قزحيّا ساسين عنايةٌ بِسِفرِ الشِّعر

Views: 581

الدكتور جورج شبلي

 

عندما ارتعَشَ الجَمالُ، فجأةً، كانت ولادةُ أولى قصائدِ قزحيا ساسين، لكنَّ الجَمالَ صارَ مظلوماً لأنه لم يُترَكْ على طبيعتِه. والحقيقةُ أنّ إبداعَ قزحيّا وقفَ وقفةَ نضال منَ الجَمال، لأنّه لم يكن، معه، عارِضاً، بل كانت قولبتُهُ معقَّدةً، أنيقةً، تَضبطُها أَقيِسَةُ القِيَم، فقزحيّا المُتَشَدِّدُ، لم يَعقدْ صُلحاً مع الجَمالِ ليبقى حيثُ هو، فهو أرادَ أن يَرقى به الى الكَمال، ونَجح. وهكذا، راحَتْ همساتُ الجَمالِ، في شِعرِ هذا المُتَسَلِّطِ، تُمارِسُ الفوقيّةَ التي انتقلَت إليها من عنجهيّةٍ راكَمَتِ الإبتكار، وتَراكُمُ الإبتكارِ كفاءةٌ لم تتوفَّرْ لكثيرين.

بالرَّغمِ من كَمِّ التَّصاوير، لم يكن شِعرُ قزحيّا فنّاً للفَنّ، وصناعةً للمُحَسِّنات، وزخرفةً نَمَطيَّةً تموتُ أمامَ أوّلِ مِرآة. إنّ قصائدَهُ حِراكٌ موصولٌ يَعبقُ فيهِ روحُ الإبداعِ، وليس تَحليةً شكليّةً، ذلك لأنّ الحقيقةَ في القلبِ وليسَ في العَين. والصُّوَرُ المُتلاحِقةُ في شِعرِه، لم تكنْ في حالةِ سيولةٍ متهالِكَةٍ، بل على مَساسٍ مُباشرٍ باللّامَألوفِ الخَلّاقِ الذي لا يَنساقُ، أبداً، لِحَجَرِيّي الخَيال، بل لِمَنْ يأخذُ بِيَدِ الألوانِ والأَشكالِ الى مَنابِعِ الإبتكار، فلا يكادُ مَتنُهُ يَستطعمُ بمُبتَكر، حتى يطلَّ مُبتكرٌ آخرُ ويتصيَّدَ إمتاعَه. 

لقد تَمَتَّعَ قزحيّا بنعمةِ العواطفِ استِقصاءً لِثَنايا النّفس، فكان شاعرَ الوجدانِ في صَفوِهِ وكَدَرِه، مالَحَهُ في الرَّخاءِ والشِدّة. لم يكنِ هذا الوجدانُ، معه، جزءاً من حالة، يَخبو، ثمّ يَبدو، غِبَّ الطَّلَب، لأنهُ لم يَحُلْ عن عهدِهِ في ما كتب، فانسحبَت لمساتُهُ على كلِّ حِبرِه، ومزجتِ النَّبضَ بالنّبض، حتى تكوَّنَ له، معه، مَذهب. وكان للوجدانِ، في شِعرِه، مرحلةُ عُبورٍ من الكتابةِ في اتّجاهٍ واحدٍ، أي الأَنا، الى الكتابةِ في اتّجاهَين، أي الإتّجاهِ المُقابِلِ لذاتِه، ليضمنَ أنّ تجربتَهُ لم تُهزَمَ، وهكذا، تتعمَّقُ صِلةُ أدبِهِ بالحياة.

مدَّ قزحيّا يدَ شِعرِهِ الى الطبيعةِ رمزِ التّكامُل، لكنّه لم ينقلْها، كالتَقريريّين، بل خرجَ بها من المادةِ الى المعنى، واستنطقَ آياتِها، واتَّحدَ بها ليتقوّى الواحدُ بالآخر، فكان له ضَربُ الحُلولِ، وهو أَوَجُ الشّوقِ الى طينةِ الحقيقة. وقد قادَ إحساسُ قزحيّا الى معانقةٍ، للطبيعةِ، سرمديّةٍ، تذوبُ في ذاتِهِ ذاتُها، لتَنبُتَ من قلبِ هذا التَّمالُحِ قصائدُ تُرَوِّجُ لقُدسيّةِ الطبيعةِ وكأنّها الجنَّةُ، أو أَبعَد. من هنا، لم تكنِ الطبيعةُ، معه، قضيّةً هشَّةً، إنّما هي مَعرضٌ يتجوَّلُ في لَحمِ قصائدِه، ويشكّلُ جَوازَ مرورٍ الى عصرِ الطمأنينةِ والسّلام. وانسحبَ غرامُهُ بالطبيعةِ على ضَيعتِهِ، حَدشيت، التي لم تكن، في شِعرِه، خليطاً مشوَّهاً، بل هي كائناتٌ متفاعلةٌ ذاتُ قدراتٍ ميتافيزيقية، تَليقُ بها طقوسُ التَّبجيل. وأشياءُ حَدشيت، في قصائدِه، تستدرجُكَ الى مائدةِ الشّمس، حيثُ تُقَسَّمُ الأدوارُ على شُخوصٍ ليست من لحمٍ ودَم، فتُكشَفُ لكَ حقيقتُها من دونِ أن تُخبرَكَ، هي، بذلك.

كانت أبياتُ قزحيّا مملوكةً بالنَّغَم، تَغرزُ ارتِعاشات، فإذا استَفتَيتَ الكلماتِ أَجابَتكَ رقصاً، وفَضلُها أنّ الشّعورَ بالموسيقى لم يُفرَضْ عليها، بل نَبَعَ منها. ومردُّ التَّلحينِ في الشِّعرِ، الى مزاجِ الشّاعرِ المتحمِّسِ لتلاوينِ الأجراس، فلا شكلَ بِلا صوت، ولا بلاغةَ بلا تقسيم، ولا دَفقَ خيالٍ بلا إيقاع، بحيثُ تُصبحُ القصيدةُ، مع قزحيّا، عرساً لفنونٍ مختلفة، كحركةِ الغصنِ بِرَطيبِ النّسائم. ولَمّا كان الإيقاعُ سِحراً يولِّهُ الأَسماع، كانت العلاقةُ بينَه وبينَ قزحيّا، علاقةً سَبَبيّةً بين الفِعلِ والإنفعالِ، كتانّارِ التي تُسَبِّبُ غَلَيانَ الماء.

قزحيّا المصقولُ بالرقّة، والعَذبُ المُعجَم، لم يَحلَّ مِئزرَ لسانِهِ إلّا للسَّهلِ السَّلِس، ولم يُعلِنْ عن مشاعرِهِ في تعابيرَ لا رونقَ لها، ولا ماء. وقد استجابَت لهُ لغةُ النّاسِ، كما طاوعَهُ حَبكُ الفصيح، فأَملى البلاغةَ على قلمِهِ، فيهما، فلا تُسمَعُ عبارةٌ باردة، ولا مقطعٌ يتعثَّرُ الفَهمُ بوُعورتِهِ، وكأنّ قزحيّا وَعى أنّ الكلمةَ هي مُضيفُ الفكرِ، والتّرجمانُ المُحتَرِفُ لِمَوجاتِه، فاستقامتُها تُؤشِّرُ الى رِيادتِهِ، وخَلَلُها هو تَبَنٍّ لِآفاتِه. لذلك، أَثنى على هويّةِ لُغَتِهِ كياسةً راقية، بَدَت نتائجُها في تَناغُمِها، وفي ولائِها للمعاني، وفي قُدرتِها على تحقيقِ غاياتِ قزحيّا بِها.  

في زمنِ اللَّطمِ والنّواح، لم يكتبِ الوطنُ، في شِعر قزحيّا، الرسائلَ من المَنفى، ولم يكنْ حطاماً مطروداً من كلِّ الوجوه، إنّه معانقةٌ أبديّةٌ مع الكرامةِ، ودعوةٌ الى رَفعةِ رأسٍ دائمة. لقد رفضَ قزحيّا أن يُكسَرَ جبينُ لبنانَ بالذلّ، ويُصبحَ وَقفاً للشيطان، وتركضَ فيه أنهارُ الشّوك، ويتحوّلَ رصيفاً يغمسُ رأسَه في كَومةِ الأَرجُل، فحَيَّكَ الدَّمعَ شالاتٍ ليُلبِسَ الأرزَ ضَحكة. حتى أنّه ارتفعَ، بالمقارنةِ، الى الكَونيّةِ المُطلَقَة، لينتهي الى أنّ عقاربَ الفناءِ لن تلدغَ وطناً هو لأَهلِهِ نصفُ إِلَه: ” الله الكبير، زْغير ما بيصير / ولبنان، مِتلو، زْغير ما بيرجَع…”    

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *