غوته… حياته قصيدة طويلة
وفيق غريزي
ثمة فلاسفة يرون مع الفيلسوف مارتن هايدغر، أنَّ الفكر هو حيث يحصل التلاقي بين الشعر والفلسفة، وأن الشعر والفكر واحد، ولكن من مستوى غوته. وغوته ليس بحاجة الى من يعرِّف به فهو شاعر أوروبا ومفكر عصري الأنوار والرومانتيكية. فمثلما استطاع المعاصرون تكوين الانطباع القائل بان جوهر غوته يمتنع عليهم وصفه في الاساس، لانه ما فتيء يتملّص، فهم كلما اعادوا الكرة، فان كتاب السيرة والمفسرين على انواعهم، يلوذون بالصمت.
قال نيتشة عن غوته: “ينتمي غوته الى نوع من الاداب التي هي ارقى وارفع من الاداب القومية، ولذا فانه لا يمت الى أمته بصلة الحياة ولا الحداثة ولا القدامة، لقد عاش وما زال حيا بالنسبة الى القلة القليلة. اما في نظر السواد الاعظم من الناس، فلا يعدو كونه بوقا للزهو والخيلاء، ينفخ فيه المرء، عبر الحدود الالمانية من حين الى حين. إن غوته ليس بمثابة الانسان الطيب والرجل العظيم فحسب، بل هو حضارة باكملها”.
حياته وعصره
وفق كتاب “غوته العبقرية العالمية”، لعدد من المفكرين والشعراء العرب، الذي صدر في مناسبة الذكرى المئتين والخمسين لولادته، فقد عاش غوته اكثر من ثمانين عاما (٢٨ / ٨ / ١٧٤٩ – ٢٢/٣ / ١٨٣٢) بين منتصف القرن الثامن عشر ونهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر… وهي سنوات حفلت بتحولات كبيرة من نواحي الحياة المختلفة، وشهدت حركات أدبية وفكرية وفنية نشيطة متتالية، من “الركوكو”، إلى “العاصفة والاندفاع”، الى الكلاسيكية، الى الرومانتيكية وهي حركات تأسيسية ثرية تولدت عنها في ما بعد (على سبيل التطور أو التمرد) حركات الواقعية والطبيعية والتعبيرية وغيرها مما زخر به تراثنا الثقافي العالمي.
ولقد شعر غوته بأهميته التاريخية، ففي رسالة كتبها عام ١٨٣١ الى الكسندر فون هامبولت قال فيها: “إن جاز لي ان اعتبر نفسي في جو الثقة القديمة، فانني اعترف راضيا بأن كل شيء اصبح يلوح لي على نحو متزايد في سنوات عمري المتقدمة تاريخيا، سواء اكان شيئا يحدث في زمان مضى، وبلاد نائية او كان في مكان شديد القرب مني وفي اللحظة نفسها، فالأمر يستوي، بل انني اصبح على نحو متزايد الوِّح لنفسي تاريخيا”.
يشير مصطفى ماهر في دراسته الى أنه “في عام ١٧٩٠ قام غوته بدراسةعن الألوان واخرى عن تحوّل النبات، ونراه يتعلم عددا من اللغات قديمة وحديثة، ونراه يترجم ويهتم بثقافات بلدان العالم، ينشىء بينها جسورا، ويتصوّر أدبا عالميا كالنهر الكبير تنساب فيه روافد من كل صوب، ويفتن بالشرق الاسلامي على وجه الخصوص ليطالع ترجمات للقرآن الكريم ومختارات وافية من الأدبين العربي والفارسي”.
كان غوته شموليا في نظرته الانسانية، يرفض حدود الزمان والمكان، وكان ينساق وراء عاطفته. فحفلت حياته بتجارب حب جديدة وكثيرة تركت اثارا مختلفة في نفسه. وفي ستراسبور التقى المفكر هردر، الذي صحح مساره الابداعي وفتح أمامه افاق المستقبل، اذ نبهه إلى أن الشعر ينبثق من الوجدان لا من العقل، وان الشعر الشعبي عظيم القيمة، وان الشعراء العباقرة، امثال شكسبير، هم الذين يعبرون بالفطرة عن ذواتهم ولا يتبعون قوالب جامدة، وان اداب الامم القديمة المختلفة، ومنهم العرب واليونان نبع الغنائية الاصيلة”. وجراء ذلك نشاًت علاقة في ما بين اسلوب غوته والاغاني الشعبية، وكان لهذه العلاقة اهمية كبيرة وها هو غوته يقول: “إن القيمة الكبرى لما يسمى بالاغاني الشعبية هي ان موضوعاتها مستمدة بصورة مباشرة من الطبيعة، ولكن حتى الشاعر المصقول يمكن ان يستفيد من هذه المزية اذا كان يفهمها. إلا أن الاغاني الشعبية لها هذه المزية، وهي أن البشر القريبين الى الطبيعة يفهمون الايجاز احسن مما يفعل الرجال المصقولون في الواقع”.
لقد كانت الاشياء التي يدركها نهارا في يقظته، كثيرا ما تتحول بالليل في نومه الى احلام متسقة مؤتلفة، فما يكاد يفتح عينيه حتى يرى في مخيلته عملا متكاملا جديدا بديعا، او يرى جزءًا يلتحم بعمل بين يديه. وهذا خير دليل على موهبته الفطرية.
نزعته الانسانية
يقول مصطفى ماهر: ” كان غوته يؤمن بالانسانية الواحدة، كالبنيان يشد بعضه بعضا. تتعاون افرادا وجماعات على طريق الحكمة، وتسعى الى الحق والخير والجمال، تناًى بنفسها عن الهمجية وتتمسك بالقيم السامية، بالتسامح والمحبة والسلام، وتبني الحضارة التي قد تتنوع بحسب الظروف، ظروف المكان والزمان ولكنها تكون وحدة واحدة “. وحسب تعبير غوته الانسان امام نفسه وحدها هو نقي دون ريب، والآخر يفسد علينا التصور من خلال تصوره، فاذا ما اصغينا الى ثالث، فان المرء يرجع من خلال اختلاف المنظور الى صفائه الحقيقي الأول. ولهذا، يقول غوته: “اتمنى لفكرة النقي والطاهر، وهي الفكرة التي يمتد مفعولها الى لقمات الطعام التي اضعها في فمي، ان تصبح عندي اشد لمعانا وتالقا على الدوام”.
لقد انعكست هذه المعتقدات على مفاهيمه الشعرية، انطلاقًا من الخصوصية والشمولية، حيث أن هناك فرقا عظيمًا بين أن يبحث الشاعر عن الخصوصي في الشمولي، وبين أن يرى الشمولي في الخصوصي. إن الاسلوب الأول يؤدي الى أدب مجازي لا تكون فيه ثمة قيمة للخصوصي الا بوصفه مثالا على الشمولي. أما الاسلوب الآخر فهو طبيعة الشعر حقا. الشاعر اللبناني سعيد عقل اجرى مقارنة بين غوته وشكسبير، فقال: “شكسبير ما ترك عاطفة من عواطف القلب البشري إلا اتخذها وترًا يضرب عليه لحنًا. غوته هو لم يوزع قلمه على كل عواطف النفس، انما ارتفع الى ما ينبغي ان تكونه النفس ليروح قلمه ينزل جوهرها مشعا في الاذهان “. والنزعة الانسانية العميقة تمثلت في قصة “الام فرتز” التي تعتبر ذروة نضال غوته الشاب من اجل انسان حر ومتطور بشكل شامل، وهو الاتجاه الذي عبر عنه ايضا في مسرحية “كوتز” وفي العمل الذي لم يتم “بروميثيوس”.
ان “فرتر التعبير عن العالم الداخلي للمشاعر في الحياة اليومية، لكي يصور في هذا الاتجاه الداخلي ملامح الانسان الجديد الناشىء في معارضته للمجتمع. وهذا النهج اقتبسه غوته عن ريتشاردسون وجان جاك روسو. ولكن “فرتر” حسب رأي جورج لوكاش، فهي تعتبر بوجه عام قصة حب.. وهي من اعظم قصص الحب في الأدب العالمي. الا ان شأنها شأن كل تعبير شاعري عظيم حقًا عن مأساة غرامية، هي اكثر بكثير من مجرّد مأساة حب، فهي لا تجاهر بمثل انسانية وحسب، بل تصوغ بشكل مكتمل، التناقض المأسوي في هذه المثل.
المسرح والحياة
يرى غوته أنه يجب أن يكون العرض المسرحي حاملا روح الشعب.. ويؤكد عوني عزمي في دراسته أن غوته “لم يكن يؤمن بصيغة ثابتة أو اسلوب محدد أو شكل مسرحي معين للتعبير عن الحقيقة، وإذا جاءت اعماله مختلفة بين الشعر والنثر، بين التقليد والتجديد، وشملت شخصيات وموضوعات متباينة تعكس كلها بالنتيجة غوته الانسان بمختلف نواحيه، الثقافية، والنفسية، والسياسيةوالدينية والعلمية، وبخبراته المتنوعة خلال حياته المديدة وعبر لرحلاته المختلفة “.
وفي عام ١٧٩٤ جمعته الصدفة بالشاعر الالماني الكبير “شيلر” واقام معه صرح الكلاسيكية. وبما ان شيلر مسرحي، فقد تناغمت اراءه مع اراء غوته وهي أن المسرح رسالة فكرية ومتعة جمالية. وخلال عملهما المشترك في نواح أدبية متعددة اكتشفا الفرق الداخلي العميق الجذور بين الأدب الملحمي والأدب الدرامي واكدا: “أن الكاتب الملحمي والكاتب الدرامي خاضعان لقوانين الشعر العامة، لا سيما قانون الوحدة، وقانون التصور، وفضلا عن ذلك فكلاهما يعالجان مواضيع متماثلة، إلا أن الفرق الاساسي بينهما يكمن في واقع أن الكاتب الملحمي يسرد الحدث بوصفه ماضيًا، وأن الكاتب الدرامي يعرضه بوصفه حاضرا تماما”.
في نتاجاته المسرحية “يحاول أن يدمج الموضوعي بالذاتي والفردي، بما هو اجتماعي من أجل احداث انقلاب في شخصية ابطاله وخاصة فاوست، الذي يرغب في تحرير ذاته من كل القيود وتغيير كل ما يحيط به.لذا نراه يرغب دوما بالخروج الى العالم، حيث الحياة والمجتمع.
المؤثرات الشرقية
عناية غوته بالشرق، حكمته وفنونه، عناية قديمة تمتد بجذورها الى عهد الشباب.. فقد اخذ الكتاب المقدس مترجما بيد الشاب وادخله هيكل الشرق المقدس، لكن عبقرية غوته لم تقنع بقراءة هذا الكتاب، وانما اراد ان يقراًه في نصه الاصلي وليس مترجما. (https://portlanddentalimplants.com/) حاول غوته ان يجمع في نفسه بين اداب الامم جميعها، فبدأ بالأمم الأوروبية يتأثر بكبار ادبائها ومفكريها، ولم يبق امامه الا أن يجمع كذلك بين الشرق والغرب، فيصهرهما جميعا في بوتقة واحدة، ولهذا نراه يجمعهما في ديوانه الشرقي الذي هو مزيج من الشرق والغرب.
كان اعجابه بالأدب الفارسي من بين الاداب الشرقية لا يعادله أي اعجاب آخر، فقبل اطلاعه على حافظ الشيرازي قرأ قصة “مجنون ليلى”، التي نظمها الشاعر الفارسي نظامي، بترجمتها سنة ١٨٠٧ على يد هارتمان.
سمير مينا جريس اشار الى ان التأثير المشرقي – الفارسي على غوته لا “يحتاج الى دليل اذا طالعنا اشعاره التي سمّاها “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي”، اذ كان لقاء غوته الفكري مع الشاعر الفارسي شمس الدين حافظ الشيرازي لقاء مثمرا خصبا، دفعه الى محاكاة هذه الاشعار الشرقية والى مبارزة حافظ الشيرازي شعريا”.
وكنت قد اشرت الى ان علاقة غوته بهردر فتحت له افاقًا جديدة في ما يتعلق بالثقافة العربية، لان هردر كان يكن تقديرا، واعجابا للشعر العربي، وتقديرا كبيرا لانجازات الحضارة العربية.
يعترف غوته بان مجموعة اشعار حافظ قد اثرت فيه تاثيرا عميقا قويا، حمله على ان ينتج ويفيض بما احس وشعر، لأنه لم يكن قادرا على مقاومة هذا التأثير. على نحو او آخر لقد كان التاثير حيا قويا. الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، الذي قام الدكتور عبد الرحمن بدوي بنقله الى العربية، يشيد بطبيعة الانسان وقواها، ويحمل طابع التفاول والاقبال على الحياة، ويدعو الى المؤاخاة بين الامم والشعوب، ثم هو مملوء بنظرة صوفية عميقة في الحياة بجميع مظاهرها. وهذا توضح اكثر في “فاوست”.
الخاتمة
رغب غوته في اختراق اشكال الفن في عصره، ذلك أنه، بالرغم من تأكيده في فلسفته الطبيعية على الجانب الوقتي، والمتغير ابدًا، والمتحول ذاتيًا، في الانسان – فان كل انسان بالنسبة الى الشاعر كان وحدة كاملة تتمثل في كونه لا يملك بداية ونهاية فحسب، بل يكتسب من خلال مصير معاش، بشكل مليء خطا محيطا نهائيا ومحدودا. ففي حياته المديدة تعلم غوته، وعلم كثيرا، وعايش اشكاليات الابداع والسلطة والمجد والحب والسعادة والالم، وتماهت هذه بتلك، حتى ليتساءل المرء: هل كتب غوته اشعارا؟ ام كانت حياته قصيدة طويلة؟ وهل صاغ النصوص المسرحية أم كانت حياته دراما حافلة بالقضايا والشخصيات والاحداث؟
يبقى غوته علامة في تاريخ الأدب العالمي، واسبغ على عصره عبقريته وموهبته وعطاءه الغزير..