عشر دقائق مع الحلاّج

Views: 447

د. عبد الحسين شعبان*

في زيارتي الأخيرة إلى بغداد استعدتُ وبصحبةٍ طيّبةٍ من أصدقاء أعزّاء مَعالمها القديمة ومناطقها الأثريّة ومَكتباتها وأزقّتها ومطاعمها الشعبيّة، وعلى الرّغم من اتّخاذ الاحتياطات اللّازمة بسبب فايروس كورونا، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعنا من التجوال فيها، وكانت خاتمة الزيارات والمُشاهدات حين توقّفنا عند قبر الحلاّج في كرخ بغداد.

والحلاّج هو الحسين بن منصور وفي الأصل من بلدة البيضاء التي يُنسب إليها المفسّر البيضاوي، هو شاعر ومتصوّف نال شهرة واسعة، ويُشار إليه بالبنان كرائدٍ من روّاد المدرسة الصوفيّة. وأصبح له أنصارٌ كُثر، وعلى الرّغم من عدم انخراطه في السياسة، إلاّ أنّ رذاذها لاحقه بسبب أفكاره وآرائه الانتقاديّة لما هو سائد، بل ناله الكثير من التشويه، الأمر الذي أوغر صدور الحكّام عليه.

كم تأثّرتُ حين وجدتُ بابَ مقامه مقفلاً وفي شارعٍ بائس، وحين بقينا ندقّ على الباب، فَتَحَ أحدُ جيرانه بابه واستمهلنا لحظة لجلب المفتاح بعد أن عرف طبيعة زيارتنا وهويّتنا الثقافيّة، واتّضح أنّه القيِّم على المقام والمسؤول عنه بدعْمٍ من الوقف السنّي. وقال إنّ هذا المكان الذي ترونه هو أفضل ممّا كان عليه سابقاً، فقد جاء أحد المُحسنين قبل فترة بورشة عمل وأجرى بعض الإصلاحات في أركانه المُتداعية وأعاد ترميمها ووَضَعَ قبّةً فوق قبره. وحين استفسرتُ منه ومَن كان ذلك المُحسن؟ قال إنّه رَفَضَ أن يُعرِّف عن نفسه والإفصاح عن اسمه. وقال إنّ عمله هذا لوجه الله. القبر والمَقام عبارة عن غرفة واحدة وباب خارجيّة تُفضي إليه.

استعدتُ مع نفسي ما كنت قد قرأته عن الحلاّج الذي اتّصل بالحركة الصوفيّة وهو فتىً لم يبلغ السادسة عشرة من عمره فتتلمَذَ على يد منظّريها الأوائل وهُم الجُنيد وسهل التستري. ومع مرور الأيّام صار هو أحد أبرز فلاسفتها، وكانت تلتفّ حوله ثلّةٌ من المُريدين الذين عبّر عنهم في قصائده بقوله أولئك “أصحابي وخلاّني”.

تملَّكتِ الحلاّج نشوةُ التعبير عن آرائه وأفكاره ووجهات نظره، وكان يُجاهر فيها خلال اختلاطه بالناس في الأسواق والمحال العامّة، لأنّه كان يعتقد أنّ التصوُّف جهادٌ في سبيل إحقاق الحقّ، وضدّ الظلم والطغيان في النَّفس والمُجتمع، وهدفه كان الإصلاح. اضطرّ إلى التنقّل والترحال في البلاد، يستمع إلى أحاديث الناس ويتحدّث معهم بكلامٍ يفهمونه حيناً ولا يفهمونه في أحيان كثيرة، وخصوصاً حين غاص في الفلسفة، وهو بالضدّ من أعلام الصوفيّة الذين كانوا يلجأون إلى العمل السرّي أو قلْ كتمان مشاعرهم ووجدهم وأفكارهم وأسرارهم، خشية من ملاحقة السلطات، حيث يؤثرون العزلة على الاختلاط بالناس، تاركين أمر الخلق لله.

جَرَت مُحاولاتٌ لأسْطَرة الحلاّج حتّى بعد مَقتله، وكان الكثير ممَّن افتُتنوا به يرفعون مَقامه، بل إنّهم زعموا أنّه عائدٌ ولم يُقتل هو بعَينه وإنّما شبيه له. وتلك من الاعتقادات التي ظلّت قائمة بين ظهرانينا حتّى وقتٍ قريب حين يتولّه محبّون بمحبوبهم، وهو الأمر الذي شاع بعد مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم العام 1963، فقد زَعَمَ بعضُ أنصاره من العامّة أنّهم شاهدوا صورته في القمر أو أنّه مرَّ مُتنكّراً من هنا أو التقاه أحدُ الوجوه الاجتماعيّة، وغيرها من القضايا التي ظلّت محطَّ اعتقادٍ وتندّر أيضاً، في حين شاهد الناس صورته على شاشة التلفزيون، وهو مقتول بعد تنفيذ حُكم الإعدام به يوم 9 شباط/ فبراير من العام ذاته وبعد يومٍ واحدٍ من الانقلاب.

حين يعلو صوت الكراهيّة والانتقام

أُعدم الحلاّج في العام 309 هـ بسبب انتقاده الأوضاع السائدة، فدُبِّرت مكيدةٌ له في لَيلٍ بهيم، حيث حوكِم بطريقةٍ صوريّة سريعة، بتهمة الزندقة والإلحاد وهو ما كان يروّج لها أعداؤه وخصومه وقد صَدر الحكمُ بإعدامه ونُفِّذ بطريقةٍ غادرة وبشعة، فجُلد بألفِ سوط وقُطعت يداه ورجلاه وأُحرقت جثّته ورُمي برمادها في نهر الفرات وعُلّق رأسه بباب الكرخ وقيل إنّ رأسه أُرسل بعد ذلك إلى خرسان.

حين شَعَرَ الحلاّجُ بدنوّ الخطر، خاطَبَ القضاةَ “… دمي حرام وما يحلّ لكم أن تتّهموني بما يُخالف عقيدتي ومذهبي السنّة، ولي كُتُبٌ في الورّاقين تدلّ على سنّتي، فالله الله في دمي”، لكنّ صوت الكراهيّة والانتقام كان هو السائد على صوت الاحتكام للعقل وقبول حقّ الاختلاف.

وحسبَ الحلاّجُ النقطةَ أصل كلّ خطّ، والخطّ كلّه نقطٌ مُجتمِعةٌ فلا غنىً للخطّ عن النقطة، ولا للنقطة عن الخطّ. وكلُّ خطٍّ مُستقيم أو مُنحرِف هو متحرّك عن النقطة بعَينها، وكلّ ما يقع عليه بصرُ أحدهم فهو نقطة بين نقطتَيْن، وهذا دليلٌ على تجلّي الحقّ من كلّ ما يُشاهَد، وترائيه عن كلّ ما يُعايَن، ومن هذا قوله: ما رأيتُ شيئاً إلاّ الله فيه.

 إنّ محنة الحلّاج هي محنة الحريّة والتفكير الحرّ بوجه ضيق الأُفق والتحجّر في كلّ عصر، حيث كَتَبَ بدَمِهِ ملحمةً من أشدّ المَلاحِم مأسويّة في التاريخ الإسلامي، وقد سعى الشاعر صلاح عبد الصبور في مسرحيّته “مأساة الحلّاج” إلى إظهار الطابع الاجتماعي لرسالته، مُحاولاً تحويل الزهد إلى طاقة قصوى ليس من خلال العبادات والانعزال عن الناس، بل المُجاهَدة مع النَّفس، وهو ما أسماها الرسول محمّد (ص) “الجهاد الأكبر”، ولا جهادَ حقيقيّاً قبل التصالُح مع النَّفس، وذلك هو “الجهاد الأعظم”.

ومن هنا جاءت تجلّياته الفلسفيّة الصوفيّة التي جسَّدها بوحدة الوجود، وهو القائل “أنا الحقّ” في تعبيرٍ مُتعالٍ للذات، الذي أثار الشكوك في إيمانه بحلول الذات الإلهيّة في النَّفس البشريّة.

“أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا

نحن روحان حَلَلنا بدنا

 

نحن مذْ كنّا على عهد الهوى

تُضربُ الأمثالُ للناس بنا

 

فإذا أبصرتني أبصرتهُ

وإذا أبصرته أبصرتنا

 

أيّها السائلُ عن قصّتنا

لو ترانا لم تُفرِّق بيننا”.

استحقّ الحلّاجُ وصفَ الشاعر والفيلسوف الهندي محمّد إقبال بـ “المفكّر المُبدع” ليس لأنّه غرّدَ خارج السرب، بل لأنّه “حاول بثّ الحياة في مُعاصريه الموتى روحيّاً وفكريّاً، أي محاولة منحهم إيماناً حيّاً جديداً، وتحريرهم من التقليد واجترار القواعد المُتوارَثة الخالية من كلّ روح”، فالإسلام بحسب المستشرقة الألمانيّة آنا ماري شميل، ليس ديناً مُتحجّراً بعيداً عن الواقع، وهو رأي قال به إقبال أيضاً، بل إنّ المُفكّرين الصوفيّين الكبار تغلغلوا عميقاً… وكان الحلّاج الذي فهم أعماق الوحي الإلهي واحداً من هؤلاء، وهو أفضل من الكثير من الفقهاء و”رجال الدّين” الذين يعجزون عن التحليق إلى الذرى الفكريّة.

 

“إذا هجرتَ فمَن لي

ومَن يُجمِّلُ كلّي

 

ومَن لروحي وراحي

يا أكثري وأقلّي

 

أحبّكَ البعضُ منّي

وقد ذهبتَ بكُلّي

 

يا كلَّ كلّي فكُن لي

إن لم تكُن لي فمَن لي

 

يا كلَّ كلّي وأهلي

عند انقطاعي وذُلّي

 

ما لي سوى الروحِ خُذْها

والروحُ جُهْدُ المُقلِّ”.

فهل نلتفتُ إلى مَقام الحلاّج ونُعيد طبع ما هو متوفّر من أعماله وبعض ما كُتب عنه من دراسات وأبحاث لدينا وفي الغرب، وكم نأمل أن نرى مكتبةً عامّة تليق بمَقامه بحيث يُمكن للناس ارتيادها، تخليداً لقامته الشامخة وللجدل في عصره.

 ***

(*) أديب وأكاديمي عراقي

*)) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *