يوسف إبراهيم يزبك وكِتابة تاريخ لبنان

Views: 986

د. مسعود ضاهر*

 

بعد أقلّ من ثلاثة أسابيع على الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في العام 1982، بَدأت تَرتسمُ صورةُ التحوّلاتِ الكبيرة التي شَهدتْها نُخبةٌ مُتميِّزةٌ من مُثقّفي لبنان؛ فتوفّي بعضهم بطريقةٍ مأسويّة، ومنهم خليل حاوي وتوفيق يوسف عوّاد، وكمال خير بك، وكمال يوسف الحاجّ وغيرهم. وانكَسَرَ الحلمُ الكبير على المُستويَيْن السياسيّ والوطنيّ، وتَراجَعَ دَورُ الثقافةِ الوطنيّةِ الجامِعة، لتطفو على السطح ثقافةُ الطوائف والمَذاهِب المُتناحِرة، وتُدار مؤسّساتُ الدولة اللّبنانيّة بذهنيّة “العصبيّات القاتلة” وفق الروائي أمين المعلوف.

وعلى الرّغم من خروج المُحتَلّ الإسرائيلي مهزوماً من لبنان في 24 أيّار/ مايو 2000، ترسَّخ لاحقاً حُكم الميليشيات وفق دستور الطائف لعام 1990، فمَارَسَت قمعَ الحريّات في لبنان، ودمَّرت مؤسّساتِ الدولة اللّبنانيّة، واغتَالت أو سَجَنَت أو هَجَّرت عدداً كبيراً من المُثقّفين والإعلاميّين والأحرار، وما زالت تتعاون مع قوىً خارجيّة تتلاعب بمصير لبنان واللّبنانيّين.

كان المؤرِّخ يوسف إبراهيم يزبك (1901 – 1982) أو “أبو إبراهيم”، كما كانت تحلو مُناداته، مُثقَّفاً إنسانيّاً عميق الانتماء إلى التراث الإنساني، وشديد الإيمان بعروبة لبنان الثقافيّة؛ فلبنانه مُنفتِح على كلّ ما هو إيجابي في تراث العرب، ومُشرَّعة أبوابه على كلّ الثقافات والأديان والحضارات البشريّة. وكم كنتُ، على المستوى الشخصي، محظوظاً لأنّني التقيتُهُ مِراراً، واستفدتُ للغاية من مُناقشاتي المُطوَّلة معه في موضوعاتٍ فكريّة وتأريخيّة شتّى. كان يُظهِر تبرُّماً من ذوي الآراء الجامدة أو المحدودة، والتي تُكرِّر ما هو شائع عن تاريخ لبنان من وجهات نظر طائفيّة آحاديّة الجانب؛ فكان يُردِّد على مَسمعي أنّ لبنان مُتعدِّدٌ في تركيبته السكّانيّة، والدينيّة، ولا يُمكن أن يكون تاريخه آحاديّ الجانب، ولا ثقافته وحيدة المَصدر. وبفضل هذا الغنى والتنوّع والانفتاح على قيَمِ الحريّة والإبداع، تحوَّلَ لبنان إلى “وطن الرسالة”، إلى جانب التمسُّك بكلّ ما هو إيجابي في التراث الإنساني، والعلوم العصريّة، والثقافات المُتنوّعة.

 

يعود لمؤرِّخنا الكبير الفضل في رفْدِ المَكتبة التاريخيّة في لبنان بمئات الوثائق التي حَرَصَ على جمْعها من مَصادر دينيّة وعائليّة وسياسيّة من مُختلف الطوائف والمَناطق. وكان شديد الحرصِ على إظهار الرأي الآخر، واحترام الاختلاف، لأنّ الحوار مع المُختلف مصدرُ غنىً. كان يُشدِّد على أنّ من واجب زعماء الطوائف اللّبنانيّة التوصُّل إلى صيغةٍ حضاريّةٍ جامِعة تُبنى على احترام التنوُّع الثقافي والسياسي، ونبْذ الاحتكام إلى العنف في ما بينها. فالصيغة الحضاريّة الوطنيّة الجامِعة وحدها، جَعَلت من لبنان مُختبَراً حقيقيّاً للتعايُش قلَّ نظيره في العالَم العربي، ومَجالاً حيّاً للتفاعُل اليومي الحرّ بين جماعاتٍ دينيّة، وعرقيّة، وسياسيّة تعجّ بها منطقة الشرق الأوسط.

جيلٌ كاملٌ من المؤرِّخين اللّبنانيّين تأثَّرَ بمقولاتِ يوسف إبراهيم يزبك العلمانيّة في كتابة تاريخ لبنان، وعلى أُسسٍ عِلميّة وعقلانيّة تقوم على إسناد الوقائع التاريخيّة إلى وثائق أصليّة كان له اليد الطولى في الكشف عنها، ونشْرها لتكون في خدمة الباحثين والبحث العِلمي في تاريخ لبنان.

نَشَرَ أبحاثاً مُهمّة في دراسة بنية المُجتمع اللّبناني في القرنَيْن التاسع عشر والعشرين؛ فكانت أبحاثه التاريخيّة غنيّة جدّاً وزاخرة بالوثائق الأصليّة، ما أعطاه مكانةً علميّة بوصفه رائد التجديد النظري والتوثيقي بعدما أمضى عقوداً طويلة في التنقيب عن كلّ ما هو أصيل وجديد في تاريخ لبنان الحديث والمُعاصِر.

كانت السنوات المُمتدَّة من ولادة دولة لبنان الكبير في العام 1920 حتّى اندلاع الحرب اللّبنانيّة في العام 1975 حافلةً بالآمال العِراض لدى المؤرّخين اللّبنانيّين، بخاصّة غير الطائفيّين منهم والدّاعين إلى قيام دولة ديموقراطيّة في لبنان وعلى امتداد العالَم العربي. وكانت مَواقفه وأعماله نموذجاً حيّاً على المُثقّف الذي يُقدِّم حياته مرآةً لفكره، على حدّ تعبير الأديب الكبير عُمر فاخوري: “إذا لم تكُن حياة المُثقّف مرآةً لفِكره، فهو أديبٌ مُزيَّف”.

 

تَرَكَ يوسف إبراهيم يزبك أعمالاً رائدة وَضَعَتْه في طليعة المؤرّخين اللبنانيّين والعرب؛ فقد شَارَكَ في تأسيس “حزب الشعب اللّبناني” سنة 1924، وكانت له إسهاماتٌ مَنشورة في كثير من صُحف تلك المرحلة ومجلّاتها، ومنها “الإنسانيّة”، و”الدهور” و”الطليعة”، و”صوت الشعب”، و”الطريق” وغيرها. وأَقامَ صلاتٍ حميمة مع عددٍ كبيرٍ من المُثقّفين الطليعيّين في الوطن العربي.

كان شغوفاً بارتياد الموضوعات الجديدة، فيُنقِّب على وثائقها في أدراجٍ مُغلَقة، نادراً ما تُفتح لسواه. وكان من أوائل مَن تابَعَ مأساةَ المُهاجرين في بلاد الاغتراب، وخصّهم بكِتابٍ هو باكورة أعماله صدر في العام 1929 تحت عنوان “مأساة المواشي البشريّة في طريقها إلى بلاد الله”. ثمّ نَشَرَ كِتابه الثالث سنة 1936 تحت عنوان: “14 تمّوز” للتعريف بأفكار الثورة الفرنسيّة الكبرى لعام 1789. وأَتبعه بكِتابٍ آخر سنة 1937 تحت عنوان: “نِضال العراق ضدّ الإنكليز”.

نَقَلَ رواية أناتول فرانس المعروفة Grainquebille إلى العربيّة وصَدرتْ في العام 1938 تحت عنوان “فقير أمام القضاء”. ونَشَرَ في العامِ نفسه وثيقةً تاريخيّةً ما زالت مَصدراً لجميع المُهتمّين بتاريخ الانتفاضات الفلّاحيّة في جبل لبنان في القرن التاسع عشر. فكانت “ثورة وفِتنة” أفْضَل المرويّات التي دوَّنها أنطون ضاهر العقيقي، كشاهدٍ عيان على تلك الأحداث التي تُسلِّط الضوءَ على صفحةٍ مجهولة من تاريخ جبل لبنان ما بين 1841 و1873.

في العام 1939 نَشَرَ يزبك كِتاباً بعنوان “دريفوس”، حلَّلَ فيه الضجّة الكبيرة التي شغلت الأوساط الثقافيّة الفرنسيّة لسنواتٍ طويلة في أواخر القرن التاسع عشر. إبّان الحرب العالَميّة الثانية، وفي السنوات القليلة التي أَعقبتها، انصرَفَ مؤرِّخُنا إلى عالَم الصحافة فقط. ثمّ أَصدر سنة 1953 “ليلة المصمك”، يروي فيه قصّة تحرير الرياض على يد الملك عبد العزيز بن سعود. وفي العام 1955 نَشَرَ كِتاباً وثائقيّاً بعنوان “مؤتمر الشهداء”. ثمّ انصرف كليّاً لإصدار مجلّة “أوراق لبنانيّة” خلال سنوات 1955 – 1958. وقد جُمِعت في ثلاثة مُجلّدات ضمَّت وثائق أصليّة لا تُقدَّر بثمنٍ لمَن يَكتب تاريخ لبنان على أُسسٍ عِلميّة دقيقة. ولا زالت هذه المجلّة، تُصنّف كواحدة من أفضل المطبوعات التي ضمّت وثائق أصليّة تتعلّق بمُختلف الطوائف اللّبنانيّة.

 

في العام 1957 أَصدر “كِتاب الشهيد”، يروي فيه مأساة فيليب قعدان الخازن، وكِتاباً آخر بعنوان: “تطوّر الشعور العربي”. وفي العام 1960 أَصدر كِتاباً عن سيرة العارف باللّه، الأمير السيّد جمال الدّين التنّوخي بعنوان: “وليّ من لبنان”. وفي العام 1962 نَشَرَ كِتاباً عن “داود عمّون”، ليعود فينقطع عن نَشْر الكُتب حتّى العام 1974 حين نَشَرَ كِتاباً من الذاكرة روى فيه “حكاية أوّل نوّار في لبنان والعالَم”.

فضلاً عن تلك الكُتب المُميَّزة في عناوينها وموضوعاتها الاجتماعيّة، أَمَدَّ يزبك وسائلَ الإعلام بسَيْلٍ من مقالاته الصحافيّة، ومُحاضراته الفكريّة وندواته الإعلاميّة الكثيرة. وأَسهمَ في مُراجعة بعض المُذكّرات التاريخيّة وإعدادها للنشء الجديد، وفي تحقيق بعض المخطوطات ونشْرها لإرساء مِدماكٍ صلب في الدراسات اللّبنانيّة وضمَّت وثائق أصليّة بالِغة الأهميّة وتُنشر للمرّة الأولى، فأَحدثت تلك الوثائق نقلةً نوعيّة في كِتابة تاريخ لبنان استناداً إلى الوثائق الأصليّة.

بعد اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان سنة 1975 وَجَدَ يزبك نفسَه غريباً في وطنٍ أَحبَّه كثيراً وأَفنى عُمره في الدّفاع عن تراثه وتقاليده الإنسانيّة والحضاريّة؛ فقد غيَّرت الحربُ كلَّ شيء وطَمَسَ العنفُ الدمويّ آثارَ الحوار الثقافي؛ فآثرَ ترْك لبنان إلى باريس، حيث أمضى فيها سنواتٍ طويلة كانت له فيها إسهاماتٌ ثقافيّة مُتقطّعة في بعض الصحف والمجلّات العربيّة هناك. ومن باريس بالذّات صَدَرَ له سنة 1981 كِتاب “الجواد العربي”، وفيه تذكيرٌ بنُبلِ صِفات الخيول العربيّة في وقتٍ عزَّت فيه قِيَم النُّبلِ والشهامة لدى العرب.

بعد وفاته بأكثر من عشر سنوات، أَصدرت له دار نوفل في بيروت سنة 1993 كِتاباً بعنوان: “الجذور التاريخيّة للحرب اللّبنانيّة”. وهي مجموعة انطباعات وآراء في تاريخ الحروب بين اللّبنانيّين سجَّلَها سنة 1975 وأَودعها الدِرج قبل سفره إلى باريس على أمل أن تُنشر لاحقاً.

 

بعض المُلاحظات الختاميّة

عايَشَ يوسف إبراهيم يزبك سلسلةَ تحوّلاتٍ شخصيّة بَدأت بخروجه من سجن أرواد يَوم افتُضِح أمره في تأسيس الحزب الشيوعي اللّبناني وأُغلقت جريدته “الإنسانيّة” عام 1925، وكان يزبك بمثابة العمود الفقري فيها. لم يُحاول العودة مُجدّداً إلى العمل الحزبي الذي تميَّز آنذاك بضيق الأُفق الثقافي، وبالاتّهامات المُتبادَلة بين رفاق الحزب الواحد. وتذكَّر بألَمٍ بالِغٍ حملةَ التشويه المُتعمَّد التي طاوَلت رفاق دربه، وبشكلٍ خاصّ النقابي فؤاد الشمالي، ورئيف خوري، وقدري قلعجي، وهاشم الأمين، وفؤاد قازان، وفرج الله الحلو وغيرهم.

وبوصفه مُؤرِّخاً وشاهدَ عيانٍ على تلك الحملة الظالمة، ساعدني كثيراً في تصويب النّظرة الموضوعيّة إلى سِيَرِ تلك النُّخب الثقافيّة والنضاليّة، فأنْصَفتُها في كتاباتي عن تاريخ لبنان. فكان فَرحُه كبيراً حين تبنّيتُ وجهةَ نَظَرِهِ المُدعَّمةَ بالوثائق عن فؤاد الشمالي، فبادرني بالقول “ما زالت الدنيا بألف خير، وسيأتي يومٌ يعرف اللّبنانيّون التاريخَ المُشرِّف لمُناضلين أفذاذ تعرّضوا لاتّهاماتٍ حاقدة ومؤذية من رفاق الدرب الواحد في الحزب الواحد”.

تألَّمَ يوسف إبراهيم يزبك كثيراً لِما تعرَّض له لبنان على أيدي اللّبنانيّين، فكان صراع الطوائف أقصر السبل لتدمير المُجتمع اللّبناني. وبعدما انكسرَ الحُلمُ الكبير على المُستويَيْن السياسي والوطني، انسحبَ طَوعاً من الساحة الثقافيّة، وهو في أوج عطائه. وحاولْتُ شخصيّاً، وكثيراً، حضّه على كتابة مذكّراته الغنيّة جدّاً، لكنّه آثرَ الصمت؛ فلقد شَعَرَ بمرارة كبيرة حين رأى الثقافة الوطنيّة، والديموقراطيّة، والمُناهِضة للطائفيّة إلى انحدارٍ مُريع في زمن صعود الطوائف المُتصارِعة على الحُكم؛ فغادَرَ “التفاؤل التاريخي” الذي اشتهر به، وآثَر الانسحابَ بصمتٍ على أمل أن يأتي زمنٌ يُكرَّم فيه الكِبار في بلادنا. توفّي وفي قلبه غصّة، وفي داخله أكثر من حُلمٍ مَكسور.

 

أخيراً، في 10 أيّار/ مايو 2019، أَقام المعهد الأنطوني في بعبدا حفلَ تكريمٍ حاشد للمؤرّخ يوسف إبراهيم يزبك، افتَتَحُه الأب جورج صدقة، رئيس دير مار أنطونيوس والمعهد الأنطوني بقوله: “الأمّة العظيمة تُكرِّم أبناءها الأصلاء”. تعاقَبَ على الكلام جورج عون، رئيس بلديّة الحدث، ومارون يوسف يزبك، ومسعود ضاهر. تناوَلَ المُتحدّثون مَسيرةَ هذا المُثقّف الطليعيّ الفذّ ودَوره الرائد كواحدٍ من أفضل المؤرّخين الذين قدّموا تاريخ لبنان على حقيقته، بوصفه تاريخَ شعبٍ يعشق الحريّة والإبداع، وليس تاريخ زعماء ميليشيّات طائفيّة تقودها طبقةٌ سياسيّة فاسدة فشلت في بناء دولة ديموقراطيّة وطنيّة وغير طائفيّة؛ فتاريخ لبنان الحقيقي، كما وصفه يوسف يزبك، هو تاريخ وطن حرّ وشعب مُناهِض لكلّ أشكال القمع والإرهاب.

واستحقَّ لبنان بنضال شعبه الدَّورَ الخصوصي الذي ميَّزه على المستوى العربي والدولي، كما وَصَفَهُ بذلك المؤرِّخ العالَمي أرنولد توينبي في مُحاضرةٍ له كان ألقاها باللّغة الفرنسيّة في 8 أيّار/ مايو سنة 1957 في دار “الندوة اللّبنانيّة” في بيروت تحت عنوان: “لبنانُ أَلَقُ التاريخ”.

***

(*) مؤرِّخ وكاتب من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *