الحكم الرشيد أم الحوكمة الرشيدة، وأثرهما في تكوين وإدارة الدولة

Views: 1129

العميد الركن م. صلاح جانبين

 

إنَّ تفشي الطائفية في لبنان، والنظر بمنظار طائفي إلى تكوين الدولة ومؤسَّساتها، في المجالات السياسية والاقتصادية والتربويةوالإعلامية، وفي الموقف من الانتماء إلى الوطن، بالإضافة إلى التنافس على مواقع النفوذوالمحاصصة، أدّى إلى نشوء حالات من التناقض وخلل كبير في تثبيت التوازنات الطائفية، ما انعكس سلبًا على مجمل الحياة السياسية وعلى الأمن والاستقرار والوضع الاقتصادي والاجتماعي، والذي أدّى إلى تحويل معظم القضايا والمشكلات التي يواجهها الناس إلى معضلات، وصلت إلى تشنّجات وانقسامات طائفية هدّدت وحدة الشعب والوطن. وحيث أننا في هذا البلد، نكون مواطنين نُعدّ على أساس المواطنة، كما نصّ اتفاق الطائف، بوجوب إلغاء الطائفية وفقًا لما أشارت المادة 95 من الدستور، وتنطبق علينا الآية الكريمة من سورة الصّف “يا أيها الذين آمنوا، لِمَ تقولون ما لا تفعلون”؛ كفى بنا تهرّبًا من تطبيق القانون والدستور، فلا أحد يحمينا، قريبًا كان أم بعيدًا،والمحاصصةلا تنتج دولة، بل تؤدّي إلى مزيد من التقسيم والتفتيت وشقّ الصف والفرقة والخلافات حتى بين الأخ وأخيه، بينما المواطنة هي الإنتماء للوطن والعمل من أجل وحدة الدولة،فمهما اختلفنا في الداخل، لا يمكن لأحد منا أن يقبل بسقوط الدولة.

ماهية ومفهوم الحكم الرشيد

تردّد مصطلح الحكم الرشيد كثيرًا، وهو ما يتلازم عادةً مع مفهوم الديموقراطية في ضوء التحوّلات الدولية، ويتضمّن مجموعة من المفاهيم والعناصر والاجراءات التي تشمل السياسات المحلّية والاقتصادية والإدارة الاجتماعيةوحقوق الإنسان، والتي تهدف إلى تحسين فاعلية الإدارة أو الحكم أو السلطة فيما يتعلّق بالنهوض الاقتصادي والإداري والسياسي والأمني والاجتماعي والثقافي في الدول النامية، ما يمكّن من تحسين المستوى العام في الدولة على الصعد كافة.

 

والأساس الذي يقوم عليه الحكم الرشيد، هو نزع القداسة عن السلطة ونقلها للمجتمع والأفراد. وهو مفهوم برز منذ ثمانينيات القرن الماضي، والذي يعكس أساسيات الإصلاح والكفاءة الإدارية في قيادة الدولة للمجتمع بسيادة القانون، ويسعى المجتمع من خلاله لمزيد من المشاركة وتفعيل نفسه مدنيًا. وهو بذلك يفترض أنَّ الدولة لم تعد الفاعل الرئيس في العملية السياسية، فإنه يدلّل على تحفيز الدولة للمجتمع المدني، بحيث يدعو إلى العودة إلى ضوابط المجتمع الأخلاقي لأطراف الوجود السياسي الحاكم والمحكوم بشكل يزيد من فاعلية المجتمع المدني وتأثيرها في السياسات العامة للدولة.

كما أنَّ الحكم الرشيد يركّز على حكم القانون، الشفافية، تحمل المسؤولية، بناء توافق بين المصالح المختلفة للمجتمع، المساواة بين جميع أفراده، الفعالية والكفاءة، والمساءلة والمحاسبة، فالأديان السماويةأوضحت معالم ذلك الحكم، وهي على أساس العلم والحكم الرشيد بنصوصها الواضحة التي تجد صداها في القوانين الدولية ذات العلاقة.

الحكم الرشيد بين التحديد والممارسة

هناك العديد من الاجتهادات والتفسيرات في مسألة تعريف وتحديد الحكم الرشيد، الذي يرجع بالأساس إلى اختلاف وتعدّدالميادين والمصالح، وتباين المنطلقات والتطلّعات الفكرية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع حضاري متنوّع ومتعدّد المشارب والأهداف، ومنها على سبيل المثال:

  • “هو الحكم الذي يعزّز رفاهية الإنسان ويدعمها ويصونها، ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم، وحرّياتهم الاقتصاديةوالاجتماعية والسياسية، ويسعى لتمثيل كافة فئات الشعب تمثيلًا كاملًاوتكون مسؤولة أمامه لضمان مصالح جميع الأفراد”.
  • “هو ممارسة السلطة الاقتصاديةوالسياسية والإدارية، لإدارة شؤون الدولة على المستويات كافة، ويشمل الآليات والعمليات والمؤسَّسات، التي من خلالها يعبّر المواطنون والمجموعات عن مصالحهم ويمارسون حقوقهم القانونية ويوفون بالتزاماتهم ويقبلون الوساطة لحلّ خلافاتهم”.
  • “هو التقاليد والمؤسَّسات، التي من خلالها تتم ممارسة السلطة في الدول من أجل الصالح العام”الذييشمل:
  • عملية اختيار القائمين على السلطة ورصدهم واستبدالهم.
  • قدرة الحكومات على إدارة الموارد وتنفيذ السياسات السلمية بفاعلية.
  • احترام كل من المواطنين والدولة للمؤسَّسات، التي تحكم التفاعلات الاقتصاديةوالاجتماعية فيما بينها.

آليات الحكم الرشيد ومساواة الجميع أمام سلطة القانون

تتباين آليات الحكم الرشيد أو معاييره، بتباين الجهات المُعَرِّفة له ومصالحهم حول الحكم أو السلطة المطلوبة. فبشكل عام يمكن تحديد أبرز تلك الآليات وفقًا للآتي:

  • الشفافية، تعني الوضوح الوظيفي والواجبات والمصادر، والتصرّف بطريقة مكشوفة في كل مايتعلّق بالشأن العام، وإتاحة كل المعلومات المتعلِّقة بالحسابات المصرفية والمخالفات الإدارية وملاحقة مرتكبيها، وتسهيل الحصول عليها وتبادلها وعرضها من قبل المؤسَّسات وخاصة الإعلامية منها. وأن تتوافر كافة المعلومات عن عمل المؤسَّسات في الدولة وأدائِها، بغية مراقبتها ومتابعتها. وعليه يجب على الدولة أن تصدر قوانين تهتم بحريّة المعلومات، وتسمح للجمهور ولوسائل الإعلام، التي تتميّز بالمهنية والمصداقية، بالحصول على جميع الوثائق المتعلّقة بعمل الحكومة والتشريعات على اختلافها.
  • المشاركة، وتعني المساهمة الفعّالة لجميع أفراد المجتمع، في اتخاذ القرار وممارسة حرية الرأي والتعبير، كما ترتبط المشاركة بالشفافية، فمعرفة المعلومات بقدر أهميتها لا تفي وحدها بالغرض المطلوب،ولا بدّ من وجود آليات معيّنة، يكون الشعب قادرًا على اتخاذها ليؤثّر على صنع القرار، ويضع المسؤولين تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة.
  • سيادة القانون، وتعني أنَّ الجميع، حكّامًا ومسؤولين ومواطنين على اختلافهم وانتماءاتهم، يخضعون لسلطة القانون، والقانون يسمو ولا أحد فوق القانون، ويجب أن تُطبّق القوانين والتعليمات المرعية الإجراء بصورة عادلة ومن دون تمييز بين أفراد المجتمع.
  • المساءلة والمحاسبة، وهي أنَّ يكون جميع المسؤولين والحكام، ومتّخذي القرارات في الدولة،بما فيها القطاع الخاص ومؤسَّسات المجتمع المدني، خاضعين لمبدأ المساءلة والمحاسبة أمام الرأي العام ومؤسَّساته من دون استثناء، بخاصة في حال التقصير في الأداء أو التخلف عن القيام به. وأهمية المحاسبة تكمن في تعزيز الحكم الجيد والممارسة الديمقراطية، بالإضافة أنها تُلزم المسؤولين التقيّد بالقانون وتأدية واجباتهم تجاه المواطن وتحدّ من الفساد وتمنع من الإستعمال السيئ للسلطة، وهدر المال العام، كما تساهم في ترسيخ مفهوم المواطنة.
  • الإجماع، يعني إجماع أهل الحكم والفكر والقانون والاجتهاد والحلّ والعقد على أمر ما والإتفاق عليه؛ وأنَّ جميع المصالح المتعلّقة بالمجتمع، قد تصطدم بخلافات تحتاج إلى اتخاذ قرار حازم في مسألة معيّنة، فيجب تغليب رأي المجموعة تحقيقًا للنفع العام للوطن، ولأفراد المجتمع ولاستمرارية عمل المؤسَّسات.
  • المساواة، تعتبر مطلبًا أساسيًا من مطالب الأفراد والجماعات بمختلف المجتمعات، وهي التمتّع بجميع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية،من دون تمييز بسبب الانتماء العِرقيأو الدين أو اللغة أو الجنس أو الفكر السياسي أو المستوى الاجتماعي أو …وأن يكون لجميع الناس نفس القيمة وأن يُعاملوا بشكل متكافئ.

الحوكمة الرشيدة وخصائصها

الحوكمة بشكل عام، هي النشاطاتالإدارية المتعلِّقة بالقرارات المبنية على التخطيط الذي يحدّد التوقّعات المستقبلية في الدولة، والتنظيم والتوجيه الإداري، والمراقبة المقرونة بالمحاسبة التي تمنحها السلطة للتحقّق من حسن الأداء في المؤسَّسات على اختلافها وعلى كافة المستويات. وهي تتألف إما من عملية منفصلة أو من جزء محدّد من عمليات الإدارة أو القيادة. وفي بعض الأحيان مجموعة من الناس تشكل مجلِسًا محليًّا لإدارة هذه العمليات والنظم. والحوكمة تعني أيضًا الإدارة المتّسقة، والسياسات المتماسكة، والتوجيه، والعمليات، واتخاذ القرارات. والحوكمة هي الممارسة الحركية لسلطة الإدارة والسياسة، بيد أنَّ الحكومة هي الأداة المُمارِسة للسلطة والنظام في الدولة.

والحوكمة الرشيدة تتعلّق بعمليات صنع أفضل عملية ممكنة لصنع القرارات الجيّدة وتنفيذها، وبالتالي تتقاسم الحوكمة الرشيدةعدة خصائص ذاتالتأثير الإيجابي على مختلف جوانب الحكومة من علاقات وسياسات وإجراءات وبروتوكولات. وقد قدّمت الأمم المتّحدة ثمانية عناصر للحوكمة الرشيدة في إدارة شؤون الدولة: التشاركية في اتخاذ القرارات، إقرار التشريعات بالأغلبية، تطبيق قواعد المساءلة، الشفافية، الكفاءة والفاعلية، العدالة في التطبيق والممارسة، المساواة بين أفراد المجتمع، وأخيرا ان يتم اعتماد الأنظمة واللوائح المقرّة والمعتمدة عند تنفيذ الحكومة لبرنامجها الإداري. لذا، فإنَّ تحقيق الحكومات لنتائج إيجابية في مؤشِّرات الحوكمة في القطاع العام هو المعيار الأساسي لمدى جودة الحكم ومستويات الحكم الرشيد.

 لذلك، فإن الحوكمة الرشيدة تُساهم في فعالية البرامج العامة عن طريق مشاركة المواطنين والقطاع الخاص والمجتمع المدني من منظَّمات وأفراد، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف المهام لكل جهة في إقرار السياسات والبرامج العامة واتخاذ القرارات، بالإضافة إلى الدّور الذي تلعبه منظَّمات المجتمع في تعزيز الرقابة والمساءلة على الأداء الحكومي، وأيضًا تساهم الحوكمة الرشيدة في حماية حقوق الإنسان، ودعم مشاركة الأقليات في إدارة شؤون الدولة. ومن خصائصها وجود شرعية للسلطة نابعة من سلطة الشعب، ووجود المواطنين ومشاركتهم البناّءة في قلب عملية صنع القرار، للتكيّف السريع من قبل الإدارة العامة مع حاجاتهمضمن أطر وقواعد قانونية لا سيما القوانين المتعلّقة بحقوق الإنسان.

 

قيام الدولة وحماية حقوق المواطنين

الدولة تُمثّل جميع المواطنينوهي التي تُعّبر عن مصالح الناس، وتحمي جميع الحقوق، وتأخذ موقفًا حياديًا من الجميع، ونتيجتها المؤسَّسات القادرة والعادلة، فتُطبّق القانون على الجميع من دون تمييز. وأنَّ تطبيق قوانين الأحوال الشخصية، يكون مع مراعاة قوانين خاصية الطوائف والأديان، في بلدٍ متنوع كلبنان. والدولة التي مصدرها المجتمع وجب عليها احترام كل الأديان وعدم الانحياز إلى فئة من دون أخرى، ويكونالانتماء إلى الوطن والعمل في سبيل سموّه وعلوّه هو الهدف،ودستور الدولة وقوانينها هي السائدة، التي تسمح بالتمتّع بالحقوق اللازمة للفرد والالتزام بواجباته. كما أنَّ الحقوق الفردية للشخص، تتلخّص بالحرّية التي كفلها الدستور لكلّ أبناء الوطن، والمساواة أمام القانون، والعدالة من دون استنساب، بالإضافةإلى التعليم المجاني، وتأمين العمل والعناية الصحيّة والحفاظ على البيئة، وغيرها من ضروريات الحياة والعيش الكريم. فهل نحتاج إلى حكم رشيد يؤدي إلى قيام الوطن على أسس ودعائم ومعايير عالمية ثابتة، أم إلى حوكمة رشيدة، أم إلى الإثنين معًا؟

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *