سحر المكان
د. قصي الحسين
(استاذ في الجامعة اللبنانية)
ينبغي لنا أولا، أن نضع الأمور ضمن سياقاتها، لكي نفهم سبب الهزة الروحية، الهزة النفسية، الهزة الكيانية، التي أحدثها إنفجار مرفأ بيروت، عشية الرابع من آب2020، بل إنفجار بيروت، المدينة/ مأوى الشعراء والعشاق. عنيت عشاق الفنون. كل فنون العيش والحياة.
يجب إذا، أن نمايز بين مساق العاشق، ومساق الشعر الذي يرسم المكان الذي يجمع بين السياقين، بين المسارين، في وحدة نفسية عظيمة، تجعل الروح تحلق في سحر المكان.
مسألة سحر المكان، في ديوان الشاعرة ميشلين مبارك، محسوم. لأنه بيروت. ( أنا.. بيروت: منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي) تقديم نعيم تلحوق- بيروت2021 ، ط١: 98 ص). فمن لا يزور بيروت، ولا يصاب بمسها. لا يصاب بمس الشعر، لا يصاب بمس المكان، لسحره، لشعريته، على حد سواء.
لا تشذ الشاعرة ميشلين مبارك عن جيل الشعراء الشباب، ولا عن جيل الشعراء الآخرين ، مهما إختلفت أعمارهم، ومهما إختلفت أنواعهم، ومهما إختلفوا في الهويات، عن عشق بيروت. مرد ذلك برأيي، لسحر المكان: المدينة المسحورة، قبل أن تكون ساحرة، لأنها كانت “قنديل علاء الدين” على شاطئ المتوسط، منذ قديم الزمان. فما عرفها أنسي ولا جني، إلا وإلتمس السحر للسكن فيها، إذا لم يبق له من سبيل غير السحر للسكن فيها. إلا وإلتمس السحر، ليجعل حوضها/ مرفأها، عقدا في عنقه، ويحارب به، دفاعا عنها. دفاعا عن حضوره الكياني، في المكان السحري. تقول في قصيدتها، في مفتتح ديوانها: (أنا.. بيروت):
“أنا تلك المدينة/ المبللة بالحزن/ الهاربة من عبودية الحب/ أحرر الليل من الأبواب الموصدة/ وأكتب القصائد الشريدة على جدران الذكريات… / حرفك الصامت يا شعبي/ أزرعه في دروب تحتفل بالضوء/ نحن نتقاسم جسور الماء والهواء/ أسكنك وتسكنيني… / والأفق ينظر إلينا غير مبال/ تعال نحرك الوقت عند بزوغ الدمع/….”
ثم تقول:
“صدى صراخ الأمواج في صدري/… تعال نحرك الوقت عند بزوغ الدمع.”(ص 13-14).
فعلى الرغم من وجود “الأنا العليا” المسكونة ببيروت، فإن الشاعرة ميشلين، ترى فيها الوطن والأهل والأمواج والأجيال. وهي تريد أن تدخل في عناق مستدام معها، لأنها بذلك تفضي إلى الإزدحام بالشوق، الذي يقوده السحر، إلى المكان الساحر. إلى المكان المسحور، إلى سحر المكان. نستمع إليها تقول في قصيدة أخرى من قصائدها المشبوبة بعاطفة الشباب(الأرض القيامة):
الأرض صارت جنينا/ نسي الوقت أن يخيط الأحلام/ نما النرجس البري على جدار الحكايات/ الغبار تحول إلى خطايا بيضاء/ تعالت الأصوات مبهمة/ ونامت الشمس باكرا…/ شب حريق الزمن…/ تدحرج الحجر…/ صارت الأرض قيامة.. (ص24- 25).
لا تخفي الشاعرة عشقها لبيروت، حفظت لها إهداءها: ” إلى بيروت/ أنتمي إلى الروح التي تشرق من النور/ إلى القيامة التي تزهر بعد الدمع/ إلى الريح التي تسافر في الحب/ أنا زهرة تعلمت أن تنبت في كل الفصول…”.
ليس بعيدا من ذلك، يرى الشاعر نعيم تلحوق في مقدمته للديوان، أن بيروت/ أن ميشلين، هي “إمرأة القلق الدائم…” “تحتار بنفسها، كيف سيخرج العالم إليها بعد حين”. ويضيف في مكان آخر: “إبنة العائلة الروحية ل”شهرياد”، تقول ل” شهريارها”، نحن واحد في الحب والحياة”. ويختم تلحوق: “نصوص ميشلين تشعل أمنية في فضاء الأغنيات”.( ص10).
تمثل جماليات الشعر عند ميشلين، قبل أن تكون الصفة المميزة لشعرها، معطى أساسيا لملكة الحساسية لديها، كأمرأة قلقة، كذا وصفها الشاعر نعيم تلحوق، وذلك إنطلاقا من الإحساس والشعور، اللذين يأتيانا من الأشكال والألوان والأصوات السحرية، وكذلك من السرديات والمشاهد والأفكار الممسوسة، حين نراها، تقف على المكان الذي مسه الحب. ومثل ذلك يثير فينا شعورا عظيما باللذة والإعجاب، سرعان ما يتحول إلى تعجب وإلى سعادة، عندما يشتد. وهذا ما كان ليتم لديها لولا أن عملها الشعري، كان عندها، خلاصة طبيعية لمشهد طبيعي مسحور.
فالشعور يصعب تعريفه، بإختلاف ظروفه. ومن هنا إستاطعت ميشلين أن تمنحنا رؤية السماء المرصعة بالنجوم، وكذلك غروب الشمس في بحر بيروت، وصعود القمر في الليلة الساحرة، وقمة ثلجية في قلب، هو أكثر من قالب من النار. فسحر المكان يقلب الحقائق، ويرينا ما لا يرى في العيان، وإنما، من خلال الشعور السحري الجمالي، الذي يشكل بطبيعته، أديم المكان. نستمع إليها تقول في قصيدة “ثورة”:
… طقوسا للثورة/ أحزانا إنفجرت بحرا/ ألوانا رسمت زرقة عينيك وأنت في قمة الغضب/ مشرقا في غضبك/ إقتربت منك/ حريتي في يدي/ وقبلة تتردد فوق موكب الأحلام/… كل أيام السابع عشر من تشرين الأول/ ستذكرني بك. (ص35-36).
لا يثار الشعور بالجمال والإنفعال الجمالي عند ميشلين، بواسطة مقطعاتها الشعرية، إلا على أساس من المكان. من المشاهد. من المناظر الطبيعية. من رؤية الزهور، ومن رؤيةتحليق النجوم والطيور والغيمات، وركض الخيول وألوان الفراشات. لأن الشعور الجمالي عندها، عام جدا. فهي شاعرة منفتحة على سحر الطبيعة. على سحر المكان. حتى لكأن الإنفعال الجمالي لديها، يكاد يمنحها صفة شعرية في سحره. وتصير عندها، كلمة الشعر أوسع معنى من معنى القصيدة المكتوبة، وذلك لمس أصابها، عندما تخلو بالمكان المسحور. نستمع إليها تقول في ” أكتب لأحيا”: أنا اكتب لأنجو من الغرق في الظل. وخشبة نجاتي هي المعنى…. ربما يلتبس علينا الأمر بأن المعنى يكمن في الورق والحبر فقط. لا. لأن من يصادق المعنى، يكون من أبناء الغد. لذلك أقول بأن “المعنى ينضح بما فيه”. كأن الشاعرة تريد أن تقول: “الإناء ينضح بما فيه”. هي لم تقل ذلك لسحر إناء علاء الدين. وأما أنا فأرى، أن المكان، أن بيروت أن الثورة، أن الحب. أن سحر المكان، إنما هو يضج عندها بالمعاني. يضج بالمعنى.( ص85- 86). وتوجز الشاعرة ميشلين مبارك، فتقول:
” ها أنا صابرة. أقف في الظل. أبحث عن المعنى بحريتي التامة، علني أعبر إلى الضفة الأخرى”( ص91).