“كونت” الباحث عن أُفُقٍ جديد للبشريّة

Views: 303

د. فردريك معتوق*

 

كان القرنُ التاسع عشر قرنَ الاضطّراب السياسيّ والفكريّ بامتياز في القارّة الأوروبيّة. فهو يقع إبيستمولوجيّاً بين زمن الثورة الفرنسيّة وزمن الثورة الصناعيّة، لذلك جاءَ على مفصلٍ بين رؤيتَين قلقتَين للإنسان ومُستقبله. ومن أبرز الذين عاشوا هذا القلق الفكريّ فيلسوفٌ فرنسيٌّ كرَّس حياتَه لتعميم مَنظورٍ جديد لمُجتمعاتِ عصره، هو أوغست كونت.

دوَّنَ أُسُسَ رؤيته الجديدة – والمُجدِّدة في نَظره – في خطابٍ مُطوَّلٍ صدرَ لاحقاً، عام 1844، تحت عنوان “خطاب في الروحيّة الوضعيّة” (Discours sur l’esprit positif). وهو في الأصل خطاب طويل كان ألقاهُ أمام جمهورٍ واسعٍ ومُتنوِّعٍ في سلسلة مُحاضراتٍ عَلنيّة مُخصَّصة لتوعية الجموع والجماهير الباريسيّة. ونُشير في هذا السياق إلى أنّ الفيلسوف كونت كان يَعتبِر نفسَه بمثابة داعية للعلمانيّة والحداثة، ويُمارِس حياتَه كمُتصوِّفٍ فكريّ مُتزهِّد على غرار بعض الفلاسفة الإغريق القدامى، ناشِداً “مُحاكاة القرائح كلّها” بغية توصيل المَعرفة الفلسفيّة الحقّة إلى أبسط الناس وأقلّهم تعلُّماً قبل أوعاهم وأكثرهم تثقّفاً.

الفلسفة الوضعيّة

لَجأ إلى مُصطلحٍ جديد لتأسيس منظوره الفلسفي، هو الوضعيّة. ولكنْ ما الذي يعنيه بالوضعي هنا؟. إنه يعني الموجِب والبنّاء. كما يعني بالفلسفة الوضعيّة الفلسفة الحقّة، البنّاءة، والتي تَحكُم مَصير الإنسان العصري. فهل في ما يقوله ادّعاء؟ هل في كلامه مُغالاة؟ أو حتّى هل في منظوره الفكريّ استبداد، على نحو ما انتقده الفيلسوف البريطاني جون ستيورت ميل؟ أم أنّ في خطابه طموحاً فلسفيّاً بعيداً؟ فلْنتعرَّف إلى النظريّة قبل أن نَحكم عليها.

بنى أوغست كونت الفلسفة الوضعيّة على “قانون الحالات الثلاث” الذي اعتبره المُثلَّث الفكريّ الذي تقوم عليه الظاهرة الاجتماعيّة برمّتها، منذ القِدم وحتّى عصره، بحيث ينقسم تاريخ البشريّة إلى ثلاثة عصور مَعرفيّة (سمّاها حالات) يسود كلَّ واحدٍ منها نزوعٌ عامّ يُهيمِن على طرائق التفكير والتنفيذ، بحيث تقوم روحيّة واحدة وعامّة بتوجيه الناس على نحوٍ مُدرَك كما على نحوٍ غير مُدرَك.

تأتي الحالةُ اللّاهوتيّة عنده في المَرتبة الأولى. فهي الأَقْدَم والأكثر تجذُّراً في الذهنيّات، وبالتالي الأكثر تأثيراً في السلوك الاجتماعي العامّ كونها مَبنيَّة على ما ورائيّاتٍ شتّى. وقد تعمَّمَ فَهْمُ هذه الفكرة على أنّها تُمثّل الحالة الدينيّة.

غير أنّ كونت يوزِّعها على فروعٍ ثلاثة، تعاقَبت في نَظَرِه على الوعي الماورائي عند البشر. فهناك زمن عبادة الأصنام الذي مَشت عليه البشريّة في مَهدِها؛ ثمّ هناك زمن الديانات المُتعدِّدة الآلهة (عند الفينيقيّين والإغريق والرومان)؛ وهناك أخيراً زمن الديانات التوحيديّة.

ويرى كونت في هذا الصدد أنّ نمطَ تفكيرٍ ما ورائيّ قد سادَ جميع هذه التجلّيات للوعي الديني، بحيث تقوم روحيّة الوعي اللّاهوتي على مَعارِف مُطلَقة وقطعيّة لا تتقبَّل المُراجَعة أو الاختبار. كما أنّها تقوم على طرحِ أسئلةٍ ومَسائل لا إمكانيّة لتوفير أجوبة عقلانيّة عنها. بالتالي تغدو الروحيّة اللّاهوتيّة مَصدراً لوعيٍ بشريٍّ غير مُكتمِل ومُبهَم في بعض الأحيان.

الحالة الثانية هي الحالة الميتافيزيقيّة. ويَرى كونت أنّ هذه الحالة الذهنيّة والروحيّة العامّة شبيهة بالحالة اللّاهوتيّة. فهي امتداد للحالة السابقة ولكن بلبوسٍ جديد، حيث تقوم باستبدال الأصنام والآلهة بكياناتٍ روحيّة تتجسَّد بشخصيّاتٍ طبيعيّة مُجرَّدة.

تقوم هذه الحالة بردّ الظاهرات كلّها إلى قوانين ما ورائيّة تعجز عن إعطاء تفسيراتٍ مُقنعة لِما يجري في حياة الناس اليوميّة والعمليّة؛ فهي تطير بالأفكار عالياً ولا تَسمح لها بالرسوّ في الواقع المُعاش للبشر، بحيث يُشكِّلُ ذلك نَوعاً من الحالة النيو – قديمة.

الحالة الثالثة، التي يرى كونت أنّها حالةٌ نوعيّة جديدة بالنسبة إلى ما يعيشه الناس في عصره، فهي تلك التي أَطلق عليها الحالة الوضعيّة، أي الحالة التي تقوم على مَوْضَعةٍ صحيحةٍ للأفكار ونمط التفكير. ذلك أنّ روحيّة الوعي تغدو مَبنيّة على سيادة العقل والعقلانيّة. ففي العصر الوضعي يبحث الناس عن القوانين التي تحكم الظاهرات لا عن أسبابها فحسب. كما أنّ التفكير يبحث، في هذه الحالة، عن الثوابت الموضوعيّة للظاهرات المدروسة بغَرَضِ إعادة جميع التصوّرات والمفاهيم في نهاية المَطاف، إلى منشأ إنساني واجتماعي حصراً.

الفلسفة الصحيحة

من هنا يرى كونت في كِتابه أنّ الفلسفة الصحيحة المُمكنة هي الفلسفة الوضعيّة التي تُمثِّل البديلَ التقدّمي، المَعرفي، لجميع الفلسفات اللّاهوتيّة والميتافيزيقيّة السابقة. غير أنّه لا يعتبر أنّ الفلسفة البديلة هذه تقتصر على ما يقدّمه هو، بل تنتج عن توجُّهٍ فكريّ عارِم وعامّ يسود العصر الصناعي الجديد الذي تعيش فيه أوروبا والغرب بعامّة.

بناءً على هذا الإطار المَنظوري العامّ، يتوقّف كونت في كِتابه عند الكلمة المفتاح لبنيانه الفلسفي كلّه، مُقدِّماً لجمهوره (من المُستمعين كما من القرّاء) شرحاً للمعاني التي يَختزنها مفهوم الوضعي، فالوضعي يعني عنده:

– الواقعي

– المفيد

– الأكيد

– الدقيق

– النسبي

من هنا ينتقل كونت إلى دعوةٍ يراها مُبرَّرة لنشْرِ الروحيّة الوضعيّة وتعميمِها وتأسيسِها بين جميع الشرائح الاجتماعيّة في عصره.

يرى في خطابه فوائد قصوى من تعميم الفلسفة الوضعيّة عبر نشْر روحيّتها بين الناس وجعْلها إطاراً مفاهيميّاً جديداً لفهْم شؤون الطبيعة والإنسان والدنيا.

يُعيد كونت صحّة فلسفته إلى أسبابٍ عدّة في كِتابه، منها أنّها ذات فوائد اجتماعيّة جمّة:

تصلح الفلسفة الوضعيّة لتحليل الحالة السياسيّة العامّة، حيث تسمح بربط الشأن السياسي العامّ بمبدأَيْ النِّظام والتقدُّم Ordre et Progrès. Association libre pour l’instruction.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ أوغست كونت كان قد أَسَّس جمعيّةً أهليّةً مفتوحةً لكلّ الناس تحمل اسم “جمعيّة النِّظام والتقدُّم”؛ إذ يجب ألّا ننسى أنّ انتشار الأفكار الثوريّة والشيوعيّة على نحوٍ خاصّ، كان قد بَدأ باحتلال مَساحاتٍ شعبيّة أكبر فأكبر في الأوساط العُمّاليّة المُتزايدة الحضور. فالعصر الصناعي المُتنامي كان يَستتبع ظهور مُشكلاتٍ اجتماعيّة أَوسع فأوسع، ترتبط بالفقر واستغلال الرأسماليّين الجشعين للعُمّال في مؤسّسات الإنتاج؛ فكانت خشيةٌ دائمةٌ تُرافِق الحراكَ السياسي، مَفادها خطر الانزلاق إلى الثورات العُنفيّة والدمويّة. من هنا دعوة كونت للتقدُّم، لكنْ على قاعدة الانتظام الاجتماعي العامّ، لا على الفوضى أو الثورة. وهذا كان سبباً رئيساً لمُعاداة الشيوعيّين لفلسفته المُعتدلة هذه.

غير أنّه، في المُقابل، جاء ذلك سبباً وجيهاً لانضمامِ قِطاعاتٍ واسِعة من المَعنيّين بالشأن السياسي إلى طرحِه الفلسفي الاجتماعي. فقد اعتمدَت شخصيّاتٌ بارِزة فلسفةَ كونت ومبادءه ( زولا وتاين وغوبينو ورينان)، فيما قام تلاميذ من مدرسته الفكريّة في البرازيل، بُعيد مُشاركتهم في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملك و تأسيس الجمهوريّة في البلاد، بتثبيت شعار كونت على عَلَمِ البرازيل الجديد، حيث هو حتّى اليوم (Ordem e Progresso).

2- يَعتبر كونت أيضاً أنّ الفلسفة الوضعيّة تُسهِم بشكلٍ فاعِلٍ في ربط الأخلاقيّات المدنيّة الجديدة بالنظام والتقدُّم من خلال إعلائها شأن الـ “نحن”، في مقابل شؤون الـ “أنا”، ذلك أنّ المصلحة العليا، في رأيه، هي المصلحة العامّة، فيما المصلحة الخاصّة هي مصلحة أنانيّة لا فائدة اجتماعيّة من ورائها. وبذلك يؤكِّد، من حيث لا يدري، على أنّ فلسفته هي في جوهرها فلسفة اجتماعيّة، يَلتزِم كلٌّ من رؤيتها ومَنظورها الأبعد مع أُفق المُجتمع، لا مع منظومةِ أفكارٍ طوباويّة أو مُجرَّدة.

3- يرى كونت أخيراً أنّ الفلسفة الوضعيّة قادرةٌ على توفيرِ انسجامٍ حقيقي بين الحاكِم والمَحكوم. فهي بنشْرِها تعليماً ذا طابعٍ عمومي، كما بتعزيزها أخلاقيّاتٍ مُواطنيّةً مَدنيّة، تَجعل من الحُكم شأناً مُشترَكاً يُدافع عنه الحاكِم كما المحكوم، نظراً لمصلحة الطرفَيْن في استدامة الانسجام الذي ينضح به، فضلاً عن الحُكم الرشيد الذي يقوم عليه، باعتماده على مبدأَيْ “النظام والتقدّم” كبوصلة سياسيّة عليا.

الثورة النّاعِمة

لذلك كلّه يَعتبر أوغست كونت أنّ هناك حاجة إلى إنشاء عِلم جديد يستوحي الفلسفة الوضعيّة، ويعمل على فهْمِ ما يَظهر من تناقُضات ومُفارَقات بين الفكر والواقع وتفسيره، و بين المُجتمع ومُثُله؛ فيبدو له هذا العِلم الواقع بين مَسائِل الفكر وقضايا المُجتمع، مُتجسِّداً في عِلمٍ سمّاه بادىء الأمر “الفيزياء الاجتماعيّة” قبل أن يَبتدع له اسماً جديداً هو “السوسيولوجيا”، أي عِلم المُجتمع.

وقد أرادَ فيلسوفنا لهذا العِلم، لا أن يكون عِلماً ثوريّاً بالمعنى السياسي للكلمة، بل أن يكون عِلماً تغييريّاً يصبو ويعمل لمصلحة وعي حقيقي ومُعاصِر لما تَعيشه المُجتمعات الحديثة، من دون أن يتسبَّب الأمرُ باختلالاتٍ سياسيّة واضطّرابٍ اجتماعي عامّ. فالمُهمّ دائماً في رأيه أن نتقدّم بهدوءٍ وانتظامٍ نحو الأهداف التغييريّة المنشودة.

كان كونت يَنْفُخُ في اللّبن، لأنّ “الحليب كاويه” على جري المثل الشعبي. ذلك أنّ نيران الثورة الشعبيّة الفرنسيّة الناقمة التي حدثت قبل نصف قرن، كانت لا تزال جَمراً تحت الرماد و “روحيّتها” قائمة في النفوس. لذلك رأى الفيلسوف الفرنسي أنّ توفيقاً اجماعيّاً ما ينبغي أن يسود في العقول والنفوس، يكون مَبنيّاً على حالةٍ وسطيّة بين التغيير والنّظام، بين رغبات المَحكومين وضرورات الحُكم. فجاء إسهامه الفلسفي الاجتماعي استجابةً لهذا المَطلب الجماعي والفكريّ الذي شَعَرَ بحاجته الكثيرون، فيما لم يُبلْوره على نحوٍ خلاّق سوى عقل هذا الفيلسوف المُتقشِّف الذي لم يُكمل الستّين من عمره، ولكنْ الذي اعتمدَته الإمبراطوريّة الفرنسيّة الثانية ناطِقاً أصيلاً باسمها وبفكرها.

ونعتقد، من ناحيتنا، أنّ للمُثقّفين العرب المُعاصرين مَصلحةً في إعادة قراءة فِكر هذا الفيلسوف الفرنسي الذي تمكَّن، في حينه، من بِناء جِسرٍ بين التفكير الفلسفي والتفكير الاجتماعي، لا يزال حيويّاً وشغّالاً حتّى اليوم.

***

(*) أكاديمي وباحث من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *