“المعرفة والمصلحة” لـ يورغن هابرماس: “كأن نتعلم السباحة قبل النزول إلى الماء” 

Views: 595

وفيق غريزي

من يتتبع سيرورة انحلال المعرفة، التي تترك مكانها لنظرية العلم، يتخطى مراحل متروكة من التأمل، وسوف يساعد اجتياز هذا الطريق ثانية من منظور يعود الى نقطة الانطلاق، لاستعادة التجربة المنسية للتأمل، وحيث ننكر التأمل تكون الوضعية. 

ينبغي أن يدعم تحليل العلاقة بين المعرفة والمصلحة الزعم بأن نقد المعرفة الراديكالي لا يمكن أن يكون الا كنظرية مجتمع، على أن هذه الفكرة متضمنة في النظرية الماركسية للمجتمع، وأن كان من العسير استخلاصها، سواء اكان ذلك لدى ماركس أم لدى التفهم الذاتي الماركسي، ولم نستقص العلاقة الموضوعية التي تحققت خلال التطور الفلسفي من هيغل الى نيتشة، وانما اقتصرنا على تتبع الافكار بصورة محايثة. هذه النهاية المنطقية تنتج، عن أننا فقط مقابل عدم التخصص نستطيع الاستباق الى نظرية مجتمع نريد أن نجد مدخلا اليها فقط عبر تأمل ذاتي للعلم، والآن نجونا الخطوة الاولى، ولهذا السبب لا يمكن للاستقصاء أن يتطلب اكثر من اهمية مقدمة. 

Jurgen-Habermas

 

نقد المعرفة وازمتها 

اذا أردنا اعادة بناء السجال الفلسفي للعصر الحديث على شكل مداولات تجري في محكمة، فان مثل هذا السجال من منظار هابرماس سيكون مدعوا لحسم السوءال الوحيد الآتي: “كيف يمكن أن نحصل عى معرفة موثوقة؟”. لقد صاغ القرن التاسع عشر مصطلح نظرية المعرفة للمرة الأولى، أما المسألة التي اطلق عليهاالعودة الى الماضي، فانها تمثل الفلسفة الحديثة بصورة اجمالية، حتى عتبة القرن التاسع عشر على اقل تعديل. ويقول هابرماس: “لقد توجّه الجهد الخاص للفكر العقلاني والتجريبي في وقت واحد نحو وضع ميتافيزيقي لعالم الموضوعات، ونحو التسويغ المنطقي – السيكولوجي لصدقية علو الطبيعة متميزة من خلال لغة محكمة ومن خلال التجربة “. وبطبيعة الحال فان الفيزياء الحديثة التي وحدت بصورة مستديمة وبنجاح تام بين صيغة الصرامة الرياضية وبين التجربة المسيطر عليها، ما اصبح مثالا يحتذى للمعرفة بجلائها التام، والحال كان تطابق العلم الحديث مع المعرفة أقل نجاحا بصورة اجمالية. ويمكن، حسب رأي هابرماس، تحديد موقع الفلسفة بالنسبة الى العلم في تلك الحقبة، بأن المعرفة الفلسفية اعترفت بمكان شرعي للعلم دونما جدال، ولم تقتصر نظريات المعرفة على شرح المعرفة المرتبطة بالعلوم التجريبية كما انها لم تنحل في نظريات العلم. 

لقد افرغ دور الفلسفة مقابل العلم الذي يمكن الاشارة اليه تحت اسم نظرية المعرفة، من مضمونه من خلال حركة الفكر الفلسفي ذاته، يقول هابرماس: “لقد وجدت نظرية المعرفة نفسها بمرور الزمن مضطرة على ان تتخلى عن موقعها لمنهج موثوق من قبل الفلسفة ذاتها، لان نظرية العلم التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر كإرث لنظرية المعرفة تحولت الى منهجية ممارسة في التفهم الذاتي لمجمل العلوم”. 

Immanuel Kant

 

نقد هيغل لكانط

لقد احل هيغل التأمل الذاتي الفينومونولوجي للروح محل نظرية المعرفة وفي مقدمة جفينومونولوجيا الروح نعثر على تلك الحجة التي تعود لتظهر مرارا في سياقات اخرى، ومؤداها أن الفلسفة النقدية تتطلب من الذات العارفة أن تتاكد من الشروط التي تتيح لها مبدئيا معرفة ممكنة، قبل ان تثق في الحقيقة بمعارفها المكتسبة. يقول هابرماس: “نحن لا نستطيع ان نختبر معارفنا فيما اذا كانت يقينية أم لا إلا بمساعدة معايير موثوقة تبين لنا مصداقية احكامنا. ولكن كيف يمكن استقصاء قدرة المعرفة نقديا قبل التعرف، خصوصا اذا كان هذا النقد ذاته يتطلب معرفة. المطلب هو الآتي:على المرء أن يتعرف على قدرة المعرفة قبل أن يتعرف على الشيء ذاته كمافي السباحة، على المرء أن يتعلم السباحة قبل أن يرمي نفسه في الماء. إن استقصاء قدرة المعرفة هو ذاته معرفة، “وهذه القدرة لا تستطيع الوصول الى ما تنبغي الوصول اليه لأنها هي ذاتها ذلك الشيءالذي تبتغيه” ولأن نظرية المعرفة بمطلبها في التحليل الذاتي والنهائي تدخل الى الساحة كإرث للفلسفة القديمة، فان استراتيجية البداية الخالية من الشروط غير قابلة للمساومة بالنسبة الى هذه النظرية، ومن هنا فإن هيغل يستطيع أن يمتدح راينهولد الذي تبصر أولا هذه الحلقة المفرغةالتي تدور فيها نظرية المعرفه، والقى في الوقت نفسه، حسب اعتقاد هابرماس، بالطريقة الاشكالية التي ينبغي أن تنطلق منها أصلا: تلك الرؤية الصحيحة لا تغير من طبيعة مثل هذه الطريقة، وانما تعبر عن عدم كفايتها.

Hegel

 

لقد كان على هيغل أن يجر وعيا خاطئا وينقلب ضد نفسه منطلقا من نقد النقد، هيغل يعتقد بهذا الصدد بان حجته لا تصيب فقط هذا الوعي، وانما المنطلق الخاص بنظرية المعرفة.

ويقول هيغل: “عندما يخلق القلق اثناءه الدخول في الخطاً حالة من انعدام الثقة في العلم الذي قدم الى غاياته ويتعرف فعلا دونما هذه الوساوس، عند ذلك لا يمكن ان نصرف النظر عن التساوًل: لماذا لا ينبغي ان ينشا انعدام ثقة في انعدام الثقة هذا ويحترز منه، ذلك أن الخوف من ان نخطىء، انماهو ذاته خطأً، في الواقع يشترط هذا الخوف شيئا ما او بعضا لحقيقة تستند اليه وساوسه ونتائجه وهو ما ينبغي أن يختبر مسبقا إن كان حقيقة أم لا”. 

ينتقد هيغل بحق الشروط غير المعترف بها في نظرية المعرفة، ويطالب برفع مطلب اخضاع هذه الشروط للنقد بالتوافق مع استراتيجية الشك الحتمية، وحجته في ذلك لا يمكن أن تحد من انعدام الثقة النقدي، أو من الصورة الحديثة للشك وإنما تضفي الراديكالية عليها، ويوًكد هابرماس أن نقد المعرفة يسمح لدى كانط باعطاء مفهوم تجريبي عن العلم في هيئة الفيزياء المعاصرة، ويكتسب بذلك المعايير الممكنة للعلم اجمالا. ويقول: “يشير هيغل الى ان نقد المعرفة الذي يتبع دونما تحفظ واحدا من مقاصده الخاصة، يجب عليه أن يسمح بانطلاق مقاييس النق من تجربة التامل “. هيغل يتوصل الى مفهوم العلم التأملي، لأنه لا يتصرف منطقيًا، وإنما يبني نسبية نقد المعرفة ضمن الشروط الخاصة بفلسفة الهوية. أمام هذا المعيار لا تستطيع العلوم التي تستخدم المناهج، سواء اكانت علوم الطبيعة أم علوم الروح أن تكون عقبات في وجه المعرفة المطلقة. 

Karl Marx

 

نظرية المعرفة – نظرية مجتمع:

يشتمل مفتاح التفسير الذي يقدمه كارل ماركس بالنسبة الى الفينومينولوجيا الروح على دليل عمل ما من اجل الترجمة الاداتية لمفاهيم الفلسفة التأملية. “تكمن العظمة في الفينومينولوجيا الهيغلية (نسبة الى هيغل) وفي نتيجتها النهائية ديالكتيك النفي، كما في المبدأ المحرك والمنتج، في أن هيغل يدرك الانتاج الذاتي للانسان كسيرورة، الموضعة، كموضعة مقابلة، كتخارج وتجاوز لهذا التخارج، ذلك انه يدرك جوهر العمل كما يدرك جوهر الانسان المادي الحقيقي، لأنه يدرك الانسان الفعلي، كنتيجة لعمله الخاص”. 

يختزل ماركس حدث التأمل الى مستوى الفعل الاداتي. فمن حيث أنه يرجع الخلق الذاتي الأنا المطلقة الى النتاج العياني للنوع، يقيم بدلا عنه التأمل اجمالا كشكل حركة للتاريخ في اطار مستديم للفلسفة التأملية، واعادة تفسير الفينومينولوجيا الهيغلية. تكشف النتائج المفارقة للتجويف المادي الذي تتعرض له  فلسفة الأنا لفخته. لا يتطابق فعل التملك مع الاستحضار التأملي للذات التي تقود هذا التأمل، عندما لا تتوافق الذات المالكة حصريا في لا أنا مع قطعة تنتجها الأنا، وإنما مع قطعة محسوبة من الطبيعة، فبالنسبة الى كل من ماركس وكانط يقول هابرماس: “كانط يمثل تقدم المعرفة الذي يضمنه المنهج معيارًا صحيًا لعمليتها، وماركس لا يقر هذا التقدم ببساطة، على انه حقيقي، بل يريد أن يعرف الى أي حد تدخل المعلومات الخاصة بالعلوم الطبيعية طبقا لمعناها من المعرفة المفيدة تقنيًا في دورة الانتاج”. لقد كان من الممكن شرح موقع الفلسفة بالنسبة الى العلم على هذا الاساس بصورة تفصيلية، الفلسفة متضمنة في العلم كنقد، اما نظريةالمجتمع التي تتطلب التأمل الذاتي لتاريخ النوع فانها لا تستطيع أن تنفي الفلسفة بهذه البساطة. وإرث الفلسفة في اعتقاد هابرماس كثيرا ما ينتقل الى الموقف النقدي الايديولوجي الذي يعين منهج التحليل العلمي ذاته، لكن خارج النقد لا يبقى للفلسفة أي حق. وبالقدر الذي يكون فيه علم الانسان نقدا معرفيا ماديًا تأخذ الفلسفة، التي جردت نفسها كنظرية معرفة محضة من كل المضامين، طريقها بصورة غير مباشرة الى الاسئلة المادية، لكنها كفلسفة يقع العلم الذي ارادت أن تكونه اسير الحكم المدمر للنقد.

friedrich-nietzsche

 

اختزال نيتشه لمصلحة المعرفة 

لقد فهم سيغموند فرويد علم الاجتماع بكونه علم نفس تطبيقي. وفي اعماله المتعلقة بنظرية المعرفة او الثقافة اقتربت محاولاته مما يقوم به عالم اجتماع، انها اسئلة التحليل النفسي التي دفعت به الى مجال نظرية المجتمع. 

ويشير هابرماس الى أن فرويد يستخدم المفهوم السابق للطبيعة والانحراف عندما يفهم اضطرابات التواصل واضطرابات السلوك، وكذلك اضطرابات الاعضاءعلى انها اعراض. 

“الا ان هذا المفهوم يتعين في الحقيقة ثقافيا، ولا يمكن أن يتحدد بالاشارة الى حالة ثابتة”. وها هو فرويد يقول: لقد تعرفنا على أن فصل المعيار النفسي الطبيعي عن الحالة غير الطبيعية إنما هو علميا غير قابل للتحقق، حيث أن هذا الفصل ليس له الا قيمة اصطلاحية على الرغم من اهميته العلمية”. وما يدعوه فرويد في تشخيصه بالعصاب الجمعي يتطلب استقصاء يتجاوز معايير اطار مؤسساتي معطر، ويضع نصب عينيه تاريخ التطور الثقافي للنوع البشري وبالتالي سيرورة الثقافة، واضافة الى ذلك ينبغي الاهتمام بمنظور تاريخ التطور من خلال تفكير مستفيض ينطلق فعلا من التحليل النفسي ذاته.

لقد ادرك فرويد المؤسسات من حيثياتها سلطة بادلت على الدوام عنفا خارجيا شديد الوطاًة مقابل قسر داخلي لتواصل معكوس ومحدد لذاته، وهذا القسر (يوضح هابرماس): “يفهم الموروث الثقافي طبقا لما هو مراقب دوما، واللاوعي الجمعي المتجه نحو الخارج، حيث توجه الرموز المحاصرة الدوافع المنشطرة بفعل التواصل، ولكن المدفوعة بلا توقف الى سبل الاشباع الاحتمالي. انها القوى التي تأسر الوعي بدلا من الخطر الخارجي والعقاب المباشر من حيث انها تضفي الشرعية على السلطة”. وهي تمثل في الوقت نفسه قوى الحكم التي يجب ان يحرر منها الوعي المأسور ايديولوجيا من خلال التأمل الذاتي، عندما تجعل قوة جديدة من قوى السيطرة على الطبيعة الشرعيات القديمة غير القابلة للتصديق. وبالمقابل ادرك فريدريك نيتشه العلاقة بين المعرفة والمصلحة، ولكنه اضفى عليها السيكولوجيا، وبذلك وضع اساسًا لانحلال ما بعد نقدي للمعرفة اجمالا، نيتشه اكمل الالغاء الذاتي لنظرية المعرفة التي اطلقها هيغل وتابعها ماركس. من حيث انها انكار ذاتي للتأمل. 

ويرى هابرماس أن اعتبارات نيتشه الخاصة بنظرية المعرفة الواسعة تنطلق ضمنيا من فرضيتين او وضعيتين اساسًا، مرة كان نيتشه على ثقة بأن نقد المعرفة التقليدي من كانط حتى شوبنهاور قد وضع لنفسه مطلبًا غير قابل النقد. يمكن ان يرفع القناع عن الشكل الحديث للشك بوصفه دوغمائية مقنعة ، كما يشارك نيتشه في مفهوم العلم، وحدها المعلومات التي تتماثل مع معايير نتائج العلوم التجريبية يحق لها ان تصلح كمعرفة بالمعنى الصارم، وبذلك يقام معيار ينخفض امامه الموروث بالكامل ويتحول الى ميثولوجيا، كما يدرك نيتشة ومن قبله اوغست كونت النتائج النقدية للتقدم العلمي التقني من حيث أنها تجاوز للميتافيزيقا، كما يدرك ماكس فيبر الذي جاء بعده أن “النتائج العملية لهذا الحدث من حيث أنه عقلنة للفعل ودحض لقوى الايمان التي توجه الفعل، يمكن للنظريات العلمية أن تضعف وطلب صدقية التفسيرا ت الموروثة والعائدة خفية الى البراكسيس، وذلك الى المدى الذي تكون فيه نقدية”.

نظرية المعرفة لدى نيتشه كما طرحها بهذه الحدة في الافوريسم تتألف من المحاولة التي ترمي الى ادراك الاطار المقولات للعلوم الطبيعية، ” مكان، زمان، حدث، مفهوم قانون السببية وقاعدةالتجربة العلمانية ( القياس )، وكذلك مثل قواعد المنطق وقواعد الحساب من حيث انها القبلية النسبية لعالم الظاهر الموضوعي، تلك التي انتجت لاهداف السيطرة على الطبيعة لحفظ الوجود. 

يقول هابرماس: “إن تاريخ انحلال المعرفة في المنهجية إنما هو تاريخ سابق للوضعية الجديدة. ونيتشه كتب فصلها الأخير، كعبقري التأمل الذي ينكر ذاته اطلق علاقة المعرفة والمصلحة بوقت واحد واساء تفسيرها تجريبيا”…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *