وديع سعادة يقبض على الشعر “بسبب غيمة”!

Views: 1092

وفيق غريزي

الشاعر الحقيقي والاصيل لا يكتب اشعاره بهدف ان يعيد الفرح والطمأنينة الى القلوب البشرية، بحيث ان كل قوم لديه ما يكفي من فرح، ولكن كي يقلق البشرية لينسف اوهامها، وهذا وحده يمكن ان يحرر هذه القلوب من الامال الخادعة، ويرميها الى دائرة الحرية حسب قول الشاعر العراقي فاضل العزاوي. والكلمة الشعرية الحق تكمن حياتها في استخدامها. وهكذا، يتدفق في شعر وديع سعادة، وخاصة في مجموعته “بسبب غيمة على الارجح” شعور فلسفي ذو غائية باطنة، فالقصيدة لدى سعادة “مرآة ينعكس على صفحتها عالم الماوراء (الميتافيزيق ) الذي يعيشه الانسان كل يوم بلا وعي منه، وفي لحظة من السكون الكوني حيث الفراغ يملأ الزمان والمكان المحيطين به”، والانسان يحاول عبر التخيل استعادة وجوه غير محددة لشغل المساحة المكانية، وان كان هذا العمل عن طريق الوهم: “جلس على الشرفة محاولا ان يستعيد وجوها ليملأ حواليه المقاعد الفارغة”.

 ان المكان المتمثل بمقعدين، يجسدان الوجود المادي غير الحي، وكأنه سفينة تلاعبت بها الامواج العاتية ومزقتها، اربًا بعدما قضت على الحياة التي كانت تنبض على متنها، ودلالة ذلك مجازيا الوطن – السفينة، والامواج – الحرب التي اجتاحت هذا الوطن – السفينة، وبعد انبلاج الضوء من قلب ظلام الماساة، بدا المكان يبكي الذين هاجروه قسرا، وخاصة العاشقين منهم: “ذاك النهار. تحت سنديانة الساحة ظل فقط مقعدان حجريان فارغين، كانا صامتين، ينظران الى بعضهما ويدمعان”.

الشعر لم يقطع حبل السرة بينه وبين الخارج – العالم والناس، بل جعل الكلمة جسرا بينه وبينهم. وبالرغم من حالة الزهد بالعالم الذي يشعر به لم يدر له الظهر، انما ترك ذاته تتفاعل بوعي مع هذا العالم ماضيا وحاضرا، هذا الحاضر الذي تكتنفه العتمة ابان الحرب الاهلية الدموية التي لم تخلف وراءها سوى الخراب والدمار والدماء، ولكن باعتقاد الشاعر وديع سعادة ان هذه العتمة ما هي الا ظلال غيمة عابرة “اختفى الشعاع فجأة، اعتقد ان غيمة تعبر فوق البيت، اشعة الشمس تختفي، فقط لسببين، اما يحجبها الغيم او يكون الوقت ليلا، وبما ان الان صباحًا، الارجح ان غيمة تعبر”.

 

الرؤية الشعرية

الرؤية الشعرية التي يتميز بها وديع سعادة يمكن تشخيصها على انها محاولة البحث لا عن الجماعي السياسي والثقافي والاجتماعي، بل عن الفردي الذي يبحث عن موقعه في العالم تقربا من ذاته حاملا جدله، كي يجد موقعه في المساحة المكانية تحت ضوء الشمس، لأن الانسان في هذا الزمن قد اصبح شيئا او رقما في بورصة السلطة السياسية او المالية، وثمة شعاع خافت يخترق الحجب ينذر بولادة جديدة الانسان: “من الدخان تولد الطريق تولد العناوين والبيوت واصحابها من الدخان يولد الله”.

على الانسان ان لا يستسلم لمشيئة المكتوب، بل عليه الانبثاق من داخل الازمات، ليتحدث بصوت نبوي عن حقيقته وحقيقة الاجيال المتتالية، والصحارى الداخلية، ويكتشف ان الرايات مرتفعة هنا، وهو هناك يجلس امام المنضدة، ويفكر في بهجة الليل الذي يسد في وجهه طريق العودة الى عالم الضوضاء والفوضى والمختل التوازن، حيث ثمة من يبيع النزر اليسير الذي لديهم لتأمين مقومات البقاء والوجود، وثمة ايضا من يشتري ليزيد امتلاء خزائنه وجشعه: “يخبرونهم عن عنب سيبيعونه ويشترون لهم ثيابا جديدة ” الشاعر وديع سعادة يحمل تاريخا مليئا بالدماء، انه انسان تتشابك شرايينه في شعاب الخيال الكوني لمواجهة الموت العام الذي يجعل من نشاطه بحثا عن مثوى القصيدة، ورقة للتاريخ يتجلى على صفحتها معنى مجيئه الى العام المعطى: “كان الموت يرقص وفي الساحات كانوا يمتزجون بالاسفلت والمنحنون على الزهور تحملهم الطلقات الى فوق”.

الحياة والموت

الموت الذي يتحدث عنه الشاعر وديع سعادة، هو الموت الاستشهادي. موت فردي من اجل حياة الجماعي. انه موت “ادونيسي” الذي تنبعث فيه الحياة من رحم الموت، هو موت البذور في زمن معين، لتنبعث سنابل وزهورا وثمارا في زمن آخر، حسب جدلية الطبيعة، وحتمية الوجود وحركته الازلية. ففي الموت، موت الجسد يرى الشاعر مدى الانصهار بينه وبين الكائنات الوجودية الاخرى، وعلى وجه الخصوص الارض ويقول: “في تلك الحقول كان ثمة نبض آخر يجري في عروق النبات نبض بشري جنبا الى جنب مع النسغ وروح الشمس والتراب “يلتقي وديع سعادة هنا مع المذاهب التوحيدية الدينية، التي تؤكد ان التعدد الظاهري في الوجود، ماهو الا تعبير عن الوحدة المطلقة التي تتمثل بالخالق لهذا الوجود ضمنا.

 الشاعر سعادة، الذي يغرق في احلام اليقظة، يستيقظ في لحظات محددة ليجد مجددا انه سجين الخواء والفراغ والضياع، فانفصال النسبي عن الحلم – البديل عن الواقع ومآسيه، وغياب انسنة الانسان، وضعاه في حيرة قاتلة وعزلة موحشة، حتى بات يقف في نقطة تفصل العالم البراني – الواقعي – المحسوس، عن العالم الداخلي الذي يختزن كل ما في الوجود من نكبات وويلات: “ونستضيف احلاما تدخل من الابواب واحلاما من ثقوب الجدار ونعد مائدة لضيوف يتدفقون عائدين من الموت”.

 

الذاكرة والحرية

 الذاكرة في نصوص وديع سعادة الشعرية ليست متحررة، انما هي سجينة مخزوناتها الكثيفة، التي تنطلق من مكمنها على شكل تداعيات متتالية تربط الماضي بالحاضر بخيوط وهمية دقيقة وشفافة وهذه الذاكرة تقوده الى الطفولة التي تشكل الرافد الاكبر والاهم لكل عملية ابداعية، وهي البديل ببراءتها وصفائها لكل ما هو قائم، وتقوده الذاكرة ايضا الى الارض التي ولد فيها فيقول: “في تلك القرية البعيدة على ارض بيت من تراب مشيت اولى خطواتي وكانت قدماي حافيتين لم يكن ابي من المؤمنين بان الواصلين لتوهم الى الارض ان يتعرفوا عليها بلحمهم، لكنه كان عاجزا عن شراء حذاء”.

ثمة من يقول: “اذا لم يكن الشعر المغفرة فلن تجد رحمة في اي مكان” وثمة من يأتي الى هذه الحياة ويغادرها وكأنه لم يولد، وهناك ايضا من يحيا بعد موت الجسد في نتاجه الحضاري الذي تتوارثه الاجيال عبر العصور والازمان، ومن هؤلاء “الشعراء والمفكرون والفنانون والمبدعون”: “عرفت في حياتي ناسا رحلوا وبقيت عيونهم سنوات جالسة بهدوء في آخر مكان نظروا اليه”. والشيء الملفت للنظر في نصوص وديع سعادة هو استخدامه الرمز، الأمر الذي اعطى هذه النصوص ابعادًا لن يصل الى كنهها المتلقي العادي، كما انه ضمن هذه الرموز الواقع المعيوش، بكل سلبياته وايجابياته، وبكل احزانه وافراحه…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *