“نحت على الهواء” للشّاعرة دورين نصر… ترانيم وجدانيّة وأبعاد رؤيويّة

Views: 79

البروفسور جورج خليل مارون

الشّعر فعل إبداع يتوالدُ من أعماق الذّات، عبَقُ متجوهرٌ بألقِ الرّوح يفوحُ من بين أردانِ الأحلام السّاجدة عند شاطئ السّكينة؛ نسيمٌ مُعطَّر بشذى ألوان المعاناة، يُفتِّقُ براعمَ اليقظة في أحشاء الظّلمات. نَغَمٌ يلهث بدفء الحياة، يسامرُ صمت السّنين في حكايات العاشقين… شلّالُ رؤى يتدفّق من بحر الخيال، يعزفُ ألحان الجمال على دروب الكمال. وهجُ الرّوح يشعُّ في الآفاق، يملأ الأرض سناءَ وضياء، يحرّر الأجساد المغلولة بقسوة الأصفاد، يعزف ألحان العشق في أنهر الرّماد ومستنقعات الطّين في الأرض الموات… ويبزغُ ضوءُ الفجر من الكلمات المولودة من رحم الرّوح، وتُدوّن الذّكريات في دفاتر الأيّام وممالك الزّمان…

هي الولادة التي تعطي الشّعر قدرةً على الثّبات لمقاومة الآفات، وإخراج الأجيال من ركاب الإرادات الهزيلة وملاحم الهزيمة إلى مواكب النّور، وتضيءُ شموع المعرفة في شرايين الأرض المشدودة على أوتار الصّقيع في عبثيّة الفراغ وعدميّة الوجود…

هذه الخواطر في المقطوعات العذبة المنسابة من أعماق الرّوح، هي للشّاعرة دورين نصر التي دخلت منطقة النّار في عالم الإبداع، فحوّلت الرّؤى إلى جداول رقراقة تضجُّ فيها أمواج الحنين اللّاهب إلى عالم الصّفاء والمثال.

شاعرة أبصرت النّور في بلدة “قلحات” بين أرياف الكورة الخضراء، فنهلت من ينابيعها الماء الزّلال، وتنشّقت من هوائها عبير الحرّيّة، واكتحلت عيناها بصور المروج وضفاف الأودية، وأحلام الدّوالي وتغاريد الطّيور، وأصاخت أذناها إلى همس السّواقي جارياتٍ في السّفوح، وانتشتْ ريشتُها من نسمات هوائها العليل وأنفاس الرّياحين، فحوّلت الصّمت إلى أناشيد تُعزفُ على قيثارة الرّوح.

نشأت دورين في بيت علم وثقافة وأدب مع شقيقتيها: المهندسة نانسي والمفتّشة التّربويّة فدى، وتربّت على الفضائل والقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، من أبوين عُرفا بالتّواضع والتّقوى والانفتاح ومحبّة الآخرين وخدمة المجتمع، هما ناديا والرّاحل المفتّش التّربويّ نبيل الذي اقتطفته يد المنون من حديقة الحياة منذ سنوات، وهو الذي عُرف بطيب قلبه وعزّة نفسه ونُبل أخلاقه، إنّه الحاضر بيننا بروحه من العلياء، وله ألفُ تحيّة وسلام. وتبدو صورته في أولى مقطوعات الدّيوان: “عرقٌ يترقرقُ في عينيك” تسترجع فيها ذكراه بعد أن أغمض عينيه وتوارى عن مسرح الأجساد، فتناديه، وهي في غاية الشّوق لرؤية محيّاه:

“إفتح عينيك وقلْ لي: تعالي يا ابنتي… افتح عينيك في حُلُمي وشدَّ على معصمي…”.

وتهدّئ من قلقه فتطمئنه: “لا تجزعْ… ألملمُ بدموعي عرقَ عينيك، وكلّما غابَ النّهارُ يشرقُ وجهُك في قصيدتي” (ص 20، 21).

 

لقد أحبّت دورين الأدب منذ طفولتها، واستهواها صوتُ الشّعر باكرًا، فراحت تقرأ بشغف، فتنامت ميولها الأدبيّة، ورافقتها تجاربُ الحياة فتفتّحت براعمُ الشّعر في ذاتها. أكملت دراستها في جامعة البلمند، وبعدها في جامعة القدّيس يوسف، فنالت شهادة الدّكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها بتقدير مشرّف جدًّا. ودخلت سلك التّعليم الثّانويّ الرّسميّ، فكان لها حضور بارزٌ في هذا الميدان لكفاءتها وقدراتها العلميّة.

وبحكم الانتماء المحرق إلى عالم الكلمة، المعبّر عن توهّجات الرّوح في نشوة اليراع، تترجّح ذات دورين في ديوانها “نحت على الهواء” بين الفرح والتّرح، بين الاستذكار والاعتبار، بين التّأمّل والتّعلّل، بين الحنين إلى الأمس المُثقل بالذّكريات والتّوق إلى الغد المفعم بالتأمّلات، بين الشّعور بالحسرة والغربة والرّغبة الملحّة إلى العبور من دّوائر الرّماديّة إلى الفسحات الورديّة، وكأنّها في وصال مع الزّمان اللّامتناهي، تحوّل السّكينة إلى أنغامٍ تلامسُ أوتار النّفس في هجعة اللّيل.

والعنوانُ يحمل في دلالته أبعادًا رمزيّة إيحائيّة، فالنّحت مصدرٌ للفعل “نحتَ” القائم على الحركة بدقّة وانتظام، ومعناه حوّل الحجر إلى قطعة فنّيّة، مُزيلًا كلّ الزّوائد والشّوائب، مُبرزًا مظاهر الجماليّة، بعد أن سُدّت مسامه واختفت معالمه.

والهواءُ بحر متّسع من الأثير لا حواف له، امتداد السّكون اللّامتناهي في الكون اللّامحدود، نشعرُ به ولا نراه، فيه الطّبقات المصوغة من ألوان الكمال، تضمُّ في سكناتها أغانيَ الوجود. وبهذه القدرة الفنّيّة الإبداعيّة أخذت دورين ريشةً من أوتار قلبها، تحفرُ بها في مرايا الهواء لتفجّرَ نبعًا رقراقًا من كوثر عذب يروي غليل الظّامئين في ليل الحياة. (Tramadol) إنّه القلم النّاريُّ في يدها يرسمُ سطورًا مائيّة في ليالي الوحدة، يضيء مصباحًا في غياهب التّلاشي والضّياع، يجعلُ الأثير مساحب ضوء تشعّ في عبثيّة الوجود. وبهذا التّحوّل تحكمُ الكلمة ارتباطها الجوهريّ بالدّيمومة والبقاء، فتفتح في ذلك السّقف الجليديّ كوّةً تطلّ على الأشمل والأبعد، لا تستطيع أصابعُ الآنيّة أن تعبث بها، فما وُلد من تلك الذّات ينأى بالكلمات عن الفناء ويخلّدها في أبعادها الفكريّة.

وتتنوّع الصّور والموضوعات في هذا الدّيوان، لكنّها تدور في فلك واحد وعلى محور واحد هو: رفض الواقع ومواجهة الذّات والانتفاض عليها والتّحوّل عن المألوف. فالأمُّ أوهنها القدر وأثقلت ظهرها أوصابُ الحياة ومشقّات السّنين وقساوة الزّمن، ومع ذلك تبقى الحضن الدّافئ والحصن المنيع والملاذ الأمين:

“أراني في دموع أمّي أبحثُ عن نغمة شرّدها الصّقيع في تلك الوهاد الخالية إلّا من دفء يديها” (ص 83، مقطوعة “في عينيها”)، إلى الوطن في مقطوعة “مذبحة الورد” (ص 127)، فهو مُثقلٌ بوطأة الجراح النّازفة، مسمّرٌ على خشبة العذاب، يئنّ بين أرجل عربات التّاريخ وظلال المدنيّة المتآكلة، ولهاث الخيول الظّمأى، في ألمٍ وحنين:

“في وطني ما عاد الطّائرُ يغنّي، رموا أحلامنا على الرّصيف… كلّ القصائد تبكي… جفّ الحزنُ في مآقينا… صرنا على أنغامِ الصّمت نتلوّى… يا وجعَ النّاي… يا رقصة الموج على إيقاع الرّغيف… فلا أعراس جديدة في بلادنا بعد اليوم”.

ويتجدّدُ الأمل في قلب الشّاعرة في مقطوعة “وجه إنانا” (ص 35)، فترى أنّ كلّ شيء سيتغيّر، سيبزغ فجرُ الحرّيّة على البطاح والوهاد، وتعمّ اليقظة المدائن والقرى:

“غدًا ستنتهي الحرب. الموتى في بلادي لن يجوعوا بعد الآن. وإذا الوجع أشبهُ بوجع امرأةٍ لحظة الوداع ينخرُ العظم…”.

وفي قصيدة “ابتعدي عنّي” (ص 37) رفضٌ للواقع المؤلم والمُخزي، فتلجأ الشّاعرة إلى أنين الأمواج، وتشتهي الحزن السّاكن في الشّوارع وفي وحشة القبور، ترفض أحاديث النّساء، تميل إلى أغاني الحصّادين في الحقول والمتألّمين في الشّوارع.

 

وفي مقطوعة “عزف في الفضاء (ص 31) قبولٌ بالألم وتمجيدُه، وتحويلُه إلى فرح داخليّ متواصل مع الكائن الأسمى: “ذلك الأنين الذي سال من النّاي لم يكن وجعًا… كان عزفَ الهواء في أعماق الحياة، وها شمسُ اللّيل تشرقُ على سوار اليقظة، والكلماتُ تتدحرج ككرةٍ بنفسجيّة ترتطم ببياض الصّفحة”.

وتنتفضُ على الواقع في مواجهة مع الذّات المُثقلة بالعناء في مقطوعة “أقول هو وأقصد أنت” (ص 45):

“أزيلُ عن جسدي قطعَ زجاجٍ وأبحثُ عن شهقة…”.

وتبحث عنه في “الهو”، يمتلكها شعورُ التّململ والحيرة، والتّساؤل المضطرب:

“في أيّ اتّجاه أبحرُ لأقطفَ غيمةً؟” وإذا تفاصيل الثّواني تذوب في الأمس الضّائع الذي يشبه السّاعة المعلّقة على الجدار الأعزل، عقاربُها تدور عكسَ الشّمس، والضّوءُ يتلاشى أمامنا… ولا نراه…

وفي مقطوعة “أعتقت لغتي” (ص 47) تعلن ثورة الكلمات وعصيان الحرف، تضيّعُ شكل العبارة، تتمرّد، تخبّئ في عينيها حُلُمًا تكسّرت على أطرافه كلّ المسافات، وتدفّق الدّمُ في عروق القصائد لتشتعل كلُّ الثّورات.

وحتّى الكورونا كان لها نصيبٌ، فعلى إيقاعها تبقى السّماء وحيدةً بعد أن هجرتها الغيوم… تتنكّر، تمدُّ لسانها، تُغوي الحاضرين (ص 49).

وتخرج الشّاعرةُ من ماضيها وتقاليدها في قراءة تختلف عن باقي النّساء، “فتلك المرأةُ التي تراقبني لا تشبهني مع أنّ ملامحي مرتسمةٌ على وجنتيها” (ص 65).

وتسترجع الذّكريات وأيّام الماضي والدّفاتر القديمة وفوضى النّهار… فتعود طفلةً صغيرة تغمرها الأحلام في اللّيالي الدّافئة.

وفي نزعة تشاؤميّة يعتصرُ قلبَها الألمُ والحزنُ أمام مشهديّة المدينة المشتعلة، وقد تحوّل الفجرُ إلى رماد ويبست أزرارُ الورد، ومات الانبعاثُ على رصيف الجثث، وهوت النّجومُ في النّهر، وتحوّل الفضاءُ إلى وسادة محشوّة بالألغام، وتأبى البكاءَ ولبسَ السّواد، ويتجمّدُ الدّمعُ في مقلتيها (ص 30 “لن أرتدي الأسود”).

وفي مقطوعة “أقرؤك” (ص 159) عاصفةٌ وثورةٌ تهبّ في داخل اشّاعرة، لكنّها من نوع مختلف، تسقي الأرواح الظّامئة، تنشر الحبّ في قلوب الشّعراء، لا تبدّل معالم المكان ولا تفاصيلَ الزّمان…

وتتواتر الصّور الإيحائيّة في قصائد هذا الدّيوان، فالدّمع يتعرّى، والكلماتُ ترتعشُ، والحجر ينزفُ، والشّمسُ والشّرفة المنكسرة على نزف الحنين، والملحُ الذّائب في عبّ الورد ووجع الحنين، وصحوةُ العتمة، وصحراءُ اليقظة…

وهي تدلّ على مقدرة فنّيّة في ابتكارها ونسجها وتوالدها. ومع هذا التّوالد تغدو الكلمة حقيقةً ومرآةُ تتبلورُ معها الرّؤى والأحلام في الأرحام التّاريخيّة، وقد عرفت الشّاعرة في مرارة معاناتها الصّاخبة كيف تصلُ إلى تلك الشّموليّة، فتخصِّبها وتصفيها بنار الخلق والإبداع.

وفي مقطوعة “ورقة في قبضة العمر” (ص 99) انسيابٌ روحيّ في تأمّلٍ عميق وأبعادٍ رؤيويّة مصدرها منابع الذّات الزّائرة رياض الإبداع، فالشّاعرةُ تعود إلى مناهل الفكر في خلواتها تكتب وترسم خواطرها على الأوراق، وإذا الضّحكاتُ معلّقةٌ على شظايا الصّخور بين مفاصل الأيّام وتحت وسادة القمر… تختبئ في جيوبنا الملأى بالحصى، حتّى إذا توارتِ الخُطى، تكتبُ القصيدةُ نفسَها ساعة السّحر…

وفي الخلاصة، إنّ ديوان “نحتٌ على الهواء” أناشيدُ روحيّة توالدت عبر سحابة أعوام في خلوات الذّات بذاتها، في عمليّة تحويل الحياة الخارجيّة والدّاخليّة بكلّ تناقظاتها وانعكاساتها إلى جدليّة أدبيّة وفلسفيّة، تتصاعدُ في تشكيلٍ بنائيّ جديد، يخرجُ النّصّ من رتابة سجنه وجمود قوالبه إلى الفضاء الحرّ.

إنّ دورين نصر بدأت غربتُها وراء الوجه الآخر. إنّها بيننا، لكنّها تستكمل هذه الغربة حين يصدحُ صوت قلبها وروحها خفّاقًا عبر الأثير، في نداءات رؤيويّة متكرّرة على ألسنة الحقيقة البشريّة الصّاعدة في نشيدها الوجوديّ نحو الأسمى المطلق.

***

*كلمة  البروفسور جورج خليل مارون في النّدوة التي أقامها منتدى شاعر الكورة الخضراء حول ديوان “نحت على الهواء” للشّاعرة د. دورين نصر، وذلك في الرّابطة الثّقافيّة – طرابلس في 11/ 6/ 2022.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *