سجلوا عندكم

“رحبه”

Views: 1190

د. جان توما

بعد خمس وخمسين سنة عدت إلى بلدة “رحبه” في عكار. رحت أبحث عن السيدة الجارة في الميناء التي كانت تصطحبنا صغارًا لقضاء أيام صيفيّة في قريتها العكاريّة.

كل ما أتذكّره نبع الماء الذي كنّا نطوف في بركة مائه، ونغسل وجوهنا وأرجلنا هناك. دلّني أحدهم إلى موقع النبع. سرت إليه مشيّا متأملًّا المفارق والمنعطفات فلم أجدها. شقّ الطريق السريع تلك الأزقة القديمة.

وصلت ساحة النبع فلم أَرَه. وجدت ترتيبات معماريّة جديدة، ولم أقع على يوميات طفولتي هنا. لم أغسل وجهي ولم أمسّ الماء النازل، كي لا أفقد نضارة تلك الأيام الخوالي.

سألت أهل الجوار عن حيّ البيت القديم حيث كانت تقع ساقيّة يجري فيها الماء إلى البساتين المجاورة للسقيّ. كلّ ما أعرفه أنّ البيت الذي كنّا ننزل فيه كان قرب العين. دلّني أحدهم إلى ما بقي من سواقٍ ، فمشيت في تلك المنعطفات وكدت استسلم لولا أني فوجئت ببعض درجات سلّم بيت يشبه ذاك الذي كنا نلهو عليها أطفالًا.

اقتربت من المدخل،  لمحت وجهي سيدتين ورجل مسنّ. كأنّ ماء الساقية أنعشت الذاكرة. ذكرت لهم اسمي ففرحوا،  لأنّ أمّهما، منذ أربعين سنة،  كانت تخبرهم دائما عن صيفيتنا عندها. إنّه الزوج  وابنتاها، أمّا هي فقد رحلت منذ سنتين مع تلك الطيور التي كانت تنزل على تلّة “الضهر”.

أخبروني عن تلك التلّة التي كانت جلول عنبها وتينها ملاعبنا في طفولتنا قد تحوّلت إلى أبنية وفيلات. استعدت بفرح بعض طفولتي، ولم أقوَ على زيارة المربع الريفيّ القديم الذي  افترشت ليلا سطحه تحت دالية العنب، ولم أقوَ على مواجهة عمران تلّة “الضهر”.

التفت إلى ما تبقّى من ساقية ماء أمام الباب، رأيت الماضي ينحني ليشرب، فاخذتني الساقية إلى ذاك النبع الذي تفجّر حياة وذكريات في البال والخاطر.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *