مبدأ الأنا وفلسفة الحداثة في فكر فريدريك هيغل

Views: 279

وفيق غريزي

 

اوشاج متناقضة، وتيارات متضاربة متلاحمة، تموج بها الحياة في عصر فريدريك هيغل حتى لينصهر الفيلسوف في دوامتها في طفولته المبكرة، وكان الدهاء التاريخي الذي تحدث عنه هيغل قد أبى إلا أن يضع هذا العقل العظيم في اشد فترات التاريخ الحديث حرجًا وعنفًا وخصوبة، فيتقاسم القرنان الثامن عشر والتاسع عشر حياته مناصفة (١٧٧٠ – ١٨٣١) بحيث يعيش في مرحلة انتقال بين هذين القرنين بكل ما يحمله الانتقال من هدم وبناء وتضارب وتضاد. ومحور كتاب “فلسفة الحداثة في فكر هيغل” يتركز على النظر في شأن ظاهرة الحداثة توسيما لصفائها واستشكالا لاثارها. ويعرض مؤلف الكتاب الدكتور محمد الشيخ من خلال هذا العمل الى التحولات الدلالية العميقة التي مست جوهر الفلسفة في المانيا بداية القرن التاسع عشر والتي ادت الى انشاء قول فلسفي في الحداثة، كما يعرض الى تشكيل الوعي الحديث، بدءًا من بوادر بروزه الى غاية تمامه، والى بنية هذا الوعي وتعدد مناحيه، وقد سمح له النظر الى متن الفلسفة المثالية الالمانية عامة، وكان هيغل بخاصة، باستقصاء نظرية الحداثة، واستخلاص سماتها العامة التي عرفت بها، وبيان حدودها التي وقفت عندها.

متن الحداثة

مدار تصور هيغل للانسان هو النظر الى الانسان بما هو الكائن السالب، حقيقة الانسان الفعل، فكل انسان فاعل، وما كان وجود الانسان الحق بوجود السكون، وانما هو وجود الفعل كان، وما من فعل، أنى كان شانه، الا وهو فعل سلب ونفي، بيد انه ما كان شأن السلب ان يستمر بما لا ينتهي، فلا بد لفعل الانسان المتناهي ان يتوقف يوما، وهو لا يتوقف الا حين يحقق له الرضى. ويزعم المؤلف أن: “النظر الهيغلي في الانسان وفي الحداثة كان نظرا سياسيا وحقوقيا دائرا على الشغل والصراع، وان بدايته النظر في الانسان الراغب واسطة تقضي تاريخه من حيث أنه تاريخ شغل وصراع، وخاتمته الاقرار بتحقق الرضى للانسان في الازمنة الحديثة”، وبالتالي الايحاء باكتمال الحداثة، بل ونهاية التاريخ.

 ومنذ ابو الفلسفة الحديثة الفرنسي رينيه ديكارت اولت الحداثة العناية لمبدأ “الأنا” مقابل مبدأ “النحن” ولمبدأ ” الفرد” ضد مبدأ “الجماعة” ولمبدأ “الذات” ضد “الموضوع”، هذا ما كان ليعني ان “الأنا” ومقابلها الاقتصادي – الاجتماعي، الفرد افاد “الأنا” الفارغة المعاندة الممانعة، وانما هو افاد “الأنا” التي خبرت التاريخ وجرّبت الوعي الاجتماعي، فكانت فينومينولوجيا هيغل بهذا “حكاية فلسفية عن الأنا وترجمة موضوعية لها”.

د. محمد الشيخ

 

الحداثة الهيغلية

يعتبر المؤلف محمد الشيخ ان اول اصول النظر في رأي هيغل في الحداثة، النظر في تاريخه لها. ولما كان هيغل لم يعمل اسم الحداثة في نظره بتطور الروح البشرية، وانما هو اعمل “نعت” الحديث في وصفه العصر بقوله “العصور والأزمنة الحديثة”، ولما هو كذلك، ما نظر في الحداثة مجرّد هكذا، وانما هو نظر في “مسار الوعي” من ابسط ضروبه الى اشدها رقيا، فقد كان من اللازم علينا ان نصطنع لانفسنا منهجا من خلال النظر في ما نظر اليه هيغل يراعي هذا الأمر ان “هيغل ما وقف على الوعي الحديث واصفا مبينا فحسب، وانما هو عمد ايضا الى بيان بعض انحاء المعضلات التي صارت تعانيها الحداثة شأن الأمور المبدئية من انحراف بالعقلانية والذاتية والحرية عن مضامينهاالجوهرية الحقيقية الى عقلانية قصية وذاتية موغلة وحرية متطرفة”.

ومن المعلوم ان كتاب الفينومينولوجيا من اكثر الكتب الفلسفية التي شغلت المهتمين بفلسفة هيغل، لا من حيث مضامينها الغنية المتنوعة فحسب، وانما ايضا من حيث القصد من كتابتها واللعبة من تأليفها. ومن المعلوم ان البحث في تشكل الوعي الحديث يستدعي منا، اولا وقبل كل شيء، ان ينشئ قوله انشاء من فطان القول الهيغلي. ومهما يكن من أمر، كما يرى المؤلف، فان البحث في تشكيل الوعي الحديث، ضمن هذا الكتاب “فينومينولوجيا” هو بحث في تشكيل الوعي التاريخي، وبما ان هيغل يقرن التاريخ بما يسميه الروح، أي الوعي الذي جرّب تاريخ العالم وخبره، فيجعل من مسار ذاك تطور هذه، فلا سبيل اذا، الى الحديث عن الوعي التاريخي بعامة والوعي الحديث بخاصة إلا فًي التحدث عن تطور الروح، والوعي الحديث يعرض علينا ثلاث مراحل: الوعي الحسي، الادراك الحسي والفهم. المرحلة الأولى من مراحل الوعي في فلسفة هيغل هي مرحلة مباشرة، وذلك يعني ان الموضوع نفسه عبارة عن مباشرة، ثم ان العلاقة بين الذات والموضوع علاقة مباشرة. فالادراك الحسي يتضمن ادراك علاقات وكليات، لأني “انا” ادرك ادراكا حسيا هذا الشيء الملموس، ذلك لأن الوعي الحسي في المرحلة الثانية يبرز مناقضا داخليا على النحو التالي: انه بينما يستهدف ادراك هذا، والوعي به، نجد ان هذا الاخير الذي يدعى الوعي ان يعرفه يتحول الى شيء لامعنى له، ولا يمكن معرفته، وغير موجود. انه يزعم انه “هذا” او انه وحدة حسية معزولة ثالثة جديدة من مراحل الروح تكون اعلى من الادراك الحسي، ويتم هذا الانتقال على النحو التالي: لقد كان موضوع الادراك الحسي هو الفردي غير المتوسط، ثم تبين ان ذلك مستحيل، فارتفع الى الادراك الحسي ولم يعد يتخذ نفسه موضوعا مثل الفردي العادي، وانما هو مركب من الفردية والكلية.

مولد الحداثة

ثمة تغير ابعد، فعالم كليات ما فوق الحس الذي لا يزال في دائرة الفهم يعبر عن اللاذات واللاأنا، ويطرأ عليه تحول ويصبح الذات او الذاتية. فلقد ادرك الوعي بالعقل ان حقيقة عالم الحس هو كليات ما فوق الحس، وهو الآن يتخذ خطوة ابعد ويدرك ان عالم الكليات هذا ليس شيئا غير ذاته الخاصة، وانه في وعيه للعالم الخارجي، لا يعي في الحقيقة سوى نفسه.

وفي هذا السياق يؤكد المؤلف أن: “الوعي بالذات كان حتى الآن في صورته الأدنى، من حيث هو رغبة – الى صورته الأعلى – من حيث هو وعي شقي منفصم – مرورا بوعي المولى ووعي الرواقي ووعي الشكي، انما يهتم فقط بتحقيق حريته واستقلاله، وذلك على حساب عالمه او واقعه الفعلي الذي كان ينظر اليهما بما هما سلب لماهيته ونكران لحريته. لكن، يقول المؤلف: “ها هو يتحول الى عقل فيعلم انه لا صراع قائما بينه وبين الواقع، كما كان قد خيل اليه، وانما هو واثق من ذاته وواثق مما هو تحت اقدامه”. وهكذا فان الوعي بالذات يقول لسان حاله “أنا – أنا”، فههنا ايضا يثق العقل بنفسه الى حد قوله “أنا الواقع” هنا، اذن يبدو العقل مثاليا.

ان نشاة العقل الناظر في الاخلاق او العقل المشرع، هذا العقل عقل تغلب عليه الصورية ويعدم المضمونية، فهو ما يفتأ ينظر في عالم الاوامر الاخلاقية الشكلية ويجرد الواقع الاخلاقي الموضوعي من غناه وتنوعه وتعدد حالاته الاخلاقية وحيثياتها. ان تداول العمل بالابداع والنقد ينبه الوعي الفردي الى انه عمل الجميع ليس من شأنه ان يعلق بهذه الفردية او غيرها.

غلاف كتاب كتاب “فلسفة الحداثة في فكر هيغل”

 

عالم الاخلاق الجماعية

ان استنباط الاخلاق الاجتماعية من الاخلاقية على نحو ما ذكره هيغل، غامض الى اقصى حد، لكن معناه هو كما يلي: لقد وصلنا الآن الى الضمير من ناحية والى الخير من ناحية اخرى، لكن الخير فارغ ومجرد تماما. فهو بغير مضمون على الاطلاق. اما المؤلف محمد الشيخ فقد رأى اننا لو تركنا الوعي، في ما مضى، وقد اصبح العقل مشغولا بتقليب موضوعه من جهاته كلها، ملاحظة وتقنينا. فما كان يجده العقل الملاحظ، وكأنه عثر عليه هناك في الطبيعة ملقى وما من ملك سر صنعه او وضعه، اضحى هنا “خلقا”، اي اخلاقا اجتماعية – اسرة – دولة، ما وجدها العقل ملقاة هكذا امامه وتتماهى اسهم في صنعها ووضعها، فهي نبات من نبات اعماله ومن عندياته. هذا الفرد الذي كان يحث اقتناعه ورضاه في الطبع صار يجد بغيبته في الخلق، اي في الاسرة وفي المواطنة. الوعي بالذات هنا نظام كوني معترف به والفضيلة تجني ثمار تضحيتها بفرديتها.

يعتقد محمد الشيخ ان الروح هنا هي حياة الشعب اليوناني الاخلاقية. وليس المقصود هنا بالحياة الأخلاقية حياة الفرد، من حيث هو فرد، وانما المقصود بها حياة الشعب من حيث هو جماعة روحية او قوم امة، فالاخلاق هنا اخلاق الشان فيها انها موضوعية جماعية وليست هي اخلاق فردية ذاتية. وينقل الموًلف عن هيغل قوله: “لقد اختفى الاخلاقي للروح واندثر وحل شكل جديد للروح محله”.

واخيرا لابد من التنويه بان رهان الدكتور محمد الشيخ قد تمثل في هذا الكتاب، على انه ربما كان اجدادنا قد وجدوا امام الفكر الغربي – القويم، الفكر اليوناني، فما رهبوا لجلال قدره، وانما ما فتئوا يعربونه التعريب، ويعربونه التقريب، تارة يسعفهم الحظ فتأتي العبارة مشفة، وتارة يتآبى عليهم فتأتي العبارة مشوشة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *