د. مصطفى الحلوة… “درويش” في خليّة النّقد

Views: 255

 د. غادة السمروط

 

مصطفى الحلوة، أستاذ الفلسفة، وأستاذ الأدب والنّقد الأدبيّ.

“مطارحاتٌ في أروقة المعرفة“، كتاب موسوعة تضاف إلى موسوعاته السّابقة، تكملها وليست آخرها. يشكّل العنوان اللبّ من كلّ كتاب. هو موجز للمضمون لا إيجاز بعده. إلّا أنّنا هنا أمام عنوان مثير للسّؤال، فكيف تكون المطارحات في أروقة المعرفة؟

ننظر إلى صورة الغلاف حيث أهمّ فلاسفة اليونان ورواق أرسطو، فنعود إلى المدرسة المشّائيّة الّتي اعتمدها أرسطو مع تلامذته ليكونوا في حالة يقظة تامّة، وبالتّالي ليكون العقل سيدَ القول والمنطق في أحكامهم. وهذا ما سارع  أستاذنا إلى تبيانه في مقدّمة الكتاب، ليقول لنا إنّ العقلَ ركيزةُ ما تحويه صفحات كتابه من معرفة،وبالتّالي إنّ”الأروقة” ليست فقط للمطارحة بل للقول إنّ كلّ ما يقال أو يُكتب يجب أن يقع من المعرفة في أروقتها. وهذا أمر لم يسبقه إليه أحد. كيف لا! وهو أستاذ الفلسفة، العارف بالقراءة وبالمعنى وبالمعرفة، التي يصعب الدّخول إليها، ندور في أروقتها ونبحث. وهذا ما فعله الحلوة، فكانت مطارحاته، مطارحاتٍ أدبيّة نقديّة، وليست مصارعاتٍ غايتها الغلبة وإخضاع الآخر، بل إخضاع النّصّ لقواعدِالنّقد العلميّة، وتبيان ما له وما عليه. وكان هو كالسّحابة يلقي على الورق أرواقه[1] ويلحّ بالمطر، ويَجِدّ، فنرانا أمام رَوْق من النّقد والكتابة الأدبيّة، وسيلٍ من الفكر لا يجود به إلّا العارفون بالفلسفة.

   أنت تدخل الموسوعة فتحسب نفسك في قلعةٍ تتردّد إلى مسمعكَ أصداءُ فكرٍ وأدبٍ وعلم، تأتي كلّها من ينابيع ومناراتٍ ساطعةٍ في الفلسفة والأدب، ما يوسّع أفق المعرفة عندك، وما يدل على الثّقافة العالية الّتي يختزنها الحلوة في شخصه وعقله، والّتي هي أساس أبحاثه ومنطلقها، هي عصا يتّوكّأ عليها في قراءاته الجادّة الرّصينىة، ويهشّ بها على ما يراه اعوجاجًا وخللًا.

 

تتابع التّوغّل في هذه الموسوعة فتؤخذ بما تحويه من مضمون أدبيّ،وتذهب بك الكلمات، تارةً، إلى أغصانٍ تورق في زاويةٍ من الذّاكرة.وطورًا، إلى عطر ياسمينٍ يفوح في ثنايا الأمنيات. وتارةً أخرى، إلى أحلامٍ تنتظر على مجذافَيْ مركبٍ في بحر الميناء، ومنها أيضًا ما يذهب بكَ إلى نورٍ يبوح به زيتون طرابلس، يتردّد انعكاسه مع ما يجود به زيتون الكورة الخضراء الّتي إلى شاعرها عبدالله شحادة،أهدى الحلوة كتابه امتنانًا منه لإصدار منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده هذه الموسوعة، وفي هذا نبلُ أخلاقٍ وتواضعُكبار.

    وكما موسوعاتُه السّابقة، “مطارحاتٌ في أروقة المعرفة” كتاب نموذج في النقد،مرجِعٌ لكلّ من هتف قلبه للنّقد الرّصين والمنهج العلميّ. يشكّلْ محطّة أساسيّة في الكتابة النّقديّة.يأخذنا فيه عناق الأدب والفكر واللغة والهندسة، يبوح بموضوعيّة علميّة، يحرص الحلوة أن لا يزيح عن دربها. ترى البناء فيه مقسّمًا إلى دوائر، تأخذكَ فيها العناوينُ وترقيمُها، ويُبهرُكَ انسيابها المنطقيّ إلى القول الحكَم، بشكل يفرض واحده الآخر. وفي هذا يدخل المرئيّ االهندسيّ في اللامرئيّ الفلسفيّ، يعزّز أحدها الآخر. فندرك أنّ الدّكتور مصطفى يعزف على الموضوعيّة وأوتار العقل المنير، ويعزِف عن الذّاتيّة، في أروقة القراءة النّقديّة والتّحليل العلميّ، فتنبسط السّطور أمامه، تصّاعد منها ومَضاتُ الفكرالنّبيه،المُصغي للقراءة المتأنيّة والرّأي السّديد الّذي لا لَبس في أحكامه، وينبسط أمامك أفق القراءة والأدببين التّفسير والتّحليل والنّقد.نراه يبني بالكلمة ما يعجز عن هدمه أحد، يبني صروحًا من كلماتٍ يتغنّى في أروقتها الفكر، كلّها بلغة ممشوقة القامة، جزيلة السّلوك، بليغة الوقع.

ولا يخفى على قارىء هذه المطارحات النقديّة أنّ صاحبها كقفير نحلٍ، دائمُ الحركة، فهو المكدّ المجدّ، يقرأ، يحلّل، يفكّك، يدقّق، يغربل،، يرتمي على الكلمات بنَهم المبحر، يستخرج منها مغامرات الفعل والقول.يردّ النّصّ إلى هيكله، ثمّ يعيد بناءه، فترى النّصّ الأساس والنّصّ التّحليليّ، وجهًا لوجه في مرآة النّقد الموضوعيّ. كلّ ذلك بأسلوب يتفرّد به هو، يتنفّس هواءً يهبّ من ينابيع عريقة في القراءة، حتّى يقدّم إلينا وهجًا يميّز كاتبه بحرفيّة عالية، تُخضع الكلام لقوانينِ هندسته الدّاخليّة.

 وإذا كانت الكتابة الموضوعية العلميّة ترتدي لغة جافّة، لا طراوة فيها ولا نسغ، إلّا أنّ الحلوة، بسحر بيانه، يصبّ عليها من زيت لغته وبلاغته وأسلوبه الخاصّ، حيث نؤخذ في أحيانٍ كثيرة، بجمال الاستعارات، وسيل العبارات، وجزالة الكلمات، وبما يبوح به قلمه، ونغيب عن ذاتنا حتى الوجد، في قراءة ما يقول من تحليلٍ يزاوج بين العقل والقلب، بين “القشرة واللبّ“، ونطرب في أروقة الفكر، على وقع حديقةٍ من كلمٍ دائمة الاخضرار، لا يعتريها ذبول، خاصّةً حين يؤخذ هو بالنّصّ الذي يقرأ، ويروح من المجاهدة إلى المشاهدة، دون ان يطأ قلمه ردهات الذّاتية، ودون أن تزلّ أحكامه في انطباعات عفويّة.

 

هو المصطفى لإعادة مجد اللغة والفكر والفلسفة الّتي هبطت كلّها  في هذا العصر.

تراه في هذه الموسوعة وفي سابقاتها،  ثلاثةٌ رفاقُه: القلم والورقة وكتاب يقرأه، يتعمّق فيه معنى وتحليلًا، ليرتفع به في فضاء النّقد العلميّ.

هو الحَكَمُ، يقرَع العصا للكاتب الّذي يقرأه، ولا يُقرِّعه بالرّمح.لا يتساهل في هفوة قلم أو سقطة عبارة،  واثق من كلّ كلمة يسطّرها قلمه. يغرف من الفكر ومن ثقافته وسعة اطّلاعه، يسكب في قوالب البلاغة فتستقيم حللًا من فلسفة وأدب. تراه درويشًا في خليّة النّقد، يسير بالكتاب تجريدًا من كلّ ما يشوبه، حتّى يتفرّدَ بما يقبض عليه من خلاصاتٍ وأحكام يبسطها أمام القارىء.

  قليلٌ مهما قيل في مصطفى الحلوة وعنه. وكثيرٌ ما يقوله عن أديب يقرأه. هنيئًا لكلّ من ورد اسمه تحت قلمه، فيكون دخل سجلّ الأدب واللغة من بابه الأوسع، باب الحَكَم العدل، سواء أثنى عليه أم لم يثنِ.

فلا تعجب يومًا إذا دخلتَ مدينة طرابلس، مدينةَ العلم والعلماء، تتنزّه في ساحاتها، ورأيتَ في أبهى هذه السّاحاتصورة رجلٍ على كرسيّه،قلمٌ في يده، وعلى طاولةٍ أمامه ورقةٌ،وموسوعاته النّقديّة والفكريّة. والنّاس حجيجٌ إلى هذا العرش الأدبيّ، حيث تقرأ:

رجلٌ أعاد للمدينة اسمَها، وللأمّة مجدَها،

في اللغة والفكر والأدب،

مصطفى الحلوة .

أطال الله في عمرك د. مصطفى، وإلى مزيد من الموسوعات تخرج من يديْ ماردٍ جبّار في المعرفة، يسكنها وتسكنه.

***

[1] أرواق جمع روْق، وهو سيل السّحاب

*ألقيت في حفل تكريم منتدى شاعر الكورة الخضراء الباحث الدكتور مصطفى الحلوة احتفاء بإطلاق كتابه “مطارحات في أروقة المعرفة مراجعات نقدية وبحوث في الفكر العربي المعاصر” في “أوديتوريوم الزاخم” حرم جامعة البلمند- الكورة. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *