الشاعر “جاكوتيه” والامّحاء لتجديد الّلمعان

Views: 304

مبارك حسني*

قبل شهور، ترجّل عن سنّ الخامسة والتسعين، هو الذي قضى حياةً ناهزت القرن، بدأت في “مودون” في سويسرا في العام 1925، وانتهت في منطقة “الدروم” في قرية “كرينيان” الفرنسيّة، التي تحيط بها الجبال من كلّ صوب، وقد اختارها الشاعر فيليب جاكوتيه مقرّاً لإقامته الدائمة قبل حوالى سبعين عاماً؛ كانت بمثابة أرض انبعاث، أي بمثابة مسقط رأسه الشعريّ، كما الحياتيّ في البُعد الوجوديّ، إذ يسنده الفعل الواقعيّ. هذا الفعل وذاك الواقع مُقترنان، وبنسبةٍ مُتبادَلة، في عُمق هذه الطبيعة المُختارة، بعيداً عن صخب الشعراء المدينيّين، وعن الشعر برائحة الأدخنة؛ حيث رَسَمَ شاعرنا سؤاله الشعريّ عمّا يتخفّى خلفهما.

يقول جاكوتيه في أحد أشهر دواوينه الأولى، “جَولات تحت الأشجار”: “عندما يصيرُ جبل الفانتو بخاراً لا غير، يصيرُ هو ذاته، بالكاد لا شيئاً، علامةً فحسبُ، تشيرُ إلى ما هو أبعد، إلى آخر جزءٍ محسوسٍ على البسيطة”.

هي الطبيعة منذ البدء مجال تجربته الشعريّة التي قرّر أن تكون بدمغة “الإمّحاء في سبيل تجديد اللّمعان” في العشرين من عمره. وذلك حين أَعلن دخوله الشعري الصارخ بديوانٍ صغير هو “الغراب” في العام 1953، ويا لها من بداية. يقول:

“اللّيلُ مدينةٌ شاسعةٌ في حضنِ النومِ… حيث الريحُ تصفرُ… وهي قادمة

لتحلّ في ملجأ هذا السرير. هو منتصفُ ليل حزيران.

أنتِ تنامين. وأنا أَتوا بي إلى هذه الحوافي اللّامتناهية،

الريحُ ترجّ شجرة الجوز. يصلُ هذا النداء

الذي يقترب وينسحب، لكأنّه

لمعةُ ضوءٍ تفرّ عبر الغابة أو هي

الظلال تحوم كدائرة، على ما يبدو، في الجحيم.

(هذا النداءُ الصادحُ في اللّيلِ، كمٌّ من الكلام،

يُمكنني قوله عنه وعن عينَيك…؟) لكن مَن يُنادينا

من العمق، ليس سوى طائرٍ اسمه الغراب

في غابات هذه الضواحي. وها هي رائحتنا

لها ملمس الزَنخ مع صعود الفجر

وها هي العظام تثقبُ جلد بشرتنا الساخن

في حين تضوي النجوم في زوايا الأزقّة”.

هي القصيدة/ المدخل لعالَمٍ شعريّ، امتدّ لعقودٍ بلا توقّف. الشعر الهشّ والعابر، شعر التفلُّت، والمستمرّ في الزوايا، شعر المأساة في الهمسات فـ “هذه الأدخنة في السماء أكثر تجذّراً منّا”، شعر القليل من الوضوح المُنعّم واللّوحات المُضيئة، حيث الجبال تميد وتميل، والسُحب تتوقّف وترسو. شاعرُ الصمت، مَن يدخلُ الغرفةَ لكي “يُعيد إليها بعضَ النظام”. كلّ ذلك من أجل أن تمنحه العاطفةُ المُستنيرة بالشعر، تلك المسافةَ التي تسمح بتلمُّس أساس الواقع، حيث حقيقة الشيء تكمن في العالَم، بصور مُنتقاة، خالصة، لا زوائدَ فيها؛ صافية مثل البلّور النقيّ، وذلك عبر المحسوس والمُدرَك في الآن ذاته، وفي علاقة تماس متموّجة، يتمّ القولُ فيها بشكلٍ تقريبي، وهكذا تؤكّد قوّةَ التقاطه المُتفرِّدة.

الشعر لديه إنصاتٌ: “لكلّ مَن يعتبر كتابة الشعر وقراءته والحضّ على قراءته فتحاً لحوار يتغيّأ أن يكون حقيقيّاً، ما أمكنه ذلك، في عالم يُهَوِّيه هذا الشاعر”. هو الشعر رديفُ الهواء، يملأ الفضاء بنفحاته، فيزيح من اللّغة ما لا يقول كلّ شيء، إذ، لا تمكّن هناك من قولِ كلّ شيء. وما لا يُعين على الصمود لمزيد من الحياة في “عالَم نشأ إثر تمزّق”. الأصل عند فيليب جاكوتيه هو خرقٌ لـ “ذات الزمن”، لذا نراه لا يُناوِر في مُحاولةٍ للبحث عن حقيقة مزيّفة. الحزن العميق ليس موازياً لفقدان الأمل، للاستسلام. ضدّ العدميّة والانتصار الكاذب معاً، هذه “الغنائيّة المغلّفة بالضباب”.

الوسيلة هي: مُجاوَرة الطبيعة لاستلهام المَثل، تعقُّب الأنوار في مرامي السلوك، وتعالق الفصول وحجاب الزمن “في الآونات من السنة، تلك الأكثر رقّةً والأكثر حدّةً”، ووشوشات اللّيل وبوحه غير المطروق، إلّا لما بين الّلمعة والإحساس بها. شعرٌ ببساطة القاموس المنثور في ما حول الوجود، حيث يقع النظر والذي تمسكه يدُ الخيال. لا تغورُ الصور سوى في ذلك الذي يقترب من القلب وغير متمنّعٍ على العقل. إنّها البساطة، فحالما تركبُ متن اللّغة تصيرُ استحالة عظمى بقدرتها على خلق الرعشة العميقة في الذات لحظة القراءة، وهو ما يُعطي شعراً لا يسيل من المعرفة، بل من الانتباه إلى ما يُمليه الوجود أمام الشعور وإزاء النظر البسيط.

“لم أُعد أرجو سوى إبعاد

ما يفصلنا عن الصفاء،

إخلاء المكان فقط

للطيبة المُحتقرة.

أصغي للرجال العجزة

الذين توافقوا والأيّام

أتعلّم الصبرَ عند أقدامهم:

أنا أسوأ تلاميذهم”.

هكذا، يتلقّى الشاعر الذي وصف نفسه في ذاتِ عنوانٍ لديوانٍ معروف بـ “الأُمّي”، العِلمَ المباشرَ لا المعرفة، من ثنايا المعيش. وما على الكلام إلّا أن يتقّفى الأثر بكلّ تواضعٍ. لكن من دون السقوط في المُسايرة المُحايِدة، بل بجني لبّ ما يوحى به. لأنّ “الصعوبة ليست في الكتابة في حدّ ذاتها، ولكن في العيش بطريقة تجعل المكتوب ينبع بشكلٍ طبيعي. هذا الأمر مستحيلٌ اليوم؛ لكنّني لا أعرف طريقة أخرى غير هذه: أن يكون الشعر كازدهار، كبزوغ أزهار، أو لا شيء البتّة. ولا يوجد على الأرض فنّ يُمكنه أن يُخفي هذا اللّاشيء”، يقول في كتابة النثري الأشهر “نثر البذور” Semaison.

المذكّرات والأفكار الطائرة

نعم، كان له أثرٌ نثريّ غزير، أغلبه تخيّر له النوع الأدبي الموسوم بالشذري، أيّ الكتابة التأمّليّة، والمبنيّة على تدوين مذكّرات وأفكار وتعابير مُلتقطة مع مرور الأيّام، وفي الإقامات، وفي لحظات لا شعر فيها، في قرية غرينيان بخاصّة. هنا يأخذ النثري مجرى السريان الشعري، لا لكي يتعالى عليه أو يحلّ محلّه، ولكن لكي يتجاورا في تناغمٍ مُتبادَل، ما دام الشعر يوجد أصلاً في كلّ نصّ مُبدِع مهما كانت طبيعته. لكنّه لدى الشاعر يسمو عالياً “لا شعر من دون علوّ”، ويبوح بما يعتمل في ثناياه من أسرارٍ ودُررٍ تفتح كوىً مشعّة عن الإنسان والوجود والحياة. يقول: “الماء نورٌ يغور عميقاً في الأرض” أو “التعلّق بالذّات يقوّي من العتامة”. من خلال هذه الالتمعات المُشرقة، تنهض الحقائق لتُعلن عمّا لم نره من قبل أو ما خفي عنّا في غفلةٍ منّا.

هنا في الإقامات المُختلفة، وفي كلّ مجالات العبور، كان يلقي جسور اللّقاء والأدب والشعر في مدينة باريس، حيث كانت تُنشر كُتبه. ولأنّ السكن في البعد اختاره كمجال للامّحاء الاضطّراري، كان عليه أن ينهل قوت يَومه، من الكتابة المعيشيّة، أيّ النقد الأدبي في الصحف والترجمة العالية، التي ما تفتأ تتضمّخ بقوّته الشعريّة. فكان مترجِماً من طرازٍ رفيع، وناقداً حصيفاً، وهو ما يُمكن الاطّلاع عليه في كِتابه الألمعي “كتابات لورق جرائد”. يقول الناقد الأدبي فيليب كيشييان في صحيفة “لوموند” غداة وفاة الشاعر في شهر شباط/ فبراير الفائت: “لقد كَتَبَ بحسب متطلّبات مدرسة النقد في جنيف التي تُزاوِج بين سرعة البديهة والإلهام”. هي أخلاقيّاتٌ نقديّة لا تقبل المُقارَبة العموديّة للأعمال الأدبيّة، بل تنطلق منها وممّا تقترحه بخلْقِ حوارٍ نقدي، يحضر فيه الشاعر الذي يعرف قيمة الكلمة وقيمة الصورة حين ينسجان نصّاً إبداعيّاً يدّعي التميُّز.

الجانب النقدي لديه لا يقلّ قوّةً وتجديداً وإبداعاً عن فرادته الشعريّة، بينما مذكّراته هي ميزة إبداعه الثانية. كانت ذكيّة ونافِذة جدّاً؛ فيها لمسةُ الشاعر التي تُلاحَظ في كلّ مرّة وفي كلّ كِتاب. هذا الشعر الذي نَعَتَه في العام 1955 بـ “كلمة مرور يحوزها الفقراء، والمنعزلون، وهُم يرتدون زيّ كلّ الأيّام”، ينتقل إلى نثرٍ لا يفقد مَلمس الشعر. وهو ما حدّده بنفسه حين اختار ضَمَّن مذكراته آراءً في كِبار الشعراء، فهو يفضّل مثلاً مقطعاً كهذا: “رؤية عشبة في نور عكسي، في بداية بزوغها، بكثافة هشّة، مُنتصِبة ورهيفة، كأنّها شفّافة، قيثارة هارب.. أو وجودها بالقرب من الأرض، تُشبه قيثارة “سمسميّة” في هذه الحالة… وذلك لإسماع نور المساء المُذّهب، في نفثات الريح الباردة منذ حين”. ليس الشعر بِناءً عن لغة صوريّة بليغة كهذه.

النور يؤسِّس العالَم لدى فيليب جاكوتيه، لا بما يُضيئه، ولكن بما يُخفيه من ظلال. يحملُ أحد كتبه عنواناً “والحبر لن يتشكّل إلّا من الظلِّ”. بعبارة أخرى هو بحث عن الغائب، عن الغياب، في صخب العالَم. وهو الكِتاب الذي ضمّ فيه أنطولوجيا شعريّة لأكثر من خمسين سنة، وهو عبارة عن خلاصة تجربة شعريّة مُنتقاة بعناية. يقول: “كمال الرقّة يتجلّى هناك بعيداً/ عند حدود الجبال والهواء:/ مسافة، امتداد شرارة/ تُمزِّق، تَصقُل”.

 ***

(*) كاتب ومُترجم مغربي

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *