عادة التحديق

Views: 732

 زياد كاج

   تعيش معظم المجتمعات الغربية وفق مبادىء وممارسات عامة  شبه جامعة متفق عليها  تشكل مظلة ثقافية اجتماعية شاملة لا خلاف عليها. منها حرية الرأي، والتعبير، والتفكير، والاستهلاك، والتعلم  والعلاقة المفتوحة على السماء وفق ما يرى  ويحب الفرد ..وصولاً الى الإلحاد.

 تلفتني في المجتمعات الغربية تلك المساحات المفتوحة (المشاعات) المتروكة بين الناس لدرجة الضجر والملل لكن بهدف تخفيف حدة المشاكل والتوترات الاجتماعية. هم جزر ونحن واحات. أهل غرب الأرض شعارهم “عش ودع غيرك يعيش” و”الجدران العالية تحافظ على الجيرة الطيبة”.

   طبعاً، نحن أهل الشرق، ولألف سبب وسبب، لا نستطيع تبني تلك السلوكيات واعتمادها في حياتنا الاجتماعية والسلوكية اليومية. هم عمودهم ” الفرد والأنا” ونحن عمودنا “الجماعة والنحن”. يعيش أنساننا منذ نعومة أظافره الى شيخوخته ضمن دوائر تصغر وتكبر حسب التجارب. من العائلة الى العمل الى تأسيس أسرة نشعر بدفء الأمان. حتى العمل السياسي عندنا فيه الكثير من روح الجماعة المفروضة والمتوارثة.

   بعيداً عن المفاضلة والمقارنة بين ما يقدمه الغرب والشرق كأنموذج للتجربة الانسانية، لا بد من نقد ذاتي وتسليط الضوء على بعض العادات الشرقية المتوارثة الممجوجة التي تكاد تكود منقرضة في عالم الغرب.

لفتني مقال منذ سنوات بقلم سيدة أجنبية قدمت الى احدى الدول الخليجية للعمل وقد صدمتها بعض المماراسات الصادمة في الاماكن العامة. كتبت تلك السيدة مقالاً مطولاً عن “التحديق” كظاهرة سلوكية اجتماعية اشعرتها أنها مُعتدى عليها وأنها أتت الى المكان الخطأ.

   التحديق بشخص ما ولفترة مطولة عادة سيئة لطالما عانيت منها ولا أزال. نوع من الاعتداء على الخصوصية في الأماكن العامة من أناس لا عمل لديهم سوى مراقبة الناس في الشارع. والتحديق ينم عن نفسيات مريضة وعن فراغ وثقافة “فايشة” ونوع من الحشرية المزعجة. بأي حق يطيلون النظر نحوك؟ وما هي النوايا المخفية خلف تلك النظرات الاشعاعية؟ احساس بشيء من العري الاجتماعي.

في الاسلام كلام عن حق التحية في الشارع. وللضحية حق أيضاً.

   لماذا يحدق الناس ببعضهم البعض في بلادنا؟ ولماذا لا يتبنى أبناء الحضارة الغربية هذه العادة؟ ولماذا نحن منشغلون ومنغمسون ببعضنا البعض لدرجة يشعر أحدنا أن لا خصوصية في حياته.

   عادة التحديق في المجتمعات العربية عموماً، وفي لبنان تحديداً، تعود الى جذور عميقة في الثقافة العامة الشرقية حيث يذوب الفرد كالملح في روح الجماعة والمجتمع. فكل ما هو نافر أو غير منسجم مع المشهد العام يعتبر ملفتًا للنظر ومدعاة للتعليق وأحياناً كثيرة للإدانة والاستهجان. وعندنا يُقال: “خالف تعرف”. كما أن مفهوم الملكية الشخصية والخصوصية الفردية يكادان يكونا منعدمين.

في مجتمعات وحضارة تعج وتضج بالقيم والمفاهيم الروحية والماورائية، وتفتقر للإنجازات العلمية والتكنولوجية اللاهثة والمتسارعة، يغرق الناس في القشور، في المظاهر، في ما يخص غيرهم أكثر مما يعنيهم. عندنا شيء من الإدانة والتقليل من قيمة الانسان بشكل عام.  رغم محافظتنا على قيم روحية راقية وممتازة في كثير من نواح اخرى، يبقى الانسان مستباحاً أمام “العين العامة”. لذلك يحدق الناس ببعضهم البعض وينسون مبدأ غض النظر الذي هو حياء مستحب.

التنوع الطائفي عندنا عامل مساعد والتفاوت الطبقي أيضاً. نحن أهل مظاهر. فينا أصحاب العفة والقناعة، وفينا أصحاب الفجور و”شوفيني يا بديعة”. أشعر أحيانا أننا مبتلون ببعضنا البعض. إن لم نكسر بعضنا باليد، فلا بأس بالعين والقلب.. وفي ذلك إضعاف وتقليل من قيمة  الانسان المختلف.

   لو تأخذني سيدات وآنسات بلدي برحابة صدر قليلاً.. لقلت إنهن أكثر براعة وممارسة لعادة التحديق من الرجال. والسبب هو في الحقيقة أسباب: التحديق في طريقة مشي امرأة اخرى، في لباسها ومستواها الاجتماعي، في ممتلكاتها الخاصة. نظرة المرأة للمرأة تتم بحد السكسن. في الأمر شيء من الحشرية والكثير من الغيرة. لا أعرف لماذا الرجل عندنا اقل استثماراً في مسألة التحديق من النساء. اذ نادراً ما لاحظت رجلاً في الشارع يحدق في ثياب رجل آخر. ربما الاهتمامات هنا تختلف. من الثروة الى السلطة الى نوع السيارة أو الى المرأة المرافقة للرجل.

   حبذا لو نخفف أو نقلع عن هذه العادة المسيئة للمجتمع والفرد. قديماً قيل: “من راقب ناس مات هما”.

أقول “من حدق بالناس مات غماً”. لأن التحديق كالتدخين مضرّ بالصحة.       

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *