محمّد شقّور في ذكرىَ رحيله صديقٌ لا يطوله النّسيان

Views: 568

* د. السّفير محمّد م خطّابي 

في الرابع من شهر أغسطس 2021 حلّت الذكرى الرّابعة لرحيل عميد الصّحافيين المغاربة والعرب في مدريد لسنوات طويلة الصّديق الأديب محمد شقور الذي وافاه الأجل المحتوم  في هذا التاريخ المذكور من عام 2017 في حاضرة أبي القاسم المجريطي (مدريد) حيث كان قد جعل من  هذه المدينة الفيحاء مقرّاً ومُستقرّاً لعمله ثمّ لإقامته فى السنوات الأخيرة من عمره، كان الفقيد العزيز قد ولد في 27 ديسمبر عام 1937  بمدينة ” تطّاون” (كما كان يحبّ أن يسمّيها باسمها الأصلي التي تعني في اللغة الأمازيغية الرّيفية ” العيُون” ومفردها ” ثِطْ ” أيّ العيْن )  .

 على حين غرّة غيّب الحِمَامُ هذا المبدع العصاميّ ، وخطفته يدُ المنون التي ما زالت تخبط فينا وبيننا خبطَ عشواء بدون هوادة، وتسلبنا أحبّاءنا، وخلاّننا ،وتتركنا حيارىَ في قبضة الزّمن الذي لا يرحم ، محمد شقور من الشخصيات والأصدقاء الذين تقاسمنا وإياهم هنيهاتٍ رغيدة، وأياماً سعيدة  من العُمر الفاني التي تظلّ عصيّةً على النسيان .

 

  تحيّة حرّى لهذا الاديب المفوّه في لغة سيرفانطيس الذي شرّف العاصمة الاسبانية التي طالما هام بها وعشقها ،والتي كان خلال جلساتنا المطوّلة فى مقاهيها الجميلة، وحدائقها الغنّاء كثير السّؤال عن تاريخها، وعن علمائها، وشعرائها،وفقهائها، وأعيانها إبّان الوجود العربي والامازيغي بها،  ستظلّ ذكرى رحيله نابضة، متّقدة،مشعّةً في مختلف أركان وأرباض هذه المدينة الجميلة المترامية الأطراف التي أسّسها العرب والأمازيغ فى القرن التاسع الميلادي،والتي تحمل إسماً عربياً، أو بربريّاً (حسب العالِم المغربي الجليل الرّاحل محمد الفاسي رحمه الله في تقديمه لكتاب ” الإكسير في فكاك الأسير ” للرحّالة السّفير ابن عثمان المكناسي)  هذه الحاضرة التي تنفرد، وتتباهى بهذا الإسم بين نظيراتها باقي المدن الأوربية الأخرى، محمد شقور ما زل وسيظلّ حاضراً بروحه السّمحاء  فيها ، بكلماته، وآدابه، وإبداعاته ،وإسهاماته، وعطاءاته الوافرة فى التعريف بالأدب والفكر العربيين ،والدفاع عن الإسلام المعتدل الرّصين فى كتاباته، وفى برامجه فى التلفزيون الإسباني . 

 في هذه الذكرى الرابعة لرحيله ها نحن  نتطلّع إليه من وراء الغيب، وهو في دارالبقاء ونحن في دار الشقاء،  بعد أن قيّض الله لنا أن نعيش جنباً إلى جنب على درب المودّة  والمحبّة والصفاء على امتداد سنوات طويلة من أعمارنا، منذ لقائنا الأوّل في المبنى العتيق المتواضع ل”دار البريهي” الذي كان يحتضن مقرّ الإذاعة والتلفزيون المغربي فى الرّباط آنذاك عندما كان يعمل رئيساً لقسم البرامج الثقافية وكنت حينها أشرف على إعداد وتقديم عدّة برامج ثقافية وفكرية أواسط السبعينيّات من القرن الفارط في الإذاعة والتلفزيون المغربيْين .

 

 كنا إبّائذٍ فئة قليلة من الشباب المتطلّع لمستقبل لم يكن واضح المعالم أمامنا آنذاك، كان إنتاجنا غزيراً لا ينضبّ ، وكان محمد شقور يستقبلنا ويشجّعنا بابتسامته المعهودة، وبصوته الخفيض،وتواضعه الجمّ،وكلماته المميّزة بتلك النغمة الشمالية المُميّزة الجميلة للغة أهل مدينة الحمامة البيضاء الطيّبين تطوان العامرة،كان يبادلنا الحديث كأنه مخلوق بلّوري صافيّ الشّيم والسّجايا، حميد الخصال والمزايا ، كانت الكلمات تخرج من فيه بالكاد تلامس آذاننا . كان قليلَ الهذر والكلام، كثيرَ الإصغاء والعطاء .

هذا الصّديق الأبرّ سكنتْ كلماته قلوبنا ، واستوطنت وجداننا وكياننا، فقد أعطى للأدب الإسباني حضوراً وزخماً ، بالنظر إليه كان يجعلنا توّاً نتذكر،ونستحضر أسماءَ لامعة من أعلام الخلق والإبداع على إمتداد تاريخه الطويل، وجغرافيته المترامية الأطراف، أمثال ميغيل دي سيرفانطيس، ولوبّي دي فيغا، و لويس دي غونغورا، وكيفيدو، ومن روّاد الأدب الحديث أمثال لوركا، وألكسندري،وخوان رامون خيمينيث، ودامسُو ألونسُو، ورفائيل ألبرتي، وخورخي غيّين،وماريا ثامبرانو،وأنا ماريا ماتّوتي، وخوسّيه ييرّو،وميغيل دي أونامونو، وخوسّيه أورتيغا إي غاسيت،وأونامونو، وأنطونيو غالا،وخاثنتو لوبث كورخي، وترينا ميركادير، وكونشا لوبث ساراسووا ،وخوان غويتيسولو وسواهم، من فرسان وفارسات اليراع والإبداع فى العالم الناطق بلغة سيرفانتيس فى كل عصر .

 

 كان خجولاً بين أصدقائه، وممّن عملوا معه وإلى جانبه، إنه رغم الغياب لمّا يزلْ يطلّ علينا بهامته من وراء أكوام الأوراق التي كانت تملأ مكتبه المتواضع سواء فى دار البريهي، أو فى حُجرات الجرائد والمجلات الناطقة بلغة سيرفانتيس التئ كان يرأس تحريرها، أو فى مكتبه بوكالة المغرب العربي للأنباء بمدريد ، أو فى برنامجه فى التلفزيون الإسباني الأخير حول  الإسلام. 

كان حريصاً على حضور مختلف التظاهرات الثقافية التي أقيمت فى إسبانيا ، بل والإسهام فيها بكلّ ما أوتي من بلاغة الكلام، وحُسن الديباجة والمرام فى اللغة الإسبانية، وإنْ نسيتُ فلن أنسى دورَه المحمود فى المجال الثقافي ،وتعميق العلاقات بين الشعبين الإسباني والمغربي، حيث إضطلع المثقفون الإسبان والمغاربة بالفعل فى العقود الأخيرة بدور طلائعي فى تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الثنائية بينهما، وإليه يرجع الفضل فى تأسيس عام 1979 “مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة” التي ضمّت صفوةً من الكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان الذين نشروا فى الصحافة الإسبانية بياناً فى هذا القبيل وقّعه ما ينيف على 40 مثقفاً من المغرب ، و46 مثقفاً من إسبانيا الذين طالبوا بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات ، وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة إلى تنظيم عدّة ندوات، وطاولات مستديرة هامّة حول مختلف أوجه التعاون الثقافي، والأدبي، منها” معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون” بين الطرفين، من الموقّعين المغاربة : أنت، والمهدي بنونة ،محمّد شبعة،لسان الدين داود،عبد الكريم غلاب، محمد بن عيسى،مصطفى اليزناسني،محمّد العربي الخطّابي،وعبد الكبير الخطيبي،عبد الله العروي، محمّد اليازغي ، ومحمّد المليحي، ومحمّد العربي المساري، سيمون ليفي، ومحمّدالصبّاغ، وكاتب هذه السّطور..إلخ. ومن الإسبان:الراحل خوان غويتيسولو ،وفرناندو أرّابل، وبيدرومونطافيث،وخورخي سينبرون،وفاثكيث مونطالبان، وفيكتور موراليس،وآخرون . وقد طالب هذا البيان بضرورة إعطاء نفس جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين ، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما فى مختلف المجالات السياسية، واالإقتصادية، والثقافية، والإجتماعية، والإنسانية والتآخي بين الشعبيْن الإسباني والمغربي ونبذ  كل الأفكار المُسبّقة والأحكام الخاطئة المُجترّة بينهما ..إلخ .

 

أربع سنوات مرّت بدون صديقنا محمد شقور الذي كان إنساناً مُحبّاً  للخير لأنه كان من أهله وذويه ،متواضعاً ، يميل للبسط، والدّعابة، والمزاح..وكانت لنا إسهامات مشتركة فى حقل الترجمة والأدب الإسباني والعربي فى العالم الناطق باللغة الإسبانية،وكانت لنا مشاركات حثيثة خلال العقود الثلاثة الفارطة فى مختلف التظاهرات التي تُنظّم فى هذا القبيل فى مختلف ربوع التراب الإسباني وأصقاعه،وكان رحمه الله قبل رحيله ببضع سنوات قد أجرىَ معي استجواباً إذاعيّاً مُطوّلاً عن تجربة عملي الدبلوماسي وإسهاماتي في الحقل الثقافي  في العديد من بلدان أمريكا اللاّتينية . 

وعلى إثر رحيله المفجع كان قد  نعاه وأبّنه العديد من أصدقائه و زملائه الذين عملوا إلى جانبه، فضلاً عن بعض الأدباء والشعراء الإسبان  منهم   الصّحافى فى جريدة ” الباييس” دومينغو ديلْ بينو،والاستاذة بالجامعة المستقلة بمدريد الناقدة والشاعرة ليونور ميرينو، وبعض أصدقائه المشتغلين بالدراسات الإسبانية  داخل المغرب وخارجه،ونعاه الشاعر والناقد الإسباني” خوسّيه ساريّا ” الذي كتب يقول عنه: “قد لا يعني اسمُ محمد شقور شيئاً بالنسبة للكثيرين. فهو بالإضافة إلى كونه كان مثقّفاً من الطراز الرّفيع، وكاتباً  فذّاً باللغة الإسبانية ، ومفكِّراً ذا نزعة إنسانية شمولية، كان  كذلك من كبارالمهتمّين فى حقل الدراسات الإسبانية- العربية  ومن أبرز الذائدين والمدافعين عن لغة سيرفانتيس “.

 

ويضيف الناقد الإسباني قائلاً : ” لم يحْظَ محمد شقور بأيّ إحتفاء يناسب مستواه الثقافي، كما لم تُنظّم له أيّ  تظاهرة تكريمية من طرف الحكومة “. وقد عاب الناقد خوسّيه ساريّا على السلطات الإسبانية هذا الصّنيع  المُجحف حيال رجلٍ قدّمَ الكثير للغة الإسبانية ولثقافتها كما عاب كذلك على الحكومات الإسبانية التي تعاقبت على تسيير دفّة الأمور فى إسبانيا فى العقود الأخيرة كونها ظلّت تنظر بلا إكتراث للزَّحفَ المتواصل للغتين الفرنسية والإنجليزية في المغرب في مناطق كانت  بإستمرار موطناً، ومرتعاً، وملاذاً للموريسكييّن، والسّفارديين، والأندلسيين، والإسبان على حدٍّ سواء “. وختم خوسّيه ساريّا كلمته قائلاً : ” لقد رحل شقور، إلاّ أنّ  تراثه سيبقى بيننا ، كما ستبقى نصب أعيننا مقاومتُه العنيدة ، وإخلاصُه للّغة الإسبانية”.

تابع  الفقيد دراسته فى مرحلة التعليم الثانوي بتطوان، ثم  حصل على الليسانس في  جامعة مدريد فى مجال تخصّصه،وقد زاول الصحافة في الرباط،  وأشرف على عدّة جرائد ومجلات ، مثل “المغرب ” و”صحراؤُنا و”قضايا عربية “، و”إِيبِرْ- أطلس و”الإسلام والغرب” و” مارويكُوس” .كما عمل فى حقبة من حياته بالإذاعة والتلفزة المغربية، ورئيساً لمكتب وكالة المغرب العربي للأنباء بمدريد .

نشر العديد من الأعمال الدراسيّة والإبداعيّة منها : “أنطولوجيا القصص المغربية باللغة الإسبانية”، بالتعاون مع الراحل خاثِينْتو لُوبّيثْ غُورْكي، و”ملتقيات أدبية: المغرب-إسبانيا-إيبيرُوأمريكا” و”الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية “، بالتعاون مع الباحث والناقد التشيلي سيرْخْيو ماثيَّاسْ،و”المفتاح ” و”ونبضات الجنوب”..إلخ .

***

*- كاتب من المغرب ،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *