أنا بيروت … أنا ميشلين

Views: 790

د. بشير عريعر

أنا بيروت ، هكذا تعنون الشاعرة ميشلين مبارك ديوانها الشعري، الصادر عن منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي، وبذلك اختصرت أوجه الموازنة بينها بوصفها أنثى ، وبين بيروت حورية مياه المتوسط ، وعروس الشرق ، وهكذا يبدو الإهداء لي أيضاً ” إلى بيروت” ، كأنها تقول : إلى الأنثى بيروت إلى ميشلين، ومثل هذا نصها الشعري الأولى الذي يُفتتح به الديوان :

أنا تلك المدينة المبللة بالحزن

هذه الجملة الشعرية الرائدة ، تختصر عظم الانتماء ، والاندماج الروحي والعاطفي ، بين المدينة المكان بكل ما تحمله من أسى الحروب ، ولواعج الشتات ، وبين المرأة بكينونتها وعواطفها وهواجسها وأحلامها ، فلا فرق بين المدينة المكان ، وبين المرأة ميشلين ، فقد تماهت معها ، فكل ما تهجس به بيروت ، هو ذاته ما تهجس به الشاعرة ، كأنها إن خاطبتْ بيروت ، خاطبت الأنثى ، فلم تعد بيروت هذه الجغرافية العابقة بصدى أصوات السفن الماخرة عباب المتوسط ، والمجدلة بضفائر شجر الأرز كتلاً من البناء الهندسي ، بل روح أنثوية ” إن داعبتها الريح تنكسر” وقد صرحت بذلك قائلة ” إن انتمائي إلى الأرض ، إلى بيروت ، ليس انتماءً مكانياً ، بل هو انتماء إلى الأصالة ‘إلى الروح الساكنة في النور إلى الحرية المنتفضة من رحم الأحداث حتى أصبحت بيروت أنا”.

 

كانت الشاعرة واعية الوعي كله إلى اختصار البلاد لبنان بعاصمتها بيروت ، فدلالة اللفظ ” بيريتوس ” في اليونانية القديمة ، والصنوبر بالمعنى السامي ، أو حرش بيروت ، الشجرة فارعة الطول ، رقيقة الأوراق ، طويلة العمر ، والشاعرة لها مثل ما للشجرة من صفات البقاء والتجدد والمقاومة ، والنضارة  والجمال ، وهي إذ تخفي سر قوتها بجذورها الممتدة عميقاً عصية على القلع ، ومقامة للبقاء ، فبيروت التي تماهت مع الشاعرة ، حملت معاني الجمال والجلال والإخصاب والشموخ ، وهي وإن تعاور على قلع جذورها ، وتكسير أغصانها ، تملك سر بقائها الأزلي ؛ لأنها لا تحمل بذرة فنائها ، بل بذرة حياتها المتجددة ، وتوالدها الدائم ؛ ولأنها أنثى فلا يسبق  سيفها  العذل ، فقد عبّر خطابها الشعري لبديلها الموضوعي بيروت عن الحزين والباكي ، عن القديم سيد الأزمنة ، عن المكان ، عن الطقس ، إذ تحل لغة الإيحاء ؛ لتكون اللغة بألفاظها وعاء يحيل إلى ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه ، فيكون نص القارئ حاضراً ، تدفعه اللغة إلى استكشافه والسقوط في أتون معانيه ؛ فتتجلى بيروت سلاماً سماوياً ، وجنة أرضية ؛ لتعطيه من نفسها ، كما يعطي المسيح عليه السلام من نفسه آيات مباركات .

له

خفق الحروف

عصف الفكر

ووجه النور

اتكاء فلاح

على التعب المغسول بالمطر

وتيه أشرعة

لمراكب محملة بالقصائد

له

خبز الصباح

والشاعرة إذ تأسى على ابناء وطنها ، تحاول أن تبعث فيهم  روح الثورة من رماد الهزيمة والدمع ، كيف لا وبيروت ابنة الفينيق الذي ينبعث من رماد محرقته فينيق آخر؟ :

تعال نحرك الوقت عند بزوغ الدمع

فرمال الجوع متحركة .. متشابكة

والنجوم خائفة

وصدى صراخ الأمواج في صدري

إن لغة السلام التي تهيمن على نصوص الشاعرة ، هي لغة روح القدس ، وسيد السلام ، فتقفز من بين جملها الشعرية إمارات التجلي ” أرتقى ، إلى النور ، خبز الصباح ، خطايا ، صلوات ، قيامة ، القمح ” وغيرها ؛ ليكون الخطاب خطاباً معبأ بروح التضحية من أجل قيامة بيروت ، مثلما يقوم المسيح مبتدئاً حياته الممجدة ، تقوم بيروت المدينة والأنثى معاً ، فبيروت أزلية كونية مصطفاة على جغرافية الوجود كله .

إن من بين أصعب ما يواجهه الشاعر ، هو إيصال مقدار الألم والحب والمشاعر إلى متلقيه ، فنرى بعض الشعراء يتكلف الجملة الشعرية ، كأنه يتوسل القارئ ؛ لفهم مراميه الكامنة في مجازاته ، غير الشاعرة ميشلين صاحبة الجملة الشعرية العفوية السهلة التي تخرج بتلقائية تامة ، فتصل إلى المتلقي من دون حواجز فكرية ، أو متاهات تأويلية ، فجملها الشعرية لا تكلف القارئ تفكيكها ، وشرح معانيها ، بل هي متروكة إلى القارئ ؛ ليعيش مع المفردة لحظات فارقة ، فتسكت اللغة في حين يبرز المشهد المشبع بعطر الوطن الذي لا تُشم لهرائحة، لكن للمدينة لغة وهمس وتجلي ، للمدينة روح حاولت الشاعرة أن تجعل القارئ يتواصل معها ؛ لذلك تجد نصوصها الشعرية نصوصاً إنسانية ترتفع بك إلى السامي المتعالي غير المبتذل ، فكانت ميشلين  ” بيروت ” نصاً كونياً لا ينتهي ؛ لأنها تعي أن الوجود وجود أنثوي تملك قابلية تحريك مياهه الراكدة بكلمة واحدة ، تمثلت بالقصيدة التي لها سرّ هو ذاته سرّ المرأة ، وهي أن حاولت الذهاب بنا إلى إفشاء لواعج الحب ، تخونها المفردة ، فتعدل عن حبيبها إلى بديله الموضوعي الوطن ، وليس غير الوطن يمكن أن يحلّ في قلبها ، فهو الحبيب والصديق والثائر ، هو الأرض التي تجذرت في تربتها ، وتنسمت من هوائها ، وأكلت من رغيفها ، فلا يعدل حبه حب ، ولا يملأ قلبها حبيب غيرها :

له

عطر حبيبي

في أحلام صامته

ولم يقف شعر الشاعرة عند هذا الحد من تبني عنصر الإيحاء على حساب المفردة الشعرية ، فقد حضر اللون بدلالاته النفسية والعاطفية ؛ ليملأ ديوانها بهجة على الرغم من  الحزن البادي على تفاصيله ، وقد شكل الضوء والنور مصدراً من مصادر حتمية الانتصار ، والخروج إلى رحبة الحرية التي وجدتها في إشراقات بيروت، ونفساً متديناً يكشف عمق إيمانها العميق بمتبنياتهاالعقدية ، فقد شاع في شعرها التمجيد للنور والضوء ، على حساب الظلمة ما ينبئ بروح مؤمنة ، وطامحة إلى الحب والسلام ؛ ولأنها متعلقة بماضيها الجميل ، ماضي الطفولة ، فقد استحضرت اللون البنفسجي ؛ ليعبر لها عن ذلك الماضي :

بحت للبنفسج بسري

………

يزينني بمشاعر التمني

يمتعني ببدايات الصبا

هذا الرمز الذي يدل على الاعتدال والوضوح ، يمثل طيفاً طفولياً ، يعيد إلى الشاعرة ذاكرة الصبا ،وخيالها الذي  استدعاه ، فلا ينفع سرد تفاصيل ماضيها ، بقدر ما ترمز له بهذه الدلالة اللونية التي اختصرت كما هائلاً من المشاعر المتزاحمة ، وليس غير الشعر بقادر على تحريك آفاق الذاكرة عن طريق البدائل الموضوعية التي تمثل الكلمات أوعية لمعانيها المبهمة غير التفصيلية ، إنه الشعر الذي يمنح الألفاظ أرواحاً مسكونة بالحب والشغف ، وليس غير وعي الشاعر ، وأفقه الرحب ، وروحه العميقة بقادر على بعث الشعور لدى المتلقي بماهية الجملة الشعرية ، ومعناها الخبيء خلف مقاصدها اللفظية .

ومن الملامح الجديرة بالوقوف عليها ، استعمالها ضمير المتكلم بكثرة ، معلنة عن هويتها الأنثوية ، وماسكة بحبل المبادرة ، وكل خطاب ينطلق منها ، وهي إن منحت حبيبها كلمات الود ، وأعلنت عن حزنها بسبب ذلك الحب ، غير أن كل ما قالته ، لا يتعدى كونه تكهنات عرافة كانت المفارقة  إن الشاعرة ختمت نصها بعدم ثقتها بما تقول عرافتها ، وبذلك هي لم تؤمن بها يوماً ،فلم تجعل من نفسها جناحاً ضعيفاً ، يستخف بها الرجل ، فهي قادرة على خلق حياتها الخاصة ، وقدرتها الاستثنائية في التحكم بمشاعرها ،إلا إذا كان ذلك الحب خالصاً لوجه الوطن ؛ لذلك كان تشرين ” دلالة الثورة ” ، ذاكرة حب ، وذاكرة وطن ، وتشرين كان طريقاً إلى الماضي القريب الذي جسده الحبيب بصفته الشمولية ، فكل ما فيه صدى لهواجس الثورة ، وما هذا الحب الطاغي إلا تعبير عن مقدار الحب الأعمق لبيروت ، وربما كان هو بيروت نفسه .

تُعد الشاعرة ميشلين مباركة من الشاعرات اللائي منحن القصيدة العربية المعاصرة روحاً عصرية ، من غير أن تنسى متبنياتها الفكرية والثقافية، ومن الشاعرات اللائي عبّرن عن هواجسهن بلغة سهلة عفوية ، فكانت جملها الشعرية مستساغة لا ينفر القارئ منها ، ولا يحمل نفسه على فكّ مراميها ، فضلاً عن الفحوى الإيحائي الذي تعج به نصوصها الشعرية.            

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *