هل انتهى عِلمُ الاقتصاد؟

Views: 234

د.عبد العظيم حنفي*

 

عرفَ الرأيُ العامّ العربيّ الكاتب الأميركيّ من أصل هنديّ فريد زكريا في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الإرهابيّة العام 2001 عبر سؤاله “لماذا يكرهوننا؟”، الذي كان عنوان مقالته التي نُشرت في مجلّة “نيوزويك” الأميركيّة على الصفحة الرئيسة لعدد تشرين الأوّل (أكتوبر) من العام 2001. وصنَّفته مجلّة “فورين بوليسي” في العام 2010 من ضمن أهمّ مائة مفكِّر في العالَم. وعلى أثر ذلك التكريم، كَتَبَ فريد زكريا مقالاً في “الفورين بوليسي” بعنوان: “نهاية عِلم الاقتصاد” قال فيه، إنّه خلال العقود التي تَلَت نهاية الحرب الباردة، تمتَّع الاقتصاد بنَوعٍ من الهَيمنة الفكريّة على مُجريات السياسات العالَميّة.

أصبح عِلمُ الاقتصاد الأوّل بين العلوم الاجتماعيّة، وهَيْمَنَ كذلك على مُعظم جداول أعمال السياسة، وتمّ السعي وراء الاقتصاديّين من قِبَلِ الشركات والحكومات والمُجتمع ككلّ، للاطّلاع على نظرتهم ورؤيتهم إلى كلّ مجال من مجالات الحياة. كما باتت كُتب الاقتصاد الأكثر مَبيعاً. أمّا زكريّا، فقد اعتبر أنّ الهَيمنة هذه انتهت، ولاسيّما أنّ عدداً قليلاً من الاقتصاديّين استشرف الأزمة الماليّة الشهيرة في العام 2008، فضلاً عن إغفالهم للإخفاقات الكارثيّة في اقتصاد السوق. ولم يكُن عالِم الاقتصاد اليساري الشخصَ الوحيد الذي أدلى بهذه المُلاحظة في تشرين الأوّل (أكتوبر) من العام 2008. فعلى الجانب الآخر، اعترفَ مُحافِظ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جرينسبان بأنّ “الصرح الفكريّ كلّه قد انهارَ في صيف العام 2000”. وخلص بعد توجيه الانتقادات اللّاذعة إلى الاقتصاد السلوكي، إلى أنّ الاقتصاد قد أنزلق إلى حقيقة أنّ العالَم فوضوي. وقال “هيربرت سيمو”، أحد العُلماء القلائل الذين برعوا في كلا الاقتصادين العامّ والسلوكي، إنّ “العلوم الاجتماعيّة تَختلف عن العلوم الصعبة، لأنّ موضوعات دراستنا عبارة عن تفكُّر(..) وفيما نحن بصدد محاولة فهْم الصورة التي سيكون عليها العالَم في العقود الثلاثة المُقبلة، سنحتاج بشدّة إلى الاقتصاد ولكنْ أيضاً إلى العلوم السياسيّة وعِلم الاجتماع وعِلم النَّفس، وربّما إلى الأدب والفلسفة أيضاً؛ إذ إنّه “من عود البشريّة الأعوج لم يُصنع شيءٌ مُستقيم على الإطلاق” على حدّ تعبير إيمانويل كانط”.

أَخْفَقَ.. لم يُخْفِق

وإذ شكَّك فريد زكريّا في مقاله بجدوى عِلم الاقتصاد وخُبرائه، ردَّ عليه الخبير الاقتصادي “لورنس سامرز”، الرئيس السابق لجامعة هارفارد ووزير الخزانة من 1999 إلى 2001، والذي كان أيضاً مُستشاراً اقتصاديّاً سابقاً للرئيس أوباما بمقالٍ في صحيفة “الواشنطن بوست” قال فيه: “يتجاهل فريد أجزاءً مُهمّة في التفكير الاقتصادي، ويَعرض حِججاً واهية، ولا يُقدِّم بديلاً مُعتبَراً للمَناهج الاقتصاديّة في السياسة الحكوميّة”.

وردّاً على إخفاق عِلم الاقتصاد في التنبّؤ بالأزمة الماليّة لعام 2008 قال سامرز “إنّ التراجُع المُفاجئ في الأسواق لا يُمكن التنبّؤ به، لأنّ التكهُّن بالأزمة يعني حدوثها بالفعل مع إقبال الجميع على البَيع. وعلى الرّغم من ذلك، ساورَ القلقُ عدداً من خبراء الاقتصاد، منهم جانيت يلين ورغورام راجان وروبرت شيلر وسامرز (في الأعوام 2006 و2007 و2008) بشأن مَخاطِر النّظام المالي والاقتصاد خلال السنوات والشهور التي سبقت الأزمة الماليّة العالَميّة”. وخلص سامرز إلى أنّه “لا يُمكن لعِلم الاقتصاد أن يَفقدَ دَورَهُ ما لم يكُن هناك بديل”، مُعتبراً أنّ هناك نماذج بحثيّة من علوم اجتماعيّة أخرى، كان لها تأثير مُهمّ على السياسة العامّة، لكنّها ليست كافية على الإطلاق للإشارة إلى أنّ عِلم الاقتصاد سيُنحَّى جانباً.

ولا شكّ أنّ موضوع عِلم الاقتصاد يتأثَّر أيضاً بمَعارك سياسيّة وإيديولوجيّة. فقد اتّجَهَ البعض مثلاً إلى أنّ ازدراء العلوم الاجتماعيّة، يرجع، على الأرجح، إلى اتّهامها بأنّها تخفي تحيّزاتٍ يساريّة. أمّا الإطراء لعِلم الاقتصاد، فينبع من نظرة نمطيّة سائدة بشأن هذا العِلم، تعتبره تخصُّصاً يميل أكثر ناحية اليمين. ويبدو أنّ كثيرين يشاركون في الاعتقاد والاقتناع بتلك الصورة النمطيّة. فعلى سبيل المثال، استجاب الصحافي “إيرين غلوريا ريان”، الذي يكتب في موقع “ديلي بيست” الإخباري، لما كَتبه “بن ساس” (السيناتور الجمهوري عن ولاية نبراسكا) في تغريدةٍ له قال فيها إنّ “الاقتصاد هو عِلم تنجيم بالنسبة إلى الرجال”، وهي تغريدة أُعيد تغريدها أكثر من 5000 مرّة بعد ذلك، على تويتر. وعبارته هذه (بالنسبة إلى الرجال)، يبدو أنّه أستند فيها إلى أنّ نسبة النساء من بين الاقتصاديّين الأميركيّين المؤهَّلين، لا تزيد على 13 % تقريباً، بحيث لم تحصل سوى امرأة واحدة فقط، هي الأستاذة الراحلة “إليانور أوستروم” على جائزة نوبل في هذا العِلم.

كما أنّ تخصُّص الاقتصاد في المرحلة الجامعيّة يُهيمِن عليه أيضاً الذكور بشكل واضح. وفي الحقل الأكاديمي، عادةً ما تكون إسهامات النساء في البحوث المُشترَكة أقلّ من إسهامات الرجال. كما أنّ الأوراق البحثيّة التي تُقدِّمها الأستاذات الجامعيّات، تَستغرِق وقتاً أطول من الوقت الذي تستغرقه أوراق الرجال لكي تحظى بفُرصة للمُراجَعة من جانب أقرانهم، بحيث يُمكن القول إنّ لدى الاقتصاد بالتأكيد مشكلة تتعلّق بالتحيُّز الجندري.

وقال “جيمس كواك” الأستاذ في جامعة كونيكتيكت، إنّه “على مدى عقود، قام تحالُفٌ فضفاضٌ بين الباحثين في مجال البحوث الفكريّة والمُستشارين السياسيّين والخُبراء، فضلاً عن عددٍ قليل من الأكاديميّين المدفوعين بدوافع إيديولوجيّة، بنشْر نسخة شعبيّة من النظريّة الاقتصاديّة التي لا يوجد فيها سوى جوانب شبه ضئيلة بما يفكّر فيه ويعتقده عُلماء الاقتصاد في الأقسام الأكاديميّة المختصّة، حيث جرى من خلالها الترويج لمقولات تزعم أنّ الأسواق تعمل دائماً بشكلٍ جيّد، وأنّ الضرائب والتنظيم أمران سيّئان على الدوام، وأنّ عدم المُساواة لا يَهمّ، وأنّ الاحتكار لا يُمثِّل تهديداً…إلخ. وهذه الصورة النمطيّة روَّجها التحالُف المُؤدلَج المُشار إليه في مجال الاقتصاد”.

وفي العام 1984 تنبَّأ جورج ستيغلر، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، بأنّ الاقتصاد في طريقه إلى أن يُصبح مَلِكَ العلوم الاجتماعيّة، ناعِتاً هذا العِلم بـ “الملوكي”، وبأنّه يُمهِّد الطريق ويشقّه بين الأدغال الأكاديميّة للعلوم الاجتماعيّة الأخرى. وخلال الربع الأخير من القرن الماضي، أصبح واضحاً أنّ أمام عِلم الاقتصاد الكثير ليتعلَّمه من العلوم الأخرى بالقدر نفسه الذي عليه أن يقوم هو بتعليمها؛ واليوم يَستخدم مجالُ الماليّة السلوكيّة رؤىً مُتبصّرة مُستمدَّة من عِلم النَّفس وعِلم الاجتماع لفهْم الأسواق الماليّة. فقد أدَّت فضائح الشركات والأزمات الماليّة التي تسبَّب فيها الجشعُ إلى الدعوة لمزْج عِلم الأخلاق في عِلم الاقتصاد. فقد ذهبت جوائز نوبل في الاقتصاد خلال العقد الماضي إلى عالِم النَّفس “دانييل كانيمان” وإلى عالِمة السياسة “إلينور أوستروم”. وهذه التطوّرات أزعجت جورج ستيغلر. ولكنّها لم تُزعج سميّه “جورج أكرلوف”، الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد عن العام 2001، والذي يقول إنّ حلمه قد تمثَّل منذ زمن في ظهور عِلم اقتصاد كلّي ترسَّخت أقدامه في “لمدى الكامل للأعمال والمَشاعر الإنسانيّة: العدالة والثقة والجشع والهويّة والمُماطَلة”. ويذهب أكرلوف في سؤاله “لماذا تنشأ البطالة؟”، الذي طَرحه في بحثٍ مُشتركٍ أعدَّه مع الخبيرة الاقتصاديّة الشهيرة “جانيت يلين” (وهي زوجته وكانت رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي) إلى أنّ فكرة العدالة تضطَّلع بدَورٍ رئيس في هذا الصدد. واعتمدَ كلٌّ من أكرلوف ويلين على عِلم الاجتماع لإثراء عمليّة توصيف كيفيّة إتمام آليّة التبادُل في الأسواق، بما في ذلك سوق العمل. وفي النظريّة الاقتصاديّة، فإنّ العرض والطلب هُما اللّذان يُحدِّدان السعر في عمليّة التبادُل. فاذا جاء بائعو فواكة أكثر من المُشترين الى سوق المُزارعين في ذلك اليوم، فإنّ السعر الذي ستُباع به الفواكة سينخفض. وإذا هبَّت عاصفة ثلجيّة غير مُتوقَّعة، فإنّ متجراً للمعدّات – حسبما تقول النظريّة الاقتصاديّة – سيرفع سعر الجواريف، ولديه المُبرِّر للقيام بذلك انعكاساً لندرتها المُفاجِئة. لكنْ، وكما يقول أكرلوف، فإنّ “البشر لا يفكّرون دوماً على هذا النحو”. فقد بيَّنت المسوح الاستقصائيّة أنّ الناس يعتبرون قيام مَتاجِر المعدّات برفْع الأسعار في خضمّ عاصفة ثلجيّة، هو أمر غير عادل.

وكما يقول سامرز، فإنّه ممّا لا شكّ فيه “أنّ إدارة العَولَمة، وتعزيز الطبقة الوسطى في عصر الذكاء الاصطناعي، وتحفيز حماية الكوكب.. هي من التحدّيات المركزيّة في عصرنا. ويصعب أن نرى أساساً آخر لاتّخاذ القرارات بشأن هذه المجالات سوى التحليل الاقتصادي”.

***

(*) باحث من مصر

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *