“المتاهة” رواية لفاطمة نداف تبصر النور بعد أربعين عامًا
زياد كاج
أول مرة سمعت باسم “الكلاسة” كانت على لسان جدي المرحوم الحاج أبو مصطفى– البيروتي من أصول حلبية، والذي رغم حصوله على الجنسية اللبنانية بقي محتفظاً بعاداته وأمثاله ولكنته الحلبية المحببة، وبطربوشه الأحمر الداكن المستريح اليوم في بيت أهلي في رأس بيروت.
بيت جدي كان “روفياً(من الروف) “في عائشة بكار حيث كان الحاج يستمتع بالاعتناء بشتول أزهاره وحبقاته على شرفته الكاشفة للجبال لجهة الغرب. شيء من عالم حلب خلقه على شرفته .
ثم تواتر أسم “الكلاسة” على مسمعي من الأقارب والأعمام الذين زاروا حلب والحي وتعرفوا على أقارب لنا هناك.
في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت يوجد الكثير من الكتب عن سوريا والمدن السورية كدمشق وحلب وحمص وغيرها. حاولت العثور على كتاب عن “الكلاسة” دون جدوى. وجدت بعض الكتب عن حلب التي تضمنت صفحات عن “الكلاسة” وتاريخها. لكنها بقيت شحيحة لم تروِ عطشي لمعرفة المزيد عن الحي الذي تركه جدي قاصداً بيروت للاستقرار والعمل وتأسيس اُسرة. ثم تبعه أخوته وأبوه ليستقروا في بيوت أرضية عمروها بإيديهم وعرق جبينهم. الدولة أزالت الحي ودفعت تعويضات، وبنت مكانه حديقة “عائشة بكار”.
خلال دوام العمل في المكتبة، وبين يدي كتب من مجموعة الدكتور أحمد علبي المهداة، عثرت بالصدفة على شبكة النت على رواية بعنوان “المتاهة ” لكاتبة سورية اسمها فاطمة نداف. وكانت المفاجأة الكبرى أن الرواية كلها تدور حول عالم وناس وأحداث جرت في حي “الكلاسة”! أخيراً، عثرت على “رواية-كتاب-وثيقة” فيها عبق وأجواء الأجداد والجذور. لكن كيف أجدها؟ وهل هي متوافرة في السوق ؟ يبدو أنها رواية نادرة يصعب العثور عليها.
بحثت كثيراً في المكتبات دون جدوى. صدفة، وأنا عائد من الصيدلية مررت من أمام شاب سوري يفتتح محل لبيع الكتب المستعملة قرب مستشفى خالدي سابقاً ( لم تعد موجودة). سألته عنها، دخل وعاد مبتسماً وفي يده الرواية. أشتريتها بثلاثين ألف ليرة لبنانية وأنا العامل في أهم مكتبة في البلد ولا أشتري الكتب منذ أن بدأت العمل. سررت بثروتي المعرفية الثمينة. صارت راوية فاطمة نداف رفيقة سهراتي للأيام التالية.
“المتاهة” هي رواية وُضعت في زجاجة وضاعت في بحر من الأقدار لتظهر بعد 40 سنة. هي بكل بساطة “مرآة” لحي الكلاسة. كُتبت في طرابلس في ليبيا سنة 1976 ثم صادرتها شرطية سنة 1977. أعادت فاطمة كتابتها سنة 1989 لكن الناشرة خذلتها. سنة 2003 صورت شقيقة الكاتبة نسخة من الرواية ونقلتها معها الى حلب. احترقت الرواية ببغداد في معمعة الحرب سنة 2006. لكنها عادت وأبصرت النور ببيروت سنة 2017 . يشبه قدر هذه الرواية قدر حي الكلاسة التراثي .
أهمية “المتاهة” أنها تشبه المنطقة الشعبية والتقليدية التي تتحدث عن عوالمها بصوت أنثوي ناضج، عالم محيط بالتفاصيل وأحوال الشخصيات والتحولات السياسية في سوريا والحي. وتكمن القيمة الحقيقة في روايتنا-اليتيمة عن “الكلاسة” ( الذي شهد دماراً هائلاً بسبب الحرب) في نقلها لأجواء وعادات السكان مقارنة مع مدينة حلب، وفي الكم الوصفي الدقيق لطبيعة الأمكنة ودواخل البيوت وطرق عيش الناس، وفي الأمثال الشعبية والمناسبات الفرحة والحزينة. مع الأبقاء على المتغيرات السياسية والعسكرية في المشهد الخلفي للنص الروائي، لأن اهتمام الروائية نداف هو اجتماعي نقدي بالدرجة الأولى.
تقول فاطمة إن حي الكلاسة يتميز عن بقية أحياء حلب بكثرة آباره المالحة، لأنه ربما يقع جنوب المدينة وفي مستوى منخفض..أما ضريح أبو الرجا والمقبرة فيرتفعان عنه بتلة صغيرة مثل هضبة، ويطوق نهر “قويق” الجاف بساتين الحي على شكل نصف دائري. “ما أحببت المدينة يوماً” تعترف الكاتبة على لسان أحد أبطالها، “كرهت المدينة لأنها خالية من الحقول الشاسعة”. فالبيوت متلاصقة والجدران عالية وعلى المرأة أن تلبس “الملحفة ” وتضع على وجهها “الباشاية” مثل نساء المدينة..”إذ من العار ان تخرج المرأة من بيتها بدون سبب او حتى سماع صوتها من قبل رجل غريب”.
المدرسة كانت لأولاد “الأكابر”. فمدرسة اليرموك واحة خضراء وسط حي الكلاسة الفقير المزدحم بدوره الحجرية المتراصة. ومن باب الفرج حتى باب النصر عبر جادة الخندق تمتد سكة الترام وسط الشارع الطويل الذي تقوم على جانبيه مبان حجرية قديمة ولكنها جميلة ومزخرفة بالمشربيات التي توحي بأنفاس تاريخ حافل. أسرة عبد الرحمن المرهوبة الجانب تسكن في دار واسعة مختلفة: دار حجرية واسعة تقام فيها معظم اعراس الحي لسعتها وجمال بنائها..حجراتها الكثيرة ذات النوافذ الضيقة والمكسوة بالزجاج الملون.. و”ليوانها” الكبير ذو الأعمدة الرخامية من الحجر المنحوت..أما أرض الدار المبلطة بالمرمر الأبيض فتتوسطها بركة ماء..
“مدينة بيضاء كل شيء فيها أبيض”، هكذا تصف الروائية حي الكلاسة (الاسم جاء من صناعة الكلس قديما حيث كان الحي يضم أتاوين الكلس الذي كان يستخدم في بناء البيوت وطلّيها).. وحلب أو حلبابا هي كلمة عمورية قديمة تعني النحاس. كانت المدينة مركزاً للنحاس تتاجر به أو تنتجه. معظم سكان الحي يعملون في البناء، نحت الحجر أو تبليط أرضية الدور والمساكن.. ويكاد الموظفون يشكلون الطبقة العليا في الحي. وكانت البيوت في الحي تعتمد على مياه الآبار المالحة الموجودة في كل بيت، وقد نصبت البلدية في مفارق الأزقة صنابير تمد السكان بالمياه العذبة للشرب.
“كانت حنفية أبو الرجا القائمة على طرف زاوية المقبرة المقابلة للزقاق ملتقى صبايا الحارة وأطفالها. بستان النمري بداية لسلسلة بساتين ما بين حي الكلاسة وحي المشارقة يفصلها مجرى نهر قويق الجاف الذي حول مجراه الاتراك عند اقتطاعهم لواء الاسكندرون سنة 1920”.
تتبدل الحياة في رمضان عن بقية الشهور في الأحياء القديمة التي ما زال أهلها يعيشون على رائحة الأجداد وطقوسهم. “يفيق أهل الزقاق على صوت المسحراتي الشجي وطبلته الصغيرة… يذهب بعض الرجال الى جامع زكريا الكبير لأداء صلاة الفجر… رمضان في حّينا مهرجان للأكل، للدعوات والزيارات.. ويا ويل من كان مفطراً:
يا مفطر رمضان يا مضيع دينو
كلبتنا العورة تاكل مصارينو”
لا تخفي الروائية مللها واعتراضها على التقاليد الذكورية المتوارثة رغم حنينها الى ذكريات طفولتها ومراهقتها في الكلاسة. “يكاد الملل يقتلني”، تقول على لسان إحدى بطلاتها.”فكل شيء في هذا الزقاق يسير بإيقاع بطيء، والناس فيه يكررون أيامهم الرتيبة.. في هذا الحي دائماً الحزن عام والفرح عام..عالم صغير ولكنه ملتئم تماماً.
بسرعة خاطفة تمر الكاتبة على المواضيع السياسية: نكبة فلسطين 1948، الوحدة بين مصر وسوريا، حرب 1976، بروز التيارات السياسية كحزب البعث، والتنظيم الناصري وجماعة الإخوان المسلمين . وعند انتشار خبر وفاة عبد الناصر “تفجرت الاحزان المكتومة دمعاً من مآقي الرجال وحمل الشباب نعشاً رمزياً.. وخرجت من الزقاق جنازة لعبد الناصر يتبعها الرجال والنساء والاطفال والكل يصيح الله واكبر.. لم يشهد حي الكلاسة تجمعاً مثلما شهده ذلك اليوم..”
يبقى أن الأمثال والعادات الحلبية والكلاسية بين طيات صفحات الرواية ذات قيمة ثقافية وتراثية. كأن تخرج الأم وبناتها تقرع أبواب بيوت الحي بحثاً عن عروس تناسب أبنها الوحيد. والذهاب الى السينما غير مسموح به إلا في الأعياد. تعليم الصغار كان بحفظ القرآن وختمه، والحاجة أم ديبو كانت طبيبة الحارة ومعروفة بمهارتها بالعلاج بكؤوس الحجامة.
والأمثال الحلبية تمتاز بمسحة ساخرة وبإيجاز شديد: “إذا سرقت اسرق حرير، وإذا حبيت حب أمير حتى إذا عيروك تستاهل التعيير؟”..”خلي العسل بجرارو حتى تيجي أسعارو…”، ” اللي ياخد أمنا نسميه عمنا”، ” كل واحد على قد لحافو بمد رجليه”، “حلاق فتح..بأقرع استفتح”.
لحسن الحظ أن رواية ” المتاهة” لفاطمة نداف لم تضِع في عتمة النسيان، وحفظت لنا ولكل مهتم بتراث حلب والكلاسة تراث وأجواء مجتمع الكلاسة من الأربعينات الى الستينات. فبقيت بين أيدينا “رواية-وثيقة” عن حي يكاد أن يضيع في متاهة النسيان.