سجلوا عندكم

جبور الدويهي في روايته الأخيرة

Views: 27

 سلمان زين الدين

 

   بين انسحاب الراوي من القرية الشمالية، في بداية الرواية، حفظًا للحياة، وانسحابه من الدنيا، في نهايتها، هربًا من الحياة، تمتدّ “سُمٌّ في الهواء”، الرواية الأخيرة للروائي الراحل جبور الدويهي، الصادرة عن دار الساقي. وبين الانسحابين سلسلة من الأحداث، تجري خلال الربع الأخير من القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين. وتدور في فضاءات مكانية مختلفة، تطغى المدينية فيها على الريفية. وتتمحور حول راوٍ، ينخرط فيها  من مواقع: المتفاعل معها أو الفاعل فيها أو المنفعل بها. وتحفّ به مجموعة من الشخوص، يرتبط بها بروابط، القرابة أو الصداقة أو الحب أو الزواج أو الخصومة أو النضال المشترك. 

  يتزامن الانسحاب الأول مع بداية الحرب الأهلية، ويتزامن الثاني مع انفجار مرفأ بيروت، ما يعني أن زمن الأحداث في الرواية هو زمن الحرب الأهلية اللبنانية، المستمرّة منذ اندلاعها في العام 1975 حتى الآن، وإن بأشكال مختلفة. غير أنّ هذا الزمن يشكّل الخلفية التاريخية للأحداث، فالرواية لا تتحدّث عن الحرب، بشكل مباشر، بل عن تداعياتها غير المباشرة على شخوصها، فالتداعي المباشر الوحيد فيها يتمثّل في  سقوط قذيفة قرب بيت البطل أدّى إلى تهجير الأسرة إلى بلدة جبلية، ويشكّل الحجر الأوّل في دومينو الأحداث. بينما تشكّل التداعيات غير المباشرة الحجارة الأخرى للعبة التي راحت تتساقط تباعًا، ولو بفوارق زمنية مختلفة، بين حجر وآخر. بهذا المعنى، تغيب الحرب عن رواية “سمٌّ في الهواء”، بوقائعها المباشرة، وتحضر بنتائجها غير المباشرة. 

  يرصد الدويهي، في روايته، حياة  الراوي بين مرحلتي الصبا والكهولة، ويُسند إليه روي وقائعها المختلفة بين مرحلة عمرية وأخرى، ما يجعلنا إزاء سيرة روائية للراوي تتقاطع مع سيرة الروائي الذاتية في نقاط معيّنة؛ بعضها دراسة اللغة الفرنسية في الجامعة، تدريسها في المدارس الثانوية، واعتناق الماركسة، وغيرها.

  الصبا والمراهقة

  في “سمّ في الهواء”، تتعاقب الأحداث في مسارٍ خطّي، أفقي، وتتمحور حول شخصية الراوي الشريك، منذ خروجه مع أسرته من الحيّ المكتظ، في بلدة شمالية ساحلية، حتى خروجه من الحياة في بلدة جبلية، عاش فيها أيامه الأخيرة منقطعًا عن العالم. وبذلك، تفارق الرواية التقليدية التي تتّخذ الأحداث فيها مسارًا هرميًّا. ويرويها راوٍ عليم. وفيها نتعرّف إلى الراوي في مراحله العمرية المختلفة.

    في مرحلة الصبا، ينشأ في حيٍّ مكتظّ لأبٍ كندرجي ذي ميول شيوعية. وأمٍّ تنتابها نوبات اكتئاب من حينٍ إلى آخر، وتخشى على وحيدها من كلّ شيء. وعمّةٍ مصابة بالشلل النصفي، تحرص على أناقتها، وتعيش على ذكريات مجدٍ غابر. وتنعكس هذه النشأة عليه، فيعيش بين خوف أمّه المرَضي، ونوبات حزنٍ تجتاحه حتى البكاء لعلّه ورثها عنها، من جهة، وبين نزوعه المستمر إلى المغامرة، ورغبته في قراءة الكتب، من جهة ثانية. وفي مرحلة المراهقة، وإذ تنتقل الأسرة إلى قرية جبلية بفعل الحرب، يتصالح مع نفسه، وتنجلي كآبته، وينخرط في علاقة غرامية عابرة، ويكتب الرسائل العاطفية الملتهبة.

   الشباب والكهولة

   في مرحلة الشباب، تنزل الأسرة إلى بيروت، ويكون عليها أن تنتقل بين مجموعة من البيوت، تتموقع بين شارع ويغان وشارع المكحول والشطر الشرقي من العاصمة. ولعلّ هذه المرحلة هي الأغنى في حياة بطل الرواية وراويها؛ يلبّي فيها نداء المدينة، ويتسكّع في شوارعها حتى ساعة متأخرة من الليل. يتابع دراسته في الجامعة، ويمضي شطرًا من وقته في الكافيتيريا، وينضمّ إلى خلية حزبية. يخوض مغامرة فاشلة للالتحاق بالعمل الفدائي في غور الأردن. ينخرط في علاقات غرامية عابرة. يدرّس في بعض الثانويات بعد تخرّجه من الجامعة. يتزوّج من زميلته الشيعية في الثانوية، ويدخل السجن بعد قيامه بضربها والانفصال عنها. تعود خالته المنقطعة أخبارها مع ابنها الزنجي من ساحل العاج، وتموت أمّه. وفي مرحلة الكهولة، يقرّر الابتعاد عن الناس، يُقيم في قرية جبلية مطلّة على بيروت، يتخلّص من كلّ ما يصله بالعالم الخارجي، حتى إذا ما رأى “الفطر” الهائل مخيِّمًا فوق المدينة، يقرّر الانسحاب من الحياة. ويعبّر عن ذلك بالقول: “حلّقت مع الحمام بعيدًا نحو السماء الزرقاء حيث اختفيت، أنا والرف، في الأفق البعيد” (ص 207).

    نقاط تحوّل

    وهكذا، نكون إزاء شخصية قلقة، تفتقر إلى الاستقرار المكاني والنفسي والعاطفي، وتُمْنى بخسارات كثيرة، وتختار مصيرها القاتم الذي يتوّج مسارًا من الاضطراب وعدم الاستقرار. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ وقائع ثلاث، بين الوقائع المذكورة أعلاه، شكّلت نقاط تحوّل في حياة الشخصية، وكان لها تأثير كبير في مسارها ومصيرها.

– الواقعة الأولى ترد في بداية الرواية، وتتمثّل في سقوط قذيفة قرب منزلها، ترتّب عليها تهجير الأسرة إلى قرية جبلية، لتبدأ بعده سلسلة من التهجيرات ذات الأسباب المختلفة. 

– الواقعة الثانية ترد في وسط الرواية، وتتعلّق بانتحار الأم المصابة بالاكتئاب النوستالجي العميق بجرعة من الحبوب المسكّنة، ترتّب عليها أعطاب في أعصاب البطل،  كانت لها نتائج مدمّرة على حياته، أدّت إلى انفصاله عن زوجته، واستقالته من عمله، ودخوله السجن.

– أمّا الواقعة الثالثة، فترد في نهاية الرواية، وتتمظهر في انفجار مرفأ بيروت، وترتّب عليها انتحار بطل الرواية.

   شخوص معطوبة

   إلى ذلك، تحفّ بالشخصية المحورية في “سم في الهواء” مجموعة من الشخوص التي ترتبط بها برابطة أو بأخرى، وتعاني جميعها من أعطاب مختلفة؛ فيبرز، في رابطة القرابة، الأب الكندرجي، ذو الميول الشيوعية، الحريص على أناقته ونظافته، الذي يُطرد من عمله بسبب نشاطه النقابي، ويستغل عمله للتحرّش بالنساء، ويسقط ضحية ابتزاز إحداهن. والأم التي تهمل جمالها، وتخاف على وحيدها، وتعيش نوبات اكتئاب، ويخيب أملها في زوجها، فتُقدم على الانتحار. والعمّة المفلوجة التي تطوي النفس على ماضٍ تليد، تنقّلت فيه بين الأزواج، وتعدّدت علاقاتها العابرة. (louismassaro) والخالة التي أغوت رجلاً متزوّجًا، وهربت معه إلى أفريقيا، وعادت بابن أسود البشرة لا يمتّ إلى الزوج بصلة. وابن الخالة الذي لا يعرف أباه الحقيقي، ويعود إلى ساحل العاج للبحث عنه، فتنقطع أخباره. ويبرز، في رابطة الصداقة، صديق الفندق السبعيني المريض الذي دمّرت الحرب محلّه، وتركته زوجته بسبب خيانته لها، فانصرف لإشباع ميوله المثلية، واختار العيش وحيدًا بين الفنادق، حتى إذا ما حاصرته الوحدة واشتدّ عليه المرض، وضع حدًّا لحياته بالانتحار. وصديق السجن السوري الكردي الذي يُسجَن ظلمًا، حتى إذا ما تمّ الإفراج عنه، ويمّم شطر الضفّة الأخرى، يبتلعه البحر. وفي رابطة الزواج، تبرز معلّمة الفلسفة التي تَحَوّل الزواج منها إلى حرب يومية، وكانت تتجاذبها  نوازع دينية وأخرى فلسفية، تمخّضت عن تخلّيها عن زيّها الديني، والسفر إلى ألمانيا لتقترن برجل ألماني، وتتابع دراسة الفلسفة. 

وهكذا، تتضافر الدائرة الضيّقة، المتمثّلة في مجموعة من الشخوص المعطوبة، مع الدائرة الواسعة المتمثّلة بالحرب الأهلية، في محاصرة بطل الرواية، ورسم مساره المتعثّر وتحديد مصيره الفاجع.

    أسماء جنس

   على أنّ ما يجمع بين الحافِّ والمحفوف به من الشخوص هو أنّه جميعًا بلا أسماء، فالدويهي يضنّ عليها بأسماء العلم، ويكتفي بأسماء الجنس. وهذا الإجراء سلاح ذو حدّين؛ فهو يشي بعمومية الشخوص وتعبيرها عن حالات عامّة أفرزتها الحرب، من جهة، وينتقص من قدرتها على الإيهام بالواقعية، من جهة ثانية. الأمر نفسه ينطبق على الأماكن الروائية التي يحجب عنها التسمية، ولولا ذكره بعض الشوارع في بيروت، لكنّا إزاء مكان روائي عام غير محدّد، ما ينتقص بدوره من واقعية الرواية.

  وعلى الرغم من ذلك، فإنّ رواية “سمّ في الهواء” هي الحلقة التاسعة في سلسلة الدويهي الروائية التي بدأها بـ”اعتدال الخريف” في العام 1995. وهي تحدّد، مع الحلقات الثماني الأخرى، موقعه الفارق على خريطة الرواية اللبنانية والعربية. وتعبّر عن بصمة روائية خاصة لا يمحوها الموت.

   

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *