مارتن هايدغر… ونقد العقل الميتافيزيقي

Views: 474

وفيق غريزي

نحتاج نحن الى الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر لكي نتعلم منه متعة القراءة ولذة التفكير وعظمة الاسئلة المخلصة لمبدأ التقويض والمتبنية لاختلاف رؤية ورسالة، وهي سمات لم يألفها العقل العربي في تعامله مع تراثه، فهو غير قادر على التفكير الحر وعلى اتباع طريقة طرح الاسئلة المخلصة وعلى الخروج من هواجس البداهة ومن الاقامة في متون كرستها ميتافيزيقا تقليدية واهية. ومن البديهي ان قراءة التراث تقوم على تفكيك ابنيته والنفاذ الى قضاياه ومنطلقاته لتحريرها من القداسة الميتافيزيقية والنظر اليه برؤية عقلية ونقدية جديدة، فالتراث لا يتغير انما رؤية الانسان عليها ان تتغير في سياق تاريخي فاعل يجعل للعرب وجودا في العالم. 

نقد العقل الميتافيزيقي يعلمنا اسلوبا جديدا في التفكير، وفي طرح الاسئلة حول التراث وان لم يكن مارتن هايدغر هو الفيلسوف الوحيد الذي فكر في التراث الغربي ودعا الى تجاوز معضلاته الميتافيزيقية، فان استدعاءه له مبرراته الفكرية والمنهجية، فهو الوحيد بعد سلفه الفيلسوف فريدريك نيتشه الذي اتى على كل تاريخ الغرب بالنقد والتقويض والمجاوزة.

 الدكتور علي الحبيب الفريوي تناول فلسفة هايدغر بالدراسة والتحليل في كتابه “مارتن هايدغر.. نقد العقل الميتافيزيقي”، الذي نتطرّق إليه في القراءة الآتية:

تحولات الوجود

يعلمنا الباحث الفريوي ان “الفلسفة انتصرت لثقافة براغماتية، عولمت العالم مقاما لنظام واحد، طمس معالم الاختلاف الثقافي ليصبح الفكر الغربي في ظل العولمة السياسية والثقافية مطالبا بتسويغ رؤية جديدة لعالم اضحى في حاجة الى معنى، والى استراتيجية ترسم خرائطه من جديد، وتفسح في المجال لمجاوزة تعثر خطابه وغموض موقفه من سؤال وجوده وازمنة راهنة. يعترف هايدغر انه لا يدعو الى تصنيف الفلسفة والفلاسفة، ولا الى رفع شأن فلسفة على اخرى، فالفكر الانساني مجبول على الاختلاف وعلى الوقوف معه او ضده في الوقت ذاته، تأكيدا على التنوع وحصولا للجدة، وفي هذا الشأن يقول الباحث الفريوي: “تعودنا مع مارتن ان لا نفكر في ما فكر فيه، وان ننبش في المتن المسكوت عنه او في ما صمتت عن قوله مدونة الفلسفة، ففي الفراغ يقطن من ينقذ، ومن العتمة ينبلج النور، ومن الغموض يولد الوضوح، فتتوسع امام الفكر امكانيات النظر بعين الى مكائد جرجرت الخطاب اليومي”. 

مما لا شك فيه ان هايدغر حضر في متون الفلسفة المعاصرة، لأنه الاقرب الى راهنها، حمل الصورة الاصدق لعصر هو الأعتى برغم انشداده الى العصور الاغريقية. إن الانصات الى الاغريق وتكلم لغتهم لا ينفي راهنية ما تطرحه الانطولوجية الفينومينولوجية، ولا ينفي التصاقها باليومي، ويحمله راهنا يتجاوب مع حاجة اللا-راهن. 

لقد حفلت فلسفة هايدغر بشبكة من المفاهيم لم ينازعه في خلقها احد وهي مزيّة رفعته الى صف الفلاسفة الكبار. ترحّل هايدغر مع المفاهيم، واحتفل باللغة مقاما للكشف، كانت موضوع نظره وصقل انشغاله بمسألة الوجود، وإن عظم هايدغر من شأنها، ورفع اللغة الاغريقية والالمانية مقاما عاليا، فان عدم اعتماد الباحث الفريوي عليها لانجاز بحثه هذا، واشتغاله على النص الفرنسي يمثل عائقا ابستمولوجيا حمّله مسوولية غموض فهمه لبعض المفاهيم الهايدغرية.

الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر

 

اشكالية الميتافيزيقا الغربية 

يشير الباحث الى ان هايدغر اظهر منذ كتابه “الوجود والزمان”، تجديدا فلسفيا لا يقف عند استعادة تاريخ الميتافيزيقا، تذكيرا بخطيئة افلاطون، وانما استكمالات دأب عليها بعض الفلاسفة منذ كانط وهيغل ونيتشه، في ممارسة ضرب من الانهاء والتصالح مع الميتافيزيقا. يطرح هايدغر في مفتتح كتابه “سقوط الوجود في النسيان”، مثلث هذه الاطروحة موضع استشكال حددت الرهانات الهايدغرية فهما وموقفا خاصا يتفرد بذاته، دون ان يطمس معالم اضاءت المفهوم منذ ارسطو، ينبغي ان نسلك ثنايا هايدغر، ونتبعه في السؤال الذي طرحه وحده، وذلك من اجل النفاذ الى الفكر الصارم والوقوف بلا تحفظ الى جانب ذلك التأويل، حسب ما يوضح الفيلسوف الفرنسي دريدا.

يبدو ان النظر في مشكل الميتافيزيقا استشكال قديم، كمايظهر البحث في تحولات الوجود، أمر داًب على طرحه كل الفلاسفة. ان تاريخ الفلسفة منذ افلاطون تحول الى ميتافيزيقا فاصبح كله افلاطونيا حسب قول هايدغر. يبدو ان ما يطرحه هايدغر هو طرح منفرد، صعب على فلاسفة عًصره الاتيان به. اولا، لأن هايدغر لم يكن مؤرخا للميتافيزيقا. ثانيا، لأنه اعتصر تاريخ الميتافيزيقا في لحظات تتعاند دون تراتب وتتعاهد على اظهار الوجود زمانا صائرا دون مد او جزر. ثالثا، لأن هايدغر بات بعد نيتشه لسان عصر لم يعد فيه الاحتماء بالتاريخ امرا محمودا، ولم يعد الانسان فيه موضوعا يحرج الميتافيزيقا، ويناوىء خطابها. ولم يكن هايدغر اكثر المتفلسفة تبرؤا من الميتافيزيقا لكونها لم نعد معها نفكر وانما اصبحنا ننشغل بالفلسفة. 

ووفق رأي الباحث الفريوي، فان الفكر الهايدغري يأخذ منعرجا بعد انفصاله “الهوسرالية” نسبة الى الفيلسوف هوسرل كحقل هيمنت الميتافيزيقا فيه، وطغت عليه نزعة ذاتية متعالية لم يكن تميز بين مطلب العالم المعيش ومطلب الوجود. ويتحدث هايدغر في كتابه “مدخل الى الميتافيزيقا” عن الانحطاط الروحي للأرض كما يتمظهر في التقنية: “تحول الوجود المحسوب للفيزياء الحديثة الى نمط يحاول اختزال العالم في الموضوعية الرياضية، حيث يفكر في الوجود ابتداء من المشروع التقني الذي ينسى ان الارض هي شيء آخر”. الارض بما هي ذلك الحضور والوطن الذي مثّل مقاما يستدعي الانسان للاقامة اقامة مرحة تمكنه من سؤال وجوده الذي تحوّل بفعل النسيان التقني الى غياب منع انكشافه، وضاعف من احتجابه، لينفي شكلا آخر من اشكال الحقيقة. ويعتقد هايدغر ان المحاولة النيتشوية تنضاف الى كل المناظرات السابقة، لتأكيد زيف الادعاء وبطلان الاعتقاد في نهاية الميتافيزيقا، ويؤكد الباحث ان نيتشه لم يتجاوز الاساس الميتافيزيقي. ان الحديث عن نهاية فعلية للميتافيزيقا مطلب ميتافيزيقي، أمر مؤجل الى نظر دقيق يضعها على الدوام موضع مجاوزة لبدء الانفتاح على بدء آخر دون نفيها او اقتلاعها من جذورها، “ان كانت هي سر الوجود وبنيته الاساسية”…

الوجود في العالم

يبني هايدغر طموحه الفكري في “الوجود والزمان” على تقويض الانطولوجيا التقليدية، وعلى التسويغ لخيط هاد يصله بما اسقطه في النسيان، وفي هذا السياق يقول هايدغر إن: “أي انطولوجيا مهما بلغت قوة المقولات في تصرفها وتماسكها، تبقى في الاساس عمياء وتفسد مقصدها الاخص، طالما لم تبدأ بتوضيح معنى الوجود بشكل كاف، ولم تفهم هذا التوضيح بوصفه مهمتها الاساسية”. اما الباحث فيشير الى ان الأنسب ان نفكر من داخل الميتافيزيقا، حتى نتقن لعبة الخروج عنها، لا يتحقق هذا الامكان الممكن إلا اذا فكرنا مجددا وبعمق في وجود الانسان. رسم هايدغر لهذه الغاية تخطيطة متماسكة حملها “الوجود والزمان” انقطاعا لا يتجاوز مع الانطولوجيات القديمة، انما يرسم معالم انطولوجيا اساسية، تحتضن سؤال معنى الوجود، اهتداء بموجود هاد يحمل وعي وجوده، مثل الانسان موضوع الرهان الانطولوجي، وحاملا لما سماه هايدغر “الموجد”. ويعود هايدغر الى الانسان، او الى الموجد بعد ان اسقطت الميتافيزيقا وجوده واحاطته بهالة من التجريد العقلي، رفعته حيوانا عاقلا، يتدرج نحو مغادرتها لجهة انطولوجيا اساسية تخص الموجد مطلبا على جهة ان هدي يهتدي الى بلورة سؤال الوجود – حملت الميتافيزيقا الانسان حملا ثقيلا يتعارض وطبيعته المتناهية، يقول هايدغر: “إن العالم الحقيقي هو العالم الفوق حسي، ذلك العالم الذي يتخذه موضعا في الاعالي ممثلا “مقياس الكل شيء” على حين ان العالم الحسي باعتباره ظاهرا يتخذ موضعه في الجهات الدنيا”. الوجود في العالم يعفي الانسان من التصور التأملي ومن السكن في عالى مفارق، فاستعمال ما هو متناول اليد من ادوات واشياء يمنحه الظهور الاصلي في العالم، حيث تفقد الموجودات معناها ان لم تكن في علاقة مباشرة مع الموجد، كل معنى يتحدد بالاستعمال الممكن وبالهدف، “يسعى الموجد الى تحقيقه، لا يمثل العالم هذه الحزمة من الاشياء، هي من يمثل امكان كل معنى واساس وتسخير”.

البنية الانطولوجية للموجد 

تبحث الانطولوجيا الاساسية في الامكانات الخاصة بـ “الموجد” قصد انجاح امكانية طرح سؤال معنى الوجود، فمن فهم بنيته الانطولوجية، ينتقل هايدغر الى تكثيف الاسئلة، حول انقشاع حقيقة الوجود، يستدعي المحاولة الكانطية (نسبة الى كانط) بوصفها لحظة مهمة في تاريخ الفلسفة، وبوصفها كذلك أول من ربطت المتافيزيقا بنقد انطولوجية الانسان الراهن، كل ذلك قصد التأكيد على امكانية الحصول الانطولوجي، لما يتجه النقد الى انطولوجيا الانسان وادراك بنيته الخاصة، يقول الباحث الفريوي:  “إن كانط نظر الى الانسان افقا للتأسيس الميتافيزيقي، فكان اول فيلسوف يوجِّه نظرنا الى محدوديته وتناهيه من جهة، وتناهي معارفه من جهة ثانية”. والى انه الموجود المتناهي الذي يسمح بجعل فهم الوجود ممكنا. ولفهم الجد من منظار الفريوي واستذكار اختلافه الانطولوجي، يحلل هايدغر بنية الانسان من بدايتها الأولى بعيدا عن اوهام الميتافيزيقا، ومنجزات الحداثة، ماثلت الميتافيزيقا بين ماهية الانسان ووجوده، واسقطته منذ البدء الأول. 

“الافلاطون في النسيان”

ليس الانسان ماهية، انما وجوده هو شرط ماهيته، لما كان البحث عن حقيقة الانسان امرا ضروريا، كان الموجد بالنسبة الى هايدغر، الموجود الوحيد، السند، لتأسيس انطولوجيا اساسية. فالتحليل الانطولوجي للوجود – في – العالم يستحق اسم انطولوجيا اساسية لانه كما يقول مارتن هايدغر “الخيط الهادي الى تناول اشكالية الوجود بوصفه حقيقة قبلية ويقينية”. الموجود هو الانسان، وهو الموجود المدرك لوجوده، والحقيقة المتناهية المتجلية في وجوده، ان حسب رأي هايدغر “كل مرة الموجود، الذي هو انا، انه ذاك الذي يبقى هو ذاته، ويبقى على علاقة مع هذه التعددية عبر التنوعات في السلوك وفي الاحداث المعاشة”. ولم يخف هذا الفيلسوف رفضه للمنزع الانثربولوجي الذي خص به هوسرل “الوجود والزمان”. لقد سخر هايدغر الموجد لتأهيل اشكالية الوجود من جديد، وبعث سؤالها بعد رقاد طويل، ففهم الوجود هو نفسه تحديد وجود الموجد “الخاصية الانطوقية للموجد تقر بانه موجود انطولوجي”. ويحلل هايدغر البنية الانطولوجية للموجد، يتجه الى تحليل قدرة الانسان على الوجود – في -العالم وعلى طرح سؤال معنى الوجود، يتحدد وجود الانسان بتحقيق مجموع امكانياته لا ينقشع وجوده الا ضمن امكاناته المتاحة المتناهية. 

ان قراءة كتاب “مارتن هايدغر نقد العقل الميتافيزيقي” تلفت انتباه القارىء العربي الى اهمية التعامل مع المساًلة التراثية من خارج مركزية الذات وبرؤية نقدية تحرر التراث من قداسة شكلت موضوع المجاوزة الهايدغرية للميتافيزيقا العربية …..

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *