مصطفى الحلوة… قلم أديب وعين فيلسوف

Views: 15

مداخلة الدكتور جان توما- في حفل تكريم الدكتور مصطفى الحلوة من تنظميم منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافيّ. السبت 11 كانون الأول 2021- جامعة البلمند.

 

د. جان توما

مصطفى الحلوة يأتيك َكأفراحِ العيد. يجعلُكَ تستيقظُ باكرًا، تتفقّدُ ثيابَكَ الجديدةَ، تقيمُ طقوسَ الاحتفال، تفتح ُبابَكَ، هو منتظرُك قائلًا: اشتقتُكَ. يأخذُكَ بيدِكَ إلى مساحاتِ الفرح، ناقدًا، باشًا، عارفًا أنّ العيدَ لا يكتملُ إلّا ما بين كاتبٍ ونصٍّ وقارىءٍ ليصيرَ الثلاثةُ واحدًا ليجمّلَ بالذائقتَين الأدبيةِ والفلسفيةِ هذا العالمَ الجافَ، ويُحييهِ من بَعْدِ غيابْ، وانحباسِ مطرٍ ويبابْ.

يتوغّلُ مصطفى الحلوة في خاصرةِ النصِّ. يذهب إليه جرّاحًا وليس جارحًا. يتعاملُ مع الورقِ من بابِ علمِ أعصابِ النصِّ. (Ambien Generic) ففرداةُ مصطفى الحلوة قائمةٌ في مقاربتِهِ النصوصَ، وفي أنّه يذهبُ إليها كالطبيبِ الشرعيِّ، لا يَجِدُ أمامَهُ نصًّا هامدًا، بل نصًّا حيًّا. يحادثُهُ بصمتِ العارفينَ المستنيرينَ، يبحثُ في الأسبابِ والموجباتِ. يدخلُ في حوارٍ معَ الأحياءِ لا مع الموتى. مَنْ كانَ قادرًا على لمسِ الحواسِ، عِنْدَ العربِ، فهو آتٍ من وادي عَبْقَر، لكن المصطفى لا يعترفُ إلّا بقدومِهِ من مدينةٍ يسهرُ لها الليالي، بحثًا وتقميشًا وتمحيصًا، لاستمرارِ لَقَبِهَا كمدينةٍ للعلمِ والعلماء.

عَرَفْتُ مصطفى الحلوة  في دكاكينِ الوراقينَ، وفي مجالسِ المتكلّمينَ، وفي  مواقفِ المطالبينَ والطالبينَ، وأخيرًا في تكايا الصابرينَ الصبورينَ. فإنْ كَتَبَ فللغدِ الأجملْ، وإنْ خَطَبَ فللآتي الأفضلْ. خَرَجَ مصطفى إلى كتابِهِ الجديدِ مِنْ تحتِ قناطرِ بيتِهِ العتيقِ في الطبيعةِ المرميةِ على عفويتِهَا الغارقةِ في بساطتِهَا، وهما صفتان تطلعانِ في كلِّ كتابةٍ لمصطفى: معالجةٌ نقديةٌ واضحةٌ بيّنةٌ جليّةٌ بِجُمَلٍ مشحونة ٍبالنقدِ الأدبيّ والمراجعةِ الفلسفيّة. صعبٌ أنْ تفرّقَ بين قلمِ الأديب عندَهْ وبينَ عينِ الفيلسوفِ، فلا العينُ هنا تقاومٌ مخرزَ اليراعِ، ولا المخرزُ يتجرأُ على مقارعةِ العينِ، فالاثنان عندَهُ يتكاملانِ ويلتصقانِ بحبرِ مَدادِ لا ينَضَبْ.

من هنا نذهبُ إلى النصوصِ النقديِّة لمصطفى الحلوة كالذاهبِ إلى كرومِ الفصول، تختارُ من موسوعيته الجَنى الذي تحبُّه وترضاه. يبدو الكاتبُ كأنّهُ الرائي الذي يملكُ البصيرةَ لا البصر، كأنّكَ تتذكّرُ ما جاءَ في الكتبِ أنّ ” المأمونَ دخلَ على بعضِ بنيه، فوجدَهُ ينظرُ في كتابِه، فقالَ: يا بنيَّ ما في كتابِكَ؟ قالَ: بعضَ ما يَشْحَذُ الذِّهنَ ويؤنسُ الوحْدةَ. فقالِ: الحمدُلله الذي رزقني ولدًا برى بعينِ عقلِهِ أكثرَ مما يرى بعينِ جسدِهِ”.

والطريفُ أنّ مصطفى الحلوة ما زال متمسّكا بالكتابة بالقلم، يضمُّه بأصابعِهِ الخمسِ كي لا يتوهَ، لا يحبّ ُالكتابةَ بأصْبُعِ بل باستعمالِ حواسِهِ كلّها، لكأنَّه موافقٌ لما قاله أبو هلال العسكريّ عن الكتابةِ، في كتابِهِ ديوانِ المعاني:”اختلفَ الناسُ في الخطِّ واللفظِ، فقالَ بعضُهم: الخطُّ أفضلُ من اللفظِ، لأنَّ اللفظَ يُفهِمُ الحاضرَ، والخطُّ يُفهمُ الحاضرَ والغائب”. لذلك ترى مصطفى الحلوة يجلسُ إلى جانبِ نصوصِهِ، يناولُها الحلوى، يجلسها في أرجوحةٍ، تروحُ وتجيءُ، كما الأفكارُ، كما العصافيرُ، لتكشفَ له عن كنوزِها ومضامينِها، يتعامل ُمعها من الندِّ إلى الندِّ، فهو عارفٌ أنّ النصَّ عندما يُكتبُ يخرجُ من المؤلفِ ويصبحُ مَشَاعًا، يستظلُّ أغصانَ أَفكارِهِ آلافُ القراءِ، النصُّ خَرَجَ ولم يَعُدْ.

لذا فإنَّ وَفْرَةَ الكتابةِ عند مصطفى تُشْبِهُ سعيَ الشاعرِ، بعدَ ألفِ قصيدةٍ، إلى القصيدةِ التي لم يَقُلْهَا بَعْدُ، وهي القصيدةُ المستحيلةُ، والنصُّ المستحيلُ، والصورةُ التي لم تكتملْ ملامحُ موضوعِها. لذلكَ استخدمَ “الحلوة” متانةَ اللغةِ العربيةِ، وصلابةِ النظرةِ الفلسفيّةِ انطلاقًا من ما وردَ أيضًا في الكتبِ إذْ سئلُ أحدُهُم:” ما البلاغة؟ قالَ: تصحيحُ الأقسامِ واختيارُ الكلامِ، وفي الفلسفةِ يرى مصطفى صحةَ القولِ ” ورأى بعضُهم شابًا جالسًا على حجرٍ، فقال هذا حجرٌ على حجرٍ”.

من هنا رَفَعَ مصطفى الحلوة على غلافِ كتابِهِ أعمدةً من حَجَرٍ، ولكنّ الجالسينَ عليها أعمدةٌ من لحمٍ ودم. كانوا ثلاثةً، ورابعُهم كانَ مصطفى. اجتمعوا، تطارحوا، تناظروا في “مطارحات” قالت فيها المعاجمُ كالعينِ، وجمهرةِ اللغةِ إنَّها “مسألةٌ يطرحُها الرّجلُ على الرُّجل”، ومن بابِ طَرافةِ الحديثِ: هل من هذا البابِ اكتفى المؤلفُ بدراسةِ آثارِ عشرينَ رجلًا وتسعِ نساء؟ وجاء المصطلحُ أوضح َعند الرزايّ في مختارِ الصَّحاحِ، إذ يقول:” المطارحةُ إلقاءُ القوم ِ المسائلَ بعضُهم على بعضٍ”، والطريف ُأنَّ الجاحظَ ذَهَبَ في رسائله إلى أنّ المطارحة هي الغناء، وكذلك نقل عنه النويري في “نهاية الأرب”، وكذلك الزمخشري الذي قال:” طارحتُهُ العلمَ والغناءَ وتطارَحْنَاه” ويقولُ بطرسُ البستاني في محيطِ المحيطِ ” وأصلُ المطارحةِ في الغناء”، واتّضحَ لاحقًا انَّ المطارحةَ الأدبيّةَ أبعدُ مأخذًا وأوسعُ مدى من المناظرةِ. فالمطارحة أوضحها مع مصطفى الحلوة إذ تأتي من الطرحِ والمساءلةِ والنقد والمطرحِ الذي يصير مِنصةً ثقافيّة حضاريّة في رواقٍ مشّاءٍ، أو جليسٍ للفكر ِالعربيِّ المعاصر ِما بينَ مراجعاتٍ نقديّةٍ في الخواطرِ والكتابةِ الإبداعيّةِ وفي السيرةِ الذاتيّةِ والفلسفةِ والأديانِ وعلم التاريخِ، إضافةً إلى مجموعةٍ من البحوثِ والدراساتِ ذَهَبَ إليها المؤّلفُ عازفَ مزمارٍ، يقودُ النصوصِ إلى شلالاتِ الماءِ الحيِّ لتغتسلَ ” فورَّدَ وَجْهَهَا فُرْطُ الحياءِ”.

وردَ في تاريخِ الأدبِ لَقَبٌ لشاعرٍ عباسيًّ اختارَهُ بنفسِهِ لنفسِهِ “كُشاجم” جامعًا حرفَ الكافِ من كاتبٍ، والشينِ من شاعرٍ، والألفِ من أديبٍ، والجيمِ من الجدلِ، والميمِ من المنطق، ولما أتقنَ الطبَّ أضاف حرفَ الطاءِ إلى أوَّلِ اسمِهِ، لكنَّ اسْمَ “كُشاجم” هو الذي بَقِيَ سائرًا. مع نصوصِ مصطفى الحلوة، أنتَ خارجٌ إلى وادي الجواهرِ والدررِ، كما السندبادُ، تحتارُ ماذا تختارُ، حتى يصحُّ جَمْعُ الأحرفِ الأولى لكتابة “الحلوة” بـ (جُمان) ؛ الجدلِ والمنطقِ والأدبِ والنقد.

ختامًا ما بين عَدَسَةِ الشاشةِ وعَدَسَةِ النصِّ ما الفرقُ بينهما؟ إنّ قرأتَ نصوصَ “حلوة” تُدْرِكُ أنَّكَ تُرَاقِبُ الكلامَ، وتَرْسُمُ الصورَ، وتحاكي ما ذهبَ إليه “مصطفى”، أمّا في القراءةِ الإلكترونيّةِ فأنَتَ مُرَاقَبُ، تَشْعُرُ بعينٍ تُتَابِعُكَ من بُعْدِ، أو مِنْ قُرْبٍ. أِنْتَ مَعَ الورقِ سيدُ الأحرفِ في حضرةِ أميرِ بيانٍ، أو فلسفةٍ، أو لغةٍ، أمّا نصُّ الشاشةِ فأَنْتَ أَمَامَهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَواسِكَ، وأَصَابِعِكَ، وَمَلْمَسِكَ. اذْهَبْ إلى الكتابِ، كما فعل الكاتب مصطفى الحلوة والمهندسة ميراي شحادة رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافيّ، فالكتابُ، وإنْ بَدَا اليومَ رقميًّا على حسابِ الورقْ، لكنَّهُ أَبْقَى وأجملَ وأرقْ.

​​​​​​​​والسلام

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *