سجلوا عندكم

عمانوئيل كانط… وفلسفته النقدية

Views: 83

وفيق غريزي

 

كانط هو واحد من المفكرين الذين تعود اليهم الانسانية، بين الحين والاخر، واثقة من انها لابد واجدة عندهم شهادة فكرية حية تجعل منهم دوما وابدًا مفكرين احياء في كل عصر من العصور. وعلى الرغم من ان الفلسفة الكانطية قد استهدفت للكثير من الحملات، إلا أن خصوبة هذه الفلسفة قد عملت على تجميع المفكرين المتأخرين حول كانط وكأنما هو مركز إشعاع فكري تتلاقى عنده عقول الفلاسفة المختلفين، ويتحقق عن طريقه ضرب من الوصال بين الاذهان في الماضي والحاضر معا.

مراحل حياة كانط

ولد كانط في ٢٢ نيسان عام ١٧٢٤ في مدينة كونغبرغ، الواقعة على الحدود الشمالية -الشرقية لالمانيا، من ابوين فقيرين، كان ابوه يعمل سرّاجًا، وأمه من اسرة متواضعة، ينتمي الوالدان الى شيعة بروتستانية تدعى الشيعة التقوية، وتستمسك بالعقيدة اللوثرية الاساسية القائلة ان الايمان يبرر المؤمن، وترى ان الدين منحاه الارادة لا العقل، وتعلي من شأن القلب والحياة الباطنية.

في الثامنة من عمره دخل احدى المدارس التابعة للشيعة التقوية، واتم برامجها في السادسة عشرة. وكان أهم ما افاده فيها امران: اعجابا باللغة اللاتينية، وبالرواقية الرومانية وما تتحلى به من نبل وشجاعة. وبعد المدرسة اتجه الى كلية الفلسفة بجامعة مدينته بقصد دراسة اللاهوت ليصير قسيسا ولكنه عدل عن هذا القصد في ما بعد. تتلمذ في كلية الرياضيات والفلسفة عام ١٧٤٦ وتقدم برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت وليبنتز في مسألة قياس قوّة الجسم المتحرك. توفي والده، فرأى ان يكسب رزقه بالتعليم في اسرة غنية، وزاول هذا العمل في ثلاث اسر على التوالي عند اهل منطقته، قضى في ذلك تسع سنين ولم ينقطع خلالها عن التحصيل والتفكير، بعد ذلك حصل على درجتين جامعيتين. حتى ذلك الوقت كان تحت تأثير “فولف” و”نيوتن” الميتافيزيقي والعالم الطبيعي، ثم جاءت المرحلة الثانية من ١٧٦٠الى ١٧٧٠، شرع كانط فيها ينقد الفلسفة العقلية في النظريات والخلقيات قبل ان يستبين مذهبه، وابرز الكتب التي كتبها كانط هي: “نقد العقل المحض” و”نقد العقل العملي” و”نقد ملكة الحكم” و”ميتافيزيقا الاخلاق”، ولقد توفي كانط العام ١٨٠٤، عازبا.

 

المعرفة عند كانط

المعرفة تتألف من عنصرين: مادة وصورة، بحيث لا توجد المادة في الفكر من دون صورة، وبحيث لا يكون للصورة في نفسها أي معنى لأن وظيفتها الاتحاد بالمادة. المادة موضوع الحدس الحسي، وليس لنا من الحدس سواه، والصورة رابطة في الفكر تسمح بتركيب حكم كلي ضروري لأنها هي اولية. هناك اذا مادة للفكر ووجود خارجي، وكانط لا يتابع التصورية المطلقة في انكار هذا الوجود او التشكك فيه، وان يكن مذهبه يمنع من القول به. هنا نجد كانط يذهب الى ما ذهب اليه ارسطو، بأن الكون هو الهيولى والصورة، ويحصر المعرفة في ما يأخذه من الخارج وما يضيف اليه الفكر، بمعنى آخر ان المعرفة هي تركيب ما تراه وتحسبه الحواس مع ما يتخيله الفكر. رأينا ان هناك حجة، في حين ان المصدر الثاني هو الذي يسمح لنا بتعقل تلك الموضوعات. ولكن كانط حتى حين يتحدث عن الحساسية، فانه يفرّق بين صورة الحدوث الحسية ومادتها، على اعتبار ان المادة هي موضوع الادراك الحسي، او هي ما يقابل الاحساس في صميم الظاهرة، في حين ان “الصورة” هي المبدأ الباطن في الذات العارفة، والذي يسمح لها بتنظيم مضمون الظاهرة، وفقا لبعض المعلومات الخاصة. ومعنى هذا ان المادة تمثل كل ما يصدر عن الموضوع، وما هو بطبيعته متغير حادث، في حين ان الصورة تمثل ما يصدر عن الذات، وما هو بطبيعته كلي ضروري… فالمعطيات الحسية هي امدادات حقيقية ترد الينا من العالم الواقعي، وليست مجرد اوهام ذاتية من نسج العقل، كما وقع في ظن اصحاب المثالية الذاتية. ولكن ليست مهمة نقد المعرفة سوى العمل على تبين ما يرد الينا من الخارج، وما نضفيه نحن على المعطيات الحسية، عن طريق ما لدينا من صور أولية سابقة على التجربة. وبالنسبة الى المكان والزمان باعتبارهما صورتي الحساسية، فإن كانط يرى ان المكان والزمان هما صورتان اوليتان تخلعهما الحساسية على شتى المعطيات الحية التي ترد اليها من الخارج، دون ان يكون لهما ادنى وجود واقعي في العالم الخارجي، باعتبارهما موضوعين قائمين بذاتهما.

ان الزمان ليس شيئا موضوعيا واقعيا، كما أنه ليس جوهرا او عرضا او رابطة، بل هو الشرط الذاتي الذي يجعل في وسع العقل البشري ان يحقق ضربا من التآزر بين جميع الموضوعات الحسية، وفقا لقانون محدد. فالزمان اذا حدث صرف. وهكذا الحال ايضا بالنسبة الى المكان، إنما هو صورة تخطيطية ذاتية تصورية، تنبع وفقا لقانون ثابت من طبيعة الذهن، وتجعل في الامكان تحقيق الترابط او التآزر بين جميع الموضوعات الحسية الخارجية. ولكن كانط لا يقتصر على القول مع ليبنتز، بأن المكان والزمان مفهومان مجردان للامتداد والديمومة الحسيين، بل هو يذهب الى أن المكان والزمان هما حدسان اوليان او صورتان خالصتان للحساسية،تنطبقان على مادة الخبرة، فتولدان تمثل الامتداد والديمومة الحسيين.

 

من المعرفة الى الوجود عند كانط

يذهب مؤرخو الفلسفة الى انه اذا كانت مشكلة الوجود هي الموضوع الرئيسي الذي اثار اهتمام الفلاسفة القدماء، فان مشكلة المعرفة هي المحور الاساسي الذي دار حوله تفكير الفلاسفة المحدثين. وعلى حين كان الاقدمون ينتقلون من الوجود الى المعرفة، اصبح المحدثون ينتقلون المعرفة الى الوجود. ولكن، هل يمكن ان يكون ثمة انتقال من العرفة الى الوجود عند كانط ؟ بعد ان اعلن بصراحة استحالة تجاوز العقل لعالم الظواهر، ليست الميتافيزيقا في عرف اصحابها، انما هي ادراك موضوعات خارجة عن نطاق التجربة، فكيف يمكن ان نسلم بامكان قيام علم يكون موضوعه هو “الوجود من حيث هو موجود”، في حين ان كل هدف النقد الكانطي قد انحصر في بيان استحالة الانتقال من عالم “الظواهر” الى عالم “الاشياء في ذاتها”.

ان كانط صاحب الفلسفة النقدية قد سلم منذ البداية بانه ليس لدينا “أي حدس عقلي” نستطيع عن طريقه ان نرقى الى مستوى تأمل “الموضوعات المطلقة” او الحقيقة اللامشروطة، او الجوهر بالذات، ومن هنا فانه لا موضع للشك في ان الفيلسوف كانط قد “اراد ان يهدم الميتافيزيقا التي ظهرت منذ عهد افلاطون وارسطو حتى عهد ليبنتز وفولف” فاثارت بين اصحاب المدارس المختلفة خلافات عقيمة ومناقشات غير مجدية… نجد ان عجز الميتافيزيقا عن انتزاع اجماع المفكرين شاهد على قصور العقل البشري عن معرفة “الشيء في ذاته” او “المطلق” او “اللامتناهي”.

ولقد قرر كانط ان لديه، عن طريق التجربة الخارجية، شعورا بوجود الاجسام في المكان، كما ان لديه عن طريق التجربة الباطنية شعورا بوجود نفسه في الزمان، دون ان يكون في وسعه ان يعرف هذه النفس، اللهم الا باعتبارها موضوعا لاحساس باطني يستند الى بعض الظواهر التي تكون حالة داخلية، بينما تظل ماهية النفس في ذاتها، باعتبارها عامة لكل هذه الظواهر،شيئا مجهولا لديه تماما.

 

الاخلاق عند كانط

تقوم الاخلاق عند كانط على اساس فكرة الواجب، وعلى فكرة الأمر المطلق. والأمر نوعان: مشروط ومطلق. اما المشروط فيقوم على اساس المبدا القائل “من يتبع الغاية يبتغي الوسيلة”. (midwaymoving.com) وهو مبدأ تحليلي، اذ يمكن استنباط الوسيلة من الغاية بطريقة قبلية. وحسب رأي الدكتور عبد الرحمن بدوي، فمن يبتغي المعرفة عليه بالتعلم، ومن يبتغي الثروة عليه بالتجارة والاستثمار، ومن يبتغي السلطة فعليه الخوض في السياسة، فالتعلم وسيلة الى غاية هي المعرفة، والتجارة والاستثمار وسيلتان الى غاية هي الثروة، والخوض في السياسة وسيلة الى غاية هي السلطة.

اما المطلق فيقوم على الرابط المباشر بين الارادة وبين القانون دون شرط او مقدمات ولا نتائج. ونحن هنا امام مبدأ تركيبي قبلي، اذ من المستحيل استنباطه من أي مبدأ متميز، “الأمر المطلق يقرر ان الفعل يكون خيرًا من الناحية الاخلاقية لانه يجب ايوائه، ولا يقرر ان الفعل يجب ايواءه لانه خير من الناحية الاخلاقية، ومعنى هذا ان الواجب مفروضا على الارادة الانسانية، وهو قانون العقل المحض. لانه قبلي وكلي”.

وعلينا ان نسلم بفكرة الواجب تسليما مطلقا من دون ان نحاول استنباطه من مبدأ سابق له. ومن فكرة الواجب هذه يستنبط كانط ما يسميه مصادرات العقل العملي، انها مصادرات او فروض لانها لا تقبل البرهنة العقلية كما قرر ذلك “نقد العقل المحض” وانما هي موضوعات للاعتقاد فحسب، اي للايمان غير العقلي. وهذه المصادرات ثلاث: الحرية وتنبع من ضرورة اطاعة الواجب. ثم خلود النفس ومصدره ان الاخلاص التام للواجب لا يمكن تحقيقه في هذه الدنيا، ولهذا نميل الى الاعتقاد في امكان تزايد الكمال الى غير نهاية، وهو امر لا يتصور الا بافتراض ان النفس خالدة. لخلود النفس أمر يقتضيه العقل العملي، وان كان لم يستطع العقل النظري اثباته. والمصدر الثالث وجود الله: والاعتقاد بوجود الله يصدر عن ايقاننا بان السعادة يجب ان تصحب الفضيلة، وبان هناك السعادة مصاحبةً للاخلاقية. ويميز كانط بين حال النفس وبين النية، فان حال النفس تقع في منزلة اعمق من النية، حيث ان النية لا تكون بادئ الأمر الا تحت تأثير التجربة العابرة التي للشخص عن الحياة، وعلى الاخلاق ان تقبل التطبيق على كل موجود عاقل بوجه عام. وعلينا ان نضع الخير لا من اجل غاية او غرض، بل لذاته، لان الخير الاخلاقي خير في ذاته..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *