتفُ أحدهم ، فكان الردّ بالمثل وبصوتٍ عالٍ طغى على صوت الطبيب و مذياعه ، فعرفتُ في الحال صوت العَم “حنّا”:

– آلو… إي… نِحْنا بالمْحاْضَرة… إي بَلَّش الحْكْيم… قالولْنا جا من إلمانيا … إي، مِن يِشْرح .. إيش؟ لا، بعد ما سْألتُشْ… يا مَرا ماليش عَين… من يْقولولي تَ سَكِّر التَّلِفون… لَه جينا عالفاضي أفيش دوا اليوم… أَيْش؟

 وهنا طلب الطبيب التدخّل السَّريع من منظِّمي المحاضرة، فكان له ما أراد، ودُفن الهاتف المحمول في جَيب صاحبه.

 وتابع الطّبيب:

– “أما الحلول فهي متوفّرة إذا تمَّ استدراكها في وقت ُمبْكِر، ومنها استعمال المضادّات الحَيويّة في حالة التّضخُّم الحميد مروراً بالتخفيف من الغدة عبر قحط بعضها وصولاً إلى استئصالها بالكامل إذا ما لزِم الأَمْر خوفاً مِمّا لا تُحمد عُقباه . وأيضًا أقول لكم بأن لا داعيَ للهَلَع…”

 وهنا عاد العمّ “حنا” ليضربَ من جديد، فألقى بقنبلته الصّوتيّة:

-“يا حْكيم إذا شالولو ياها لِلواحِد بيضلّو يقدَر يْمارِس؟؟”

فانفجر الطبيب بالضّحك حتى سالت دموعه، فأمسك بخاصرتيه وصاح بالسائِل الظريف:

– “ولك نَطَرناك نصّ ساعة تَ طْلِعت الدرج… أيش بِدَّك تْمارِس يا عمّ؟!”

 وساد الضّحك والهرج، وسُرِّيَ عن الحاضرين. ولئن كان السّؤال القنبلة من ابتكار العمّ “حنّا”، أو بطلبٍ من زوجته، أو بإيعازٍ من أحد الخبثاء من بين الحضور، فجواب الطبيب كان حازمًا جازمًا مانعًا:

 – “لا يا عَمْ، إذا شِلْنا البروستات، ممارسة يوك، يعني بَحّ، العوض بسلامتك!”

 فردَّ العجوز على الفور:

– ” يبقالنا وجودك. “

فاشتعلت القاعة وضجت مجددًا بالضّحك . ولكنَّه ضَحِكٌ من نوعٍ آخر ،ضحكٌ من ذلك النّوع الممزوج بالمرارة مما يعكس صورة لهذا الهلع المضحك المبكي ،هذا الهلع الذي يعانيه الرَّجل وقد بات مهدّداً بأعزِّ ما لديه، بل بآخر ما تبقى له من مؤشرات الرجولة بعدما جُرِّدَ أو كاد من كل عنفوان وكرامة في هذا الشرق التّعيس.

…وانتهت المحاضرة. فأشار الطبيب إلى أحدهم بوجوب زيارته في العيادة. وعند اعتراض هذا الأخير، أكّد له المُحاضِر بأنَّه من غير الطبيعيّ أن يزور المرحاض ثلاث مرّات أثناء محاضرة لم تدُمْ أكثر من نصف ساعة.

 وبينما راحت السكرتيرة تسجّل مواعيد الكشف السريريّ لِ “المرضى” المُحْرَجين ، وبرغم زعْمي أنّني مِمَّن يدَّعون في العِلم فلسفةً، رأيتُني وقد انَسلَلتُ إلى الدّرج ،بعيداً عن أعْيُنِ الموظفين ،ورحتُ أهبط درجاته مثنىً وثلاثًا ورُباعًا، فإذا بي وفي غضون ثوانٍ معدودات في الباحة الخارجيّة ، ومُحاذرًا النّظَر إلى الوراء ، هرْولتُ طالباً سيّارتي التي تركتُها هناك عند الناصية، وأنا أردِّدُ بلا انقطاع : السّلامة غنيمة، السّلامة غنيمة… وَليذهبْ الطّبيب بهذِه ال “لا داعي للهَلَع” إلى الجحيم !

 * كان مما التبس على العامة بين الموارنة ولا سيما العجزة منهم الخلط بين الطائفة البروستانتية الكريمة وأصحاب بدعة مهرطقة تحت اسم “شهود يهوه” …

* من الجدير ذكره أن مركز كاريتاس في ريفون كان بيتًا لغبطة البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير وقد قدمه للمؤسسة المذكورة.

في 4/  7/ 2021

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *