الزَّيتُونُ، والحَنِينُ، وزَيتُ العافِيَة!  

Views: 316

 مُورِيس وَدِيع النَجَّار

 

(في خَبَرٍ وَرَدَ في وَسائِلِ التَّواصُلِ الاجتِماعِيِّ جاءَ أَنَّ سِعرَ كلغ الزَّيتُونِ في السُّوبرماركت بَلَغَ 200000 ل ل، فَتَذَكَّرتُ ما كَتَبتُ، يَومًا، حَولَ كِتابِ «الزَّيتُون» لِلمُهَندِسِ الزِّراعِيِّ جُورج حَنَّا جِحَى)

 

كِتابُ «الزَّيتُون» لِلمُهَندِسِ الزِّراعِيِّ المُبدِعِ جُورج حَنَّا جِحَى، الصَّادِرُ في أَيَّار 2018، كَنْزٌ عِلمِيٌّ ثَرٌّ، وبَرَكَةٌ على رُفُوفِنا، وعَوْنٌ لِكُلِّ مَن شَمَّرَ لِزِراعَةِ الزَّيتُونِ وتَدَبُّرِهِ.

وهو شامِلٌ هذه الزِّراعَةَ، بِعُمْقِ أَبحاثِهِ وشُمُولِيَّتِها، وَوَفرَةِ الرُّسُومِ التَّفصِيلِيَّةِ الَّتي تُغنِيهِ، والطَّرْحِ العِلمِيِّ الجادِّ لِكُلِّ المَشاكِلِ الَّتي تَعتَرِضُ هذه الشَّجَرَةَ المِعطاءَ، وإِبداءِ الحُلُولِ لَها، والجَداوِلِ الإِحصائِيَّةِ الدَّقِيقَةِ، والعَدَدِ الوَفِيرِ مِن المَراجِعِ الَّتي اعتَمَدَ عَلَيها (183 مَرجِعًا)؛ فَهوَ، بِهذا، يَصلُحُ أَن يَكُونَ أُطرُوحَةً لِنَيلِ الدُّكتُوراه بِالدَّرَجَةِ المُمتازَة.

نَعَم…

إِنَّ المُؤَلِّفَ، بِعَقلِهِ الحَصِيفِ، وسَعَةِ اطِّلاعِهِ، وخِبرَتِهِ الطَّوِيلَةِ، أَكادِيمِيٌّ بارِزٌ بِالسَّلِيقَةِ، وعَلَّامَةٌ في مِضمارِهِ، وقامَةٌ عِلمِيَّةٌ سَامِقَةٌ مُتَوَّجَةٌ بِنِصفِ قَرْنٍ مِنَ العَمَلِ المُتَواصِلِ في عالَمِ النَّباتِ.

 

ولكِنْ…

هل بِحاجَةٍ إِلى الأَلقابِ مَن يَكُونُ مَرْجِعًا لِلمُلَقَّبِين؟!

وإِلى جانِبِ الأُبَّهَةِ العِلمِيَّةِ، فَقَد جادَ المُؤَلِّفُ بِغَزارَةِ المَعلُوماتِ الَّتي تُؤَرِّخُ ارتِباطَ حَياةِ الأَقوامِ وعِباداتِهِم، على مَرِّ العُصُورِ، بهذه الشَّجَرَةِ الَّتي تَوَّجَتها السِّنُونُ مَهابَةً، فَباتَت مَلِكَةَ الأَشجارِ ولا مُباهٍ.

ويَجدُرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ «مَليُونَي شَجَرَةِ زَيتُونٍ تَتَراوَحُ أَعمارُها بَينَ عَشْرِ سَنَواتٍ وسِتَّةِ آلافِ سَنَةٍ» (ص 23)، تَكسُو رِحابَ كُورَةِ العِلمِ والرُّقِيِّ والعَقلِ الجَدَلِيِّ المُتَنَوِّرِ الَّذي يَتَرَفَّعُ عَن كُلِّ ما يُسِيءُ إِلى الوَطَنِ.

الله…

كَم في جُذُوعِها مِن ذِكرَياتٍ دَفِينَةٍ عن تارِيخٍ وَلَّى، وأَقوامٍ بادُوا، ورِجالٍ جَرَّحُوا ثَرانا بِمَعاوِلِهِم فَأَنبَتُوا الخَضارَ الأَبَدِيَّ، وأُمَمٍ تَناوَبَت عَلَينا فَما استَطاعَتِ المُكُوثَ، فَأَرضُنا نارٌ على كُلِّ فاتِحٍ زَنِيمٍ، بِقَدْرِ ما هِيَ نَدًى وطِيْبُ قِرًى واحتِضانٌ لِكُلِّ طالِبِ مَوْئِلٍ ومَلاذ!

 

🟍🟍🟍

اقتِراحاتُ المُؤَلِّفِ على الدَّولَة

بَعدَ أَن لَمَسَ المُؤَلِّفُ مُعاناةَ المُزارِعِينَ، تَوَجَّهَ إِلى الدَّولَةِ بِاقتِراحاتِهِ الآتِية:

– «على الدَّولَةِ أَن تُعِيدَ تَرتِيبَ الأَراضِي بِعَمَلِيَّاتِ ضَمٍّ لِلعَقاراتِ الصَّغِيرَةِ ثُمَّ فَرزَها مِن جَدِيدٍ لِلحُصُولِ على وَحَداتٍ عَقارِيَّةٍ يُمكِنُ استِثمارُها زِراعِيًّا بِجَدوَى اقتِصادِيَّة» (ص 27).

– ضَرُورَةُ إِنشاءِ «مَحْمِيَّةٍ لِأَشجارِ الزَّيتُونِ في الكُورَةِ الوُسطَى لِلمُحافَظَةِ على ما بَقِيَ مِن الأَشجارِ المُعَمِّرَةِ التَّارِيخِيَّةِ غَيرِ المَحْمِيَّةِ، لِكَونِها أَملاكًا خاصَّة» (ص 48).

– «إِذا كانَت الدَّولَةُ غَيرَ قادِرَةٍ على دَعْمِ قِطاعِ الزَّيتِ، وزِيادَةِ قُدرَتِهِ التَّنافُسِيَّةِ، وصِفاتِهِ التَّفاضُلِيَّةِ، أَمامَ زَيتِ الزَّيتُونِ الأَجنَبِيِّ المُستَورَدِ الَّذي يُغرِقُ الأَسواقَ اللُّبنانِيَّةَ، وذلك بِسَبَبِ اتِّفاقِيَّاتِ التِّجارَةِ العَرَبِيَّةِ والشَّرقِ أَوسَطِيَّةِ والعالَمِيَّةِ الَّتي وَقَّعَت عَلَيها، فَإِنَّ ذلك لا يَحُولُ دُونَ مُساعَدَةِ المُزارِعِينَ في تَطوِيرِ سُبُلِ الإِنتاجِ، وبِناءِ السُّدُودِ وتَجهِيزاتِ الرِّيِّ وحِمايَةِ المَحاصِيلِ مِن الآفاتِ والأَوبِئَةِ، وتَفعِيلِ الإِرشادِ الزِّراعِيِّ، وإِنشاءِ مَصرِفٍ لِلتَّسلِيفِ الزِّراعِيِّ، والتَّشرِيعِ الضَّرُورِيِّ لِمَنعِ تَفَتُّتِ المُلكِيَّةِ وتَبَعثُرِها» (ص ص 74، 240).

 

🟍🟍🟍

اقتِراحٌ خاصٌّ

يَدعُو الكاتِبُ إِلى «إِنشاءُ تَعاوُنِيَّةٍ لِمَلَّاكِي الزَّيتُونِ في الكُورَةِ تُشَكِّلُ شَرِكَةً تِجارِيَّةً لِتَسوِيقِ الزَّيتِ وتَصرِيفِهِ» (ص 80). وقد فَصَّلَ مَهَمَّاتِ هذه الشَّرِكَةِ – وهي لَيسَت بِالقَلِيلَةِ – بِما يُشبِهُ خارِطَةَ طَرِيقٍ، فَلَم يَبقَ سِوَى وُجُودِ الفارِسِ الَّذي يَأخُذُ الرِّسالَةَ على عاتِقِه. ونَحنُ نَرَى لَها رَئِيسَ اتِّحادِ بَلَدِيَّاتِ الكُورَةِ، المُهَندِسَ كَرِيم بُوكَرِيم، لِما لَهُ مِن أَيادٍ بِيْضٍ مُتَواصِلَةٍ تَشهَدُ لَها الوَقائِعُ الفاقِعَةُ كَعَينِ الشَّمسِ، ولِما يَتَمَتَّعُ بِهِ مِن اندِفاعٍ وتَفانٍ وشَفافِيَّةٍ، وهِمَّةٍ لا تَفتُرُ، يُعَزِّزُها رَصِيدٌ عِلمِيٌّ عالٍ. فَإِذا لَم يَكُنْ عائِقٌ نَجهَلُهُ، فَإِنَّنا نَدعُوكُم لِلمَهَمَّةِ بِتِرياقِكُمُ المَجبُولِ بِمَحَبَّتِكُم، وَلا غَرْوَ فَـ «لا يُدْعَى لِلجُلَّى إِلَّا أَخُوها»!

 

🟍🟍🟍

اقتَرَنَت حَياةُ الكُورانِيِّ، (ص 63)، بِشَجَرَةِ الزَّيتُونِ، وباتَ مَسارُها رَهْنًا بِالمَوسِمِ القابِل. فَإِن عَبَسَ فَعَصْرٌ لِلنَّفَقاتِ وَ «على قَدّ بساطَك مُدّ رِجلَيك»، وإِن ابتَسَمَ، فَوُجُوهٌ مُنشَرِحَةُ الأَسارِيرِ، وأَزَماتٌ تَرتَدُّ على أَدبارِها إِلى حِينٍ، ومُحِبُّونَ هَلَّ نَجْمُهُم، فَتَوَّجُوا الأَشواقَ المَكنُونَةَ بِالقِرانِ المَوعُود.

أَلَم يَكُن قِطافُ الزَّيتُونِ، في الماضِي القَرِيبِ، عِيدًا يَشمُلُ العائِلَةَ الكُورانِيَّةَ كافَّةً، ويَجلُبُ الفَرحَةَ إِلى الطُّلَّابِ إِذ تُقفِلُ المَدارِسُ أَبوابَها لِتُتِيحَ لِرُوَّادِها المُساهَمَةَ في قِطافِ الخَير؟!

أَلَا خَفِّفْ مِن غُلْوائِكَ عَلَينا، أَيُّها الزَّمَنُ، فَبِنا حَنِينٌ إِلى «نَمَطِ حَياةٍ أَصبَحَ ذِكرَى، إِلى عِيدٍ كانَ ومَضَى» (ص 253).

 

إِنْ هي إِلَّا دَورَةُ حَياةِ الكُورانِيِّ حَتَّى الرُّبْعِ الثَّالِثِ مِنَ القَرنِ العِشرِينَ، كانَ الزَّيتُ فِيها نُسْغَ الحَياةِ الكَرِيمَةِ، وَعُدَّةَ الإِقدامِ على العِلمِ في مَظانِّه.

فَسَقْيًا لَكِ يا شَجَرَةَ الخَيرِ، أَعطَيتِنا مِن نَداكِ الدَّافِقِ ما جَنَّبَنا العَثَراتِ، فَهَل يَلِيقُ بِنا، عِندَ انكِشاحِ الغُيُومِ، أَن نَتَنَكَّرَ لَكِ، ونَترُكَكِ لِعادِياتِ الأَيَّام؟!

حَسبُنا مِنكِ زَهْوًا أَنَّ سَيِّدَ الفِداءِ، مُخَلِّصَنا، يَومَ دَخَلَ مُنتَصِرًا إِلى أُورَشَلِيمَ القُدْسِ استَقبَلَهُ القَومُ بِأَغصانِكِ المُورِقَةِ، وأَنَّكِ ما زِلتِ تُصارِعِينَ الوُجُودَ حَيثُ تَفَيَّأَكِ في بُستانِ الجِتسمانِيِّ، حِينَ شَهِدْتِ الخِيانَةَ العُظمَى الَّتي مَهَّدَتِ السَّبِيلَ إِلى الصَّلْبِ، فَالقِيامَةِ، فَالخَلاص!

 

🟍🟍🟍

فَيا شَجَرَةَ الزَّيتُونِ

كَبِرنا في حَنانِ فَيئِكِ، وفي كِبَرِنا نُضُوبٌ وغُضُونٌ وإِعياءٌ، وحَنِينٌ إِلى ماضٍ غَبَرَ مع مَن غَرَسُوكِ زِيْنَةً لِلوِهاد…

وفي كِبَرِكِ مَهابَةٌ تَنمُو، وَتَحَدٍّ لِلسِّنِينَ، ومُجالَدَةٌ لِعَناصِرِ الطَّبِيعَةِ، وعَطاءٌ لا يَنضُبُ، وشَبابٌ يَزدادُ نَضارَةً كُلَّما شِخْتِ مَعَ الأَيَّام…

أَلَا خَبِّرِينا عَن أَحوالٍ بادَت، فَأَنتِ الشَّاهِدَةُ الباقِيَةُ صَرْحًا مَهِيبًا لَم تُصَدِّعْ جُدُرَهُ العَواصِفُ، ولا تَرَكتهُ أَطلالًا، كَما أَمعَنَت فِينا…

أَلَا خَبِّرِينا عَن زُنُودٍ سُمْرٍ مَجدُولَةٍ غَرَسَتكِ في الوَعْرِ، وسَقَتْكِ عَرَقَ المَفاصِلِ والجِباهِ، وشُعاعَ العُيُونِ، فَسَطَّرَت سُفُوحَ الشَّوكِ والصَّخْرِ بِجُلُولٍ خُضْرٍ مُغْدَوْدِنَةِ الشُّجَيراتِ، فَكانَت قَصائِدَ عُصْمًا ما حَمَلَت بِبَهائِها رِقاعٌ قَبْلُ، وعَنوَنَها الدَّهْرُ: أَلكُورَةُ الخَضراء…

أَلا قُرِّي عَيْنًا على أَدِيمِنا الباسِمِ لِلشَّمسِ أَبَدًا، غُصُونًا رِواءً، وجُذُوعًا مُتَشَقِّقَةً عَصِيَّةً، وجُذُورًا تَحتَلِبُ العافِيَةَ، فَتَجُودُ بِحُبُوبِ العَطاء…

سَنَرحَلُ، يا زَيتُونَتَنا الحَبِيبَةَ، أَجيالًا تَتْرَى، وتَبقَينَ هُناكَ، نَغَمًا في المَدَى، مَعِينًا لا يَجِفُّ، تَمِيمَةَ وَفاءٍ، مَزارًا لِلآتِينَ، وَصَلاة!

حَسبُكِ، يا مَلِكَةَ الأَشجارِ، أَنَّكِ «أَوَّلُ شَجَرَةٍ جَرَى تَدجِينُها في التَّارِيخِ، لِأَنَّكِ أَكثَرُ أَشجارِ المَملَكَةِ النَّباتِيَّةِ فائِدَةً لِلإِنسان» (ص39).

وَلَكَم وَقَّرَكِ الأَقدَمُونَ، فَهذا فَيلَسُوفُ العُصُورِ «أَرِسطُو يُعلِنُ في «دُستُورِ أَهلِ أَثِينا» أَنَّ مَن يُدانُ بِقَطعِ شَجَرَةِ زَيتُونٍ يُحكَمُ عَلَيهِ بِالمَوت» (ص 34).

 

أَمَّا نَحنُ، فَإِنَّنا تَفَيَّأناكِ في مَراحِلِ العُمرِ، إِرْثًا مُبارَكًا مِن جُدُودٍ جَدُّوا فَاستَحالَ التُّرابُ، على أَيادِيهِم، إِلى نِعَمٍ خُضْرٍ، وَزَيْتٍ سائِغٍ، وَمَيْرُون.

لَقَد كُنتِ أُمًّا حَنُونًا زَوَّدَتنا العَتادَ لِرِحلَةِ العُمرِ الصَّعبَة. فَهَل وَفَّيناكِ حَقَّكِ بِالعِنايَةِ أَمامَ غَزَواتِ الزَّمَنِ، أَم رَأَيناكِ فَقَط سِلعَةً جَدِيرَةً بِالبَيع والشِّراء؟!

إِنَّنا لَنَخشَى الجَوابَ، وَيَلسَعُنا سَوْطُ القَولِ المُدَوِّي لِلشَّاعِرِ مَحمُود دَروِيش: «لَو يَذكُرُ الزَّيتُونُ غَارِسَهُ لَصارَ الزَّيتُ دَمعَا…»!

فَيا حَبَّةَ الزَّيتُونِ، يا ثَمَرَةً شَهِيَّةً تَزِينُ مَوائِدَ المُلُوكِ، يا مَن «أَنزَلتِ الفارِسَ عن فَرَسِهِ لِيَحتَضِنَكِ بِراحَةِ يَدِهِ» (ص 254)، أَنتِ في أُسِّ زادِ الفَقِيرِ، وقُوتِهِ، إِذا ادلَهَمَّتِ الأَجواءُ عَلَيهِ، وضاقَتِ السُّبُل. وقَدِيمًا كانُوا يَقُولُونَ في المَرأَةِ الرِّضَى، السَّاهِرَةِ على هَناءَةِ بَيتِها، إِنَّها تَعِيشُ مَعَ زَوجِها في الضَّرَّاءِ كَما في السَّرَّاءِ، وتُقاسِمُهُ «الزَّيتُونَ والجُبْنَة».

وَيا أَرضَ كُورَتِنا

نَأوِي إِلى نِعمَتِكِ فَيَلبَسُنا كِيانٌ جَدِيدٌ يُمَزِّقُ عَنَّا كِيانَنا القَدِيمَ البالِيَ مُنْهَكًا بِهُمُومِ الأَيَّامِ واللَّيالِي.

نِعْمَ ما أَرضَعْتِ، وَسَلامٌ عَلَيكِ، فَلَأَنتِ مِعْجَنُنا الدَّافِقُ، وَمَأْوانا الأَخِير!

 

🟍🟍🟍

وَيا جُورج جِحَى…

يا كاتِبًا واضِحَ البَيانِ، مُدَقِّقًا، لَكَأَنَّ شَجَرَتَنا الحَبِيبَةَ نادَتكَ لِتُغِيثَها في حَوْمَةِ الأَوبِئَةِ وتَجَنِّي الإِنسانِ، فَما تَقاعَستَ، وشَهَرتَ قَلَمَكَ السَّنِينَ، وقُلتَ قَولَكَ الفَصْلَ، «وَالقَولُ يَنفُذُ مَا لا تَنفُذُ الإِبَرُ»(1)، إِنَّكَ، بِحَقٍّ، صَوْتُ صَارِخٍ فِي بَرِّيَّتِنا(2)، تُطلِقُها مُدَوِّيَةً: أَعِدُّوا العُدَّةَ لِحِمايَةِ إِرثِنا الأَخضَرِ، قَوِّمُوا فِي قَفرِكُم سَبِيلًا لِلنَّجاةِ قَبلَ خَرابِ البَصْرَة.

فَعَسَى أَن تَجِدَ الآذانَ المُصغِيَةَ، ونَحنُ آمِلُون، «فَالعَيشُ ضَيِّقٌ لَولا فُسحَةُ الأَمَل».

لَكَ الشُّكرُ والامتِنانُ على نَشاطِكَ الَّذي ما فَتَرَ يَومًا في «مَجلِسِ إِنماءِ الكُورَةِ» الَّذي تَرَأَّستَهُ لِسَنَواتٍ طِوالٍ، مِن دُونِ أَن يَجحَدَكَ جاحِدٌ، «فَحامِلُ المِسْكِ لا تُخفَى رَوائِحُه».

كَما نَرفَعُ لَكَ تَحِيَّةَ إِكبارٍ، لِما جُدْتَ بِهِ مِن مَعرِفَةٍ أَبَيتَ أَن تَبقَى رَهِينَةَ فِكرِكَ المُتَنَوِّرِ، فَلَأَنتَ، بِما كانَ، مَنارَةٌ تَدُومُ ضِياءً ما دامَت تَنبُتُ في سَهلِنا زَيتُونَةٌ وتَنمُو، وَ «المَعرِفَةُ تَزهُو بِصاحِبِها»(3)، كَما يَقُولُ القِدِّيسُ بُولُسُ الرَّسُول!

ونَحنُ نَرَى، مِن بابِ يَقِينِنا الذَّاتِيِّ، أَنَّ هذا السِّفْرَ النَّفِيسَ يَجِبُ أَن يَكُونَ ذَخِيرَةً في كُلِّ بَيتٍ كُورانِيٍّ… وَلْيَلُمِ اللَّائِمُون!

وَيَومَ يُنادِي المُنادِي، ويُفتَحُ كُلُّ كِتابٍ، سَتَكُونُ، يا صَدِيقَنا الكَبِيرَ، مِنَ الَّذِين استَثمَرُوا وَزَناتِهِم حَتَّى الثُّمالَةِ، وسَتُفتَحُ لَكَ أَبوابُ الثَّواب.

فَأَنتَ بِتَّ، في وَعْيِ كُلِّ كُورانِيٍّ، رَفِيقًا وَفِيًّا لِشَجَرَةِ الزَّيتُونِ، وحاضِنًا لَها كَما تَحضُنُ بَنِيكَ، وَصُورَةً زاهِيَةً في بالِنا، وعَبِيرًا دائِمَ الضَّوْعِ مِن شَمِيمِ الزَّيتِ المَيمُون…

أَلا قُرَّ عَيْنًا، فَأَنتَ مِمَّنْ «يَدُرُّ كَالمَطَرِ تَعلِيمُهُم، وتَقطُرُ كَالطَّلِّ مَقَالَتُهُم، وكَالغَيثِ على الكَلَأِ وكَالرَّذَاذِ على العُشب»!(4).

سَلِمتَ، وهَنِئْتَ، وطالَت رِحلَتُكَ في دُرُوبِ العَطاء!

 

🟍🟍🟍

وَلِزَيتُونِنا نَقُول:

هُلَّ أَيا زَيتُونَنا لِلخَبَرْ،                جاءَ إِلَيكَ اليَومَ آسٍ أَغَرّْ

أَدرَكَ ما أَنتَ بِهِ مِن ضَنًى،           وهالَهُ قَدْرُ اشتِدادِ الخَطَرْ

فَاستَلَّ لِلجُلَّى يَراعًا بِهِ                 رَصانَةُ العِلمِ، وَوَفْرُ الحَذَرْ

وَفِيهِ مِمَّا دَبَّجَت مُهجَةٌ                طَوالَ عُمْرٍ مُفْعَمٍ بِالسَّهَرْ

بِالحُبِّ، بِالأَشواقِ ما قَضَّها            كَرُّ سِنِينٍ، وشَبابٌ غَبَرْ

فَكانَ ذا السِّفْرُ الَّذي ضَمَّ في          أَوراقِهِ خَيْرَ السَّنا والعِبَرْ

يَحكِي عَنِ الزَّيتُونِ، عَن زَيتِهِ،        عَن نَكهَةٍ ما عُهِدَت في الثَّمَرْ!

***

(1): حَتَّى اسْتَكَانُوا: وَهُمْ مِنِّي عَلَى مَضَضٍ      وَالقَوْلُ يَنْفُذُ مَا لا تَنْفُذُ الإِبَرُ       (الأَخْطَل الكَبِير، الأُمَوِي)

(2): فِيهِ نَظَرٌ إِلى الآيَةِ «صَوتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا في القَفرِ سَبِيلًا لإِلهِنا»

                                                                         (سِفْرُ إِشَعْيا 40: 3)

(3): «المَعرِفَةُ تَزهُو بِصاحِبِها»          (رِسالَةُ القِدِّيسِ بُولُسَ الأُولَى إِلى كَنِيسَةِ كُورَنثُس 8/1)

(4): «يَدُرُّ كَالمَطَرِ تَعلِيمِي وَتَقطُرُ كَالطَّلِّ مَقَالَتِي وَكَالغَيثِ عَلَى الكَلَأِ وَكَالرَّذَاذِ على العُشب»  

                    (الكِتَابُ المُقَدَّس، سِفْرُ تَثْنِيَةِ الإِشتِرَاعِ، فَصْل 32، آيَة 2)

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *