في رحلة البحث عن المدينة الفاضلة

Views: 460

أنطوان يزبك

 

“الأرض برمتها موطن الإنسان الأبيّ” (يوريبيدس).

 

وقف مسافر بباب مدينة وصلها عند العصر، فألفى رجلا جالسًا بالباب وكأنه يحرسه فسأل المسافر الرجل:

-هل بإمكانك أن تحصي عدد الاغبياء في هذه المدينة!؟

أجابه الرجل:

-هذا أمر صعب، ولكن أستطيع أن أحصي عدد الحكماء والعلماء والعقلاء وهذا أمر أسلم، ولك أن تستنتج…

فقال المسافر في سريرته:

-يبدو انني وقعت على رجل حكيم ومفكر.

هكذا نحن، نطوي العمر في بحث مضني عن مدن يسكنها الحكماء، أو مدن فاضلة يسود فيها القانون والمنطق فلا نجد.

مدن من الدعة والوداعة وحكم القانون والفضيلة هل ثمة وجود لها؟!

في بداية عصر الحداثة، لفتت مفاهيم الواقعية الحديثة مفكرين كثرًا إلى أهمية المدينة وما تمثل في شرعة القانون، حتى باتت عنوانًا دسمًا، لكن إعادة النظر في الطرح الأفلاطوني من زاوية الحداثة الجديدة، لا يخلو من تعقيدات وحتى استحالة.

في خضم البحث والاستدلال على مصطلحات جديدة، تتسع الدلالات، وتتبدل التصورات في عهدة المجتمع المركوز على بنى جديدة،حيث الحلم هو السائد، واليوطوبيا سيدة الموقف.

 

نحو حكومة عالمية

في مؤلفه الرائع  The great experiment (2008) يدعو ستروب تالبوت إلى قيام حكومة عالمية ، تدير شؤون بلدان العالم برعاية الأمم المتحدة .

في هذا الكتاب؛ التجربة الكبرى: قصة الامبراطوريات القديمة والدولة الحديثة والسعي  إلى الأمة العالمية. يعتبر الكاتب أن المنظمة الدولية هي بمثابة الهدف الذي يسعى إليه الإنسان منذ بدأت القبائل تشكل دولا، ثم سعت الدول إلى بديل عن الفوضى الدولية .

يرى تالبوت أن العقبة الكبرى أمام قيام النظام العالمي الجديد الذي يدعو إليه، ليست سوى الولايات المتحدة الأميركية، هذه الدولة التي تدعو إلى الحريات والديموقراطية في كل مكان من العالم، وقد شهد شاهد من أهلها..

أدرك هذا المفكر السياسي أن في الحضارة الحديثة استحالة كبرى تقف حجر عثرة في طريق اتحاد الشعوب أو على الأقل في وجه عملها معًا يدًا بيد، من أجل سعادة الإنسان ووحدته مع أخيه الإنسان، في مواجهة تحديات الوجود وصعوبات الحياة المتفاقمة!!..

في تحدي الثورات ومشاريع المساواة

في معرض الكلام على مشروع البحث عن المدينة الفاضلة، إشارة إلى أن لينين قال سنة 1917: “سوف يصير المجتمع برمته مكتبًا عملاقًا واحدًا ومعه المصنع اللامتناهي في الكبر، تسود فيه المساواة في العمل وكذلك المساواة في الأجور…

بعد عقدين من الزمن أي سنة 1937 اعتبر تروتسكي “أن في بلد حيث الدولة رب العمل الوحيد، كل معارضة حتما سوف تكون ميتة بسبب التجويع”.

المبدأ القديم “الذي لا يعمل لا يأكل” سوف يستبدل بالمبدأ الجديد “الذي لا يطيع لا يأكل”…

من هنا يبدو جليا أن الطريق الى الفضيلة المجتمعية لا يزال وعرا ولم تعبده الأفكار المتقدمة المتطورة،على الأقل في ما يخص مجتمعنا اليوم؛ فلم يعد زمنا تصلح فيه علوم المنطق والعقل والتقدم، خصوصاً أن البشر قلقون على مصيرهم ولا قدرة لهم على التخطيط…

 

أرسطو والسياسة العقلانية

أرسطو من أوائل الفلاسفة الذين اشتغلوا  في مبادئ إرساء سياسية عقلانية لحماية مصالح الشعب، قوامها منطق القانون المجتمعي الذي بدونه تسقط كل المدن والحواضر، مهما علا شأنها، ويقول في هذا الصدد: “في حالاته الفضلى يكون الإنسان أسمى المخلوقات، ولكنه من دون القانون يصبح أسوأ هذه المخلوقات”…

مهد أرسطو الطريق الحقيقي لقيام المدينة الفاضلة القائمة على القانون الذي يرعى مصالح الناس. في ظل حكام كالضياغم لا هم لهم سوى افتراس العباد وخيرات الأرض… كيف تقوم هكذا مدن وكيف يطبق فيها القانون؟

مشروع للسلام الدائم

لا شك أن ارسطو عبد الطريق أمام مفكرين كثر ومن هؤلاء ايمانويل كانط، الذي ألف كتيبا عنوانه: “مشروع للسلام الدائم”، من المفترض بالحكومات أن تنفذ مضمونه كي لا تندلع الحروب في المستقبل نتيجة لنوايا مبيتة، وعليه من المعمول به أن يتم الغاء الجيوش على مر الزمان بشكل كامل، ومن المفترض أن لا تتدخل الدول في شؤون بعضها البعض.

لكن رب سائل: مع كل وعي كانط وعقلانيته ،هل نستطيع أن نقول إن طرحه عقلاني؟!

  ما يقوله لا يعدو أضغاث أحلام في منطقنا الحاضر، إذ يبدو مشروعه أوطوبيًا، خياليا  لا بل طفوليا بحتًا.

يقول كانط: “يكون الإنسان مذنبا في نظر القانون،عندما ينتهك حقوق الآخرين، أما في الأخلاق فيكون مذنبًا  اذا فكر فقط في عمل ذلك”.

صوّر كانط القانون كفعل عبادة ، وجعله فريضة كما في قول السيد المسيح في الانجيل إن من اشتهى في الفكر امرأة جاره يكون قد زنى بها. كذلك اعتبر كانط أن من يفكر بخرق القانون في تفكيره يكون مذنبا أشد الذنب، فلماذا كل هذه الطوباوية ؟ أم أنه لم يكن ليتخيل ما ستصير إليه أوضاع البشر من إمعان في الوحشية والتقتيل.

لربما اعتبر كانط أن الإنسان كلما  طوى العصور كلما  تقدم وتطور  وصار متمدنًا متعاليا عن المادة، لكن شيئًا من ذلك لم يحصل!!.. ويبدو أن طوباوية المفكرين والمثقفين والفلاسفة وحتى الرسل والأنبياء لا تزال في واد وحقيقة البشر في واد آخر..

 

نيتشه وحقيقة البشر

في طبيعة البشر تنمو بذور التدمير الشامل ويخضعون لقانون البشاعة والتشويه ورفض الآخر المختلف، ويعجز كثر عن  الترقي وإدراك سلوك المسالمة تمهيدًا لتأسيس المدن الفاضلة، في هذا المجال يقول فردريك نيتشه: “الرعاع اعتنقوا معتقداتهم  من دون براهين، فكيف يمكنك أن تقنعهم بزيفها من خلال البراهين؟

إن الاقناع في سوق الرعاع لا يقوم الا على نبرات الصوت وحركات الجسد،اما البراهين فتثير نفورهم.!!”.

نحن نعيش في عالم يبدو فيه الاقناع والبرهان مثل خيالات واهية متلاشية بينما الصخب والضجيج واللامنطق هي أسياد الساحات، والمدن الفاضلة لا تني تتحول الى سراب كبير في صحارى حضارات بائدة…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *