قراءة في رواية “زوربا” للكاتب اليوناني نيكوس كازنتاكيس

Views: 188

لطيفة الحاج قديح

بين أيدينا تحفة أدبية خالدة هي الرواية الموسومة بعنوان “زوربا” لكاتبها ” نيكوس كازنتاكيس” المولود في العام 1885 في جزيرة كريت.

درس نيكوس الحقوق فى آثينا، ودخل الحياة السياسية اليونانية فى عام 1947م. ومن أعماله: أوديسة شعرية  وكتاب “الإغواء الأخير للمسيح”، وسيرته الذاتية التى كتبها فى “تقرير إلى غريكو”، وكتاب الرياضيات الفكري بعنوان “حديقة الصخور” وأخيراً أيقونته الساحرة والجامعة لكل أفكاره تقريبا التي صدرت في العام 1946، وانتظرت حتى العام 1964   كي تستثمرها هوليوود في واحد من أهم وأشهر الأفلام العالمية للمخرج ” مايكل كالويانيس” وبطولة النجم الأميركي اللامع أنتوني كوين.

ترجمت الرواية إلى كثير من اللغات العالمية، ومن بينها العربية حيث صدرت في العام 57 عن دار الآداب اللبنانية، بترجمة للأديب جورج طرابيشي فى 316 صفحة من القطع الكبير، ثم ترجمها الأديب سامة أسبر و بيع منها ملايين النسخ..

 

وقد رشح صاحب الرواية ثلاث مرات لنيل جائزة نوبل ولكنه لم ينلها.

وتحكي الرواية قصة رجل عجوز تعرف عليه الكاتب في إحدى سفراته، وسرعان ما اكتشف أن “العمل مع زوربا نبيذ ونساء وأغنية والرجال سكارى” (ص 237) فاستخدمه. ونشأت بينهما صداقة يتأثر من خلالها صاحب العمل بشخصيه مخدومه فيرسمها بفرشاة رامبرنت بكل دقة وعناية.

ولكن السؤال الذي يطرح هنا، ما هو السر الذي جعل من رواية نيكوس رواية عالمية خالدة؟

وربما لن نستطيع الاحاطة بكل تلك الأسرار التي جعلت منها ما هي عليه من الشهرة، فهذا يتطلب صفحات وصفحات، وسوف نحاول حصر الإجابة ببعض الإضاءات:

1_ وقد يكون الجواب: في القصة نفسها التي تروي حكاية رجل مثقف، وغني اسمه باسيل، غارق في قراءة الكتب يلتقي مصادفة في أحدى سفراته برجل أميّ يدعى زوربا. ويفترض القارىء أن الأمي سوف يتعلم من المثقف الكثير، ولكن تبدو الصورة معكوسة: ففي رحلة الحياة المشتركة بينهما يتعلم المثقف الكثير من الرجل الأمي، يتعلم عن حبّ الحياة وعن كيفية عيشها بسعادة…

فزوربا يقدم فنه الفطري ببساطة وعفوية، وكثيراً ما كان يتحوّل إلى مغن مقدوني جوال.. قتجده حاملا آلة ” السانتوري” فيعزف موسيقى الألم والحزن وفيض الأحاسيس، لا يأبه ولا يكترث لما تصنعه فيه الحياة، بل يعالج أحزانه باللهو والتجذيف، ويأسه بالأمل والرقص والمجون والبغاء … يرقص على وقع ألحان ما يعزفه رقصة أصبحت من علامات الشخصية اليونانية الفارقة بعد أن وصفها الكاتب ببراعة لا حدود لها، فهي نشيد يجسد الأمل والحب والفرح والنشوة، ما دفع الفنان اليوناني “ميكيس ثيودوراكيس” أن يقدم تصورا في غاية الاتقان لهذه الموسيقى، فجعلها تصبح فلكلورا عالميا خالداً نقلت صاحبها إلى مصاف الموسيقيين العالميين وأصبحت الموسيقى الأشهر والرقصة الأشهر…

 

2_ وقد يكون الجواب في شخصية البطل نفسه بما تحمله من صفات استثنائية فريدة على الرغم من انه مجرد عامل بسيط يعمل في المناجم (الغرانيت والمنغنيز)

فهو يمتلك عقلاً مستقلاً لا عقلاً مسلوباً خاضعاً لمنطق القطيع. فهو متحرّر من جميع المفاهيم والبرامج واالطقوس التي يغرسها المجتمع في عقول الناس فيقيد تصرفاتهم ويجعلهم مكبلين بأغلال وعقائد وتقاليد وموروثات ما أنزل الله بها من سلطان. ومدرسة زوربا الوحيدة هي الحياة وتجاربه فيها…وقد علمته تلك التجارب أن الحياة مليئة بالمآسي والخيبات والفشل، وقد ذاق زوربا ما ذاق منها ولكنّ تركيبته الجينية وأسلوب عيشه جعلاه يتغلب على سلبيات الحياة.

وانطلاقاً من تلك النقطة لم يعد زوربا إنساناً عادياً، بل أصبح كشخصية من الشخصيات الكبرى في تاريخ السرد ” ك سكارليت أوهارا في رواية ذهب مع الريح وروميو أوجوليت أوهاملت (وليم شكسبير) أو بينوكيو للإيطالي كارلو كولودي وغيرهم (11) ما دفع الكاتب كما القراء من بعده  ليطرحوا على أنفسهم السؤال أي حياة هي تلك التي يحيونها قياسا على ما عاشه بطل الرواية.؟

3_ وبعيدا عن المشاهد المتنوعة وعن علاقات زوربا الغرامية المتعدّدة التي تشي بشخصيته الفريدة، وبعيداً عن الوصف الجميل والدقيق التي تمتلىء به الصفحات الأربعماية، كما عن بعض الاستطرادات وأحياناً الحشو التي تحتشد بها ، فإن علاقة باسيل بصديقه جديرة بالتأمل، وربما يعتبر هذا أيضاً من أهم أسباب نجاح الرواية، فـ”زوربا” جعل عقله مقياساً أوحد لأفكاره، واتخذ في مجابهة الحياة، طريقة عيش تعتمد على منطلق وحيد هو إنسانيته. وبهذه المواصفات استطاع أن يؤدي دور المعلم، فقام بإعطاء درس مهم وحقيقى فى الحياة لصديقه ابن المدينة، الذى جاء مكبّلا بأغلال الأفكار المسبقة والأحكام المعلبة الجاهزة..

4_  ولا ننسى إن شخصية زوربا القوية الصلبة العنيدة تجعله بطلاً حقيقياً، فهو لا يستسلم للألم أو الياس، بل يحوّل مآسي الكون إلى أناشيد مرحة، يقاوم الحزن بالفرح وبالرقص، وهو يرقص برشاقة تجعلك تحسده وتتمنى أن تطير مثله (9) حيث يرفع يديه ويحرك ساقيه ويقفز بقوة وكأنه يهزّ التراب النائم تحت قدميه ليوقظه، ويواجه معه الحياة بدل استكانته الأبدية، يرقص ويرقص حتى الثمالة، لا يوقفه حزن ولا ألم ولا فاجعة، يرقص في يوم وفاة ابنه وكأنه بهذا التصرف يكسّر أغلال حزنه وينطلق حراً من كل قيد، لا يردعه شيء مطلقاً لا تقاليد ولا مفاهيم تقليدية مسبقة ولا محرمات ولا تابوهات. حتى وإن تألم أو فشل، فإن ذلك لا يمنعه عما يرغب فيه، ولا يعيقه شيء، من أن ينعم بالصحبة والصداقة والتمتع بملذات الحياة كالطعام الطيب وشرب النبيذ الفاخر وممارسة الجنس والحبّ والوصول إلى كنّه اللذة الجسدية، فهو بذلك يتحدّى السواد والخوف والجديّة والقدرية باستدعاء الفرح والمرح والسخرية..وهو لا يتأخر عن بذل عطاياه للغير، فتنكشف لنا ذاته التي تستمد من القلق سكينتها، ومن الجدية سخريتها، ومن الجفاف رطوبتها، ومن القساوة ليونتها..

 

5_ إن روح زوربا التي لم تتخل عن تاريخها الشخصي وثقافتها الخاصة، تتمتع بالفكاهة والدعابة والسخرية أحياناً، وأيضاً بفلسفة معينة شبيهة بما قرأته عن من يطلق عليه لقب الشيطان الأكبر ” أليستر كراولي ” الذي عاش في نهاية القرن التاسع عشر في بريطانيا، وأصدر كتابه “القانون” الذي تلخصه فكرة وحيدة:”كن حراَ وأفعل ما شئت”،وكأنه هنا يمجّد الرزيلة ويدعو إليها ولا يردعه رادع من أن يفعل ما يشاء…

ومن ضمن سياق الأحداث هذا يتكشف لنا تأثر الكاتب الكبير بفلسفة نيتشة، الذي يعتبر أن الفن أداة لكشف الحقيقة بعيدا عن الجماليات البرجوازية.. واستناداً إلى هذه النقطة بالذات قال بعض النقاد إن “زوربا” قد يكون هو الملحد الحقيقى كامل الإلحاد الذى حاول الفيلسوف الألمانى أن يكونه ولم يستطع..

6_ وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة محورية في كتابات كازنتزاكي، نقطة تشد فكره وفتنته وغوايته اللغوية وحكايته وهو الكثير الترحال، المتحرّر من كل ما يعيق، المحبّ للطبيعة وللحياة، فنراه يخط لنفسه دربا غير كل الدروب. فيطلعنا على نظرية من نظريات علم النفس الحديث.. حيث يتعانق في النفس البشرية الواحدة “الايروس ” والثاناتوس وهما قوتان متصارعتان إحداهما تمثل قوة الحياة والحب، والثانية قوة الموت والدمار. ليقف الكاتب بهذا ضد قوة البلاء والابتلاء والشيخوخة والدمار والموت والأمثلة كثيرة: فالتعبير بالرقص (11) بدل التعبير باللغة، ومشهد قتل الأرملة و ما رافقه من مشاهد وتعبير…

7_ ولا يخفى على القارىء الجاد انحيازالكاتب  للإنسان أيا كان، كما لوطنه (اليونان القديمة)، وكذلك كراهيتة للحروب وانتقاده لها بما تسببه من تخندق واصطفافات وخاصة الحرب اليابانية الصينية، ويبدو جليّاً التأثير الكبير الذي تركه الاحتلال التركي على بلاده، وكذلك انتقاده للنظرة السطحية التي ينظر بها الناس للدين، بما فيهم رجاله، حيث ينتقد مفاهيم ” الأسلاف” التقليدية الغارقة بالقسوة والجفاف والسواد والتخلّف، ولعل أهم هذه الانتقادات تصويره لمشهد ذبح الأرملة، كما لمشهد موت السيدة “هورتانز”..

8_ اما رأي الكاتب في المرأة الذي يعكسه من خلال أحاديثه مع صاحبه، فهي أي المرأة الموضوع الأهم للكتاب، حيث هي نبض الكون وروحه،وكيانه، وهي هنا ليست المرأة الخائفة ولا المرأة الشريرة المتنمرة بل المرأة التي في جوهرها تحرك الحياة نفسها، وينسج الكون من مادتها مداميك اللذة، فهي اداة متعة وحسب.. وكما جاء على لسان بطل الرواية: (233)..” فهي كائن بشري مثلنا تماما ولكنها أسوأ بكثير” وفي الصفحة 280 يرسم لنا صورة كاريكاتورية لكائن سخيف ومضحك هو المرأة وينهي حديثه عنهن بجملة” كم هنّ مستضعفات…! (Zolpidem) ”. ص 10

 

الخاتمة:

يبقى أن نقول : أن الكاتب استطاع في هذه الرواية التحفة ان يجعل من عامل بسيط شخصية لا نظير لها. وفيها يتغلب “نيكوس كازنتاكي الفيلسوف على الروائي حيث يفتح مسرباً خصوصيا لما يمكن أن يسمى الخط التأملي أو الفلسفي، فهو وإن كان لا يمارس رياضة اليوغا الروحية كما اليوغا المعلّبة التي نعرفها اليوم في القرن الواحد والعشرين ولكنه يمارسها من حيث أنه ينطلق من جوهره الصافي الكامن في أعماق نفسه للبحث عن الحقيقة التي بنورها الكامن في محارة الذات تضيء له عتمة الطريق فلا يضل أبداً

عميقة هي رواية ” زوربا” في كل صفحاتها بكل ما للعمق من تصاريف بديعة: مثل التلذذ والإدهاش والإغواء فهي تتحداك وتحاورك بقوة وتخلخل قناعاتك وربما إيمانك.. (13)

إنها رواية تتحرك داخل نظام مغاير لبيئتها الأساسية ولطبيعتها، حيث استطاعت ان تجعل بذرة الإنسانية تنبت في أديم اللغة(14)وتطرح في نفوس الناس طقوسها ومفاهيمها…ويكفي كاتبها فخراً اننا اليوم وبعد مضي أكثر من خمس وسبعون عاماً على إصدارها ما زالت تناقش على المنابر…

الجمعة في 16 تموز 2021

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *